"نظريّة المؤامرة".. بين الواقع والأسطورة

د. خالد صلاح حنفي*
يميل العقل البشريّ إلى القَصص لاستيعاب الواقع، وربْط التفاصيل ونسْجها لتفسير الأحداث والوقائع. ومع تفاوت الناس في درجة إدراكهم، فمنهم مَن لا يلاحظ شيئاً أصلاً، فلا يَجد أيّ معنى في حياته، ومنهم المهووسون بالمؤامرات الذين يُنقّبون في كلّ جزئيّة في الحياة عن تفسيرٍ ومعنىً، ويعتقدون أنّ كلَّ حَدَثٍ عابرٍ جزءٌ من مخطّطٍ مُحْكَمٍ يَستهدفهم. وفي الوسط بين الهَوَس وعدم الاكتراث، ثمّة أُناسٌ لا يُغالون في تصديق نظريّات المؤامرة التي تُفسِّر غرائب الحياة والظواهر الكبرى بناءً على قناعاتٍ شخصيّة تشكَّلت ونُسجت دونما دليل، كادّعاء زيف هبوط الإنسان على سطح القمر، وأنّ الأرض مسطَّحة، وغيرها من الأخبار والتقوّلات.
تعتمد نظريّات المؤامرة وفقاً للعالِم السياسي مايكل باركون على فكرة أنّ الكون محكوم بتصميمٍ ما، فلا شيء يَحدث بالمُصادفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكلّ شيء مُرتبط بعضه ببعض. وتتغيَّر هويّة المتآمرين في نظريّات المؤامرة بتغيُّر الثقافة والسياق. فَهُم سَحَرةٌ أو ماسونيّون أو متنوّرون أو فضائيّون، أو سوى ذلك؛ فالبشر صنفان: متآمِرون ذوو خطط فتّاكة، ومتآمَرٌ عليهم. وهؤلاء نوعان: سوادٌ أعظم من الجَهَلة لا يتنبّهون إلى المؤامرة، وقلّةٌ يقِظةٌ تُميِّز الحقيقةَ وتُبصر الخلاص. وتَصِفُ نظريّاتُ المؤامرة المُصدّقين لها بصفاء البصيرة، فهُم النّخبة النّاجية التي فهمتِ المؤامرة، وانحازتْ إلى الصواب والصلاح المعرفي والأخلاقي.
وعلى الرّغم من وجود المؤامرات في حياة البشر في العلاقات الأُسريّة، وبيئة العمل، وسراديب الحكومات، ودهاليز الأحزاب السياسيّة، وصفوف الجيوش، وأجهزة المخابرات، إلّا أنّ ذلك لا يُبرِّر تعميمَها على الإطلاق؛ فهذه المُبالَغة تَطمس التباسات الواقع وتعقيداته، وتُعيد كلّ شيء إلى سببٍ رئيس واحد. كما تُبرِز حبكة واحدة جامِعة بدلاً من ملايين الحبكات المتشابكة. وهنا مربط الفرس، فنظريّات المؤامرة تمنحنا مفتاحاً سحريّاً نفتح به مُختلف الأساطير ونُفسِّر غوامض الأمور.
ويرى أنصار نظريّة المؤامرة أنّ الأحداث الظاهرة ما هي إلّا رموزٌ ذات معانٍ سريّة، والخديعة مبدأ كوني، والحقيقة تنكشف لثلّة من الأخيار فقط. ومع تنامي شهيّة البَشر للحكايات الشيّقة الممزوجة بالدعاية السياسيّة المنظَّمة وفلسفات "ما بعد الحداثة"، نصل إلى مرحلة انهيار المعنى. فلا شيء حقيقي، وكل شيء مُمكن، إذ إنّ الدعاية السياسيّة اليوم، لا تَهدف إلى ترسيخ سرديّة محدَّدة على أنّها حقيقة، بل إلى خلْق التشويش وتقويض إمكانيّة الفعل الإيجابي.
وتتأرجح نظريّات المؤامرة هبوطاً وصعوداً باختلاف الزمن والثقافة، لكنّها تتصاعد عندما يشعر الناس بالارتباك والخوف من التغيّرات الاجتماعيّة السريعة التي قد تحفّزها تقنيّات التواصل الجديدة. قديماً تزامنَ انتشارُ المطابع في أوروبا مع الهوس بمُطارَدة الساحرات، الذي وصل إلى ارتكاب المجازر الجماعيّة. أمّا في القرن العشرين فقد أَسهمتِ الصحفُ والإذاعات في إفشاء الحديث عن المخلّصين والأعداء والضحايا المُحتمَلين، واليوم سهَّلَ الإنترنت نشوءَ مجتمعاتٍ عابرة للحدود تُنظِّر للمؤامرة وتفاصيلها.
ويتكوَّن جمهور نظريّة المؤامرة المثالي من أشخاص يصيبهم العجز وسط التغيّرات المتتابعة، ويرون أنّهم غير مُسيطرين على مجريات الأمور التي يَتحكّم بها آخرون لا يعرفونهم ويتعاظم لديهم الشعور بتخلّي الآخرين عنهم. ينطبق ذلك أيضاً على شعوب الأنظمة الديكتاتوريّة، ما يعني أنّ التخلّف السياسي يُهيّئ المناخَ المناسب للمؤامرات.
وتنتشر "نظريّة المؤامرة" في أنحاء العالَم، والتي يبدو أنّها باتت تَرسم سياسات الدول وتبلْور ثقافة الجماهير؛ فقد بَدأ قرنُنا الحادي والعشرون بـ "حرب عالميّة على الإرهاب" التي اختزلَت عشرات النّزاعات المسلّحة في قصّةٍ سرديّة مُتجانسة خارج السياق جعلَتْها حَرباً بين فرسانٍ صالحين ومُتآمرين شيطانيّين. حرب لم يُنظر إليها على أنّها نظريّة مؤامرة أو شعارٌ تسويقي.
عصر "ما بعد الحقيقة"
وبعد عقدَيْن صارَ دونالد ترامب زعيماً لما سمّي بـ "عصر ما بعد الحقيقة"، الذي يلتبس فيه الحقّ على الناس مع كثرة المعلومات، وقد وظَّف ترامب وسائل التواصل الاجتماعي بتأييده نظريّة مؤامرة تدّعي أنّ النّخبة اللّيبراليّة المتآمرة أَخفت أنّ باراك أوباما لم يكُن مؤهَّلاً للترشُّح إلى الرئاسة، لأنّه لم يولد في الولايات المتّحدة، وصوَّرَ ترامب نفسَهُ على أنّه من عامّة الناس وضحيّة للجماعات الخبيثة، ولوسائل الإعلام التي تبثّ الأخبار الكاذبة. وبذلك حيَّدَ ترامب الصحافةَ الاستقصائيّة، وعطَّلَ قُدرتَها على قول الحقيقة مُعلِناً أنّ أكاذيبه هي الحقيقة مهما تناقضَتْ. وقد استفادَ ترامب من حركة "كْيو أنون"، وهي سلسلة نظريّات مؤامرة تَدّعي أنّ شخصيّاتٍ بارزة كهيلاري كلينتون متورِّطة في التحرُّش والاتجار بالأطفال، وأنّها تتآمر على رئاسة ترامب أيضاً، وأنّ الحزب الديمقراطي زوَّرَ نتائج انتخابات العام 2020 بالتحالف مع جهاتٍ تنتمي إلى الدولة العميقة. وقد آمنَ بهذه الادّعاءات 53 في المئة من مناصري الحزب الجمهوري، أي ملايين من الشعب الأميركي كما جاء في استطلاع لوكالة رويترز وشركة إبسوس.
تتوارى العنصريّة وراء كثيرٍ من مشروعات ترامب السياسيّة، ومنها نظريّته عن أوباما والوعد ببناء جدار على حدود المكسيك وحظْر دخول مواطني بعض الدول إلى الولايات المتّحدة، وتبنّيه النسخة الأميركيّة من نظريّة مؤامرة "الاستبدال العظيم"، التي تؤكِّد أنّ الحزب الديمقراطي وغيره من اللّيبراليّين يهدف إلى تدمير الأكثريّة الأميركيّة باستبدال الأميركيّين البيض بمُهاجرين ملوّنين ينتمي أكثرهم إلى "حثالة الدول"، كما وصفهم ترامب. ويُظهر استطلاعٌ لموقع "يوغوف" أنّ 61 بالمئة من ناخبي ترامب و53 بالمئة من مُتابعي قناة "فوكس نيوز" يُصدّقون هذه النظريّة.
وتدّعي النسخة الأوروبيّة من نظريّة "الاستبدال العظيم" أنّ المسلمين يشكّلون تهديداً سكّانيّاً، كما يقول رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان. وقد تبنّى مرشّحو اليمين المتطرّف نظريّة المؤامرة هذه أثناء الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة في فرنسا، وكرَّرتها مرشّحةُ يمين الوسط فاليري بيكريس لاستقطاب ناخبي اليمين المتطرّف. وبالمِثل؛ ادّعى الرهبان البوذيّون في دولة ميانمار(بورما)، أنّ ضحاياهم من فقراء وصيّادي الروهينجا وفلّاحيها يُمثّلون تهديداً سكّانيّاً منظّماً قضى على البوذيّة في بعض المناطق، ولاسيّما في باكستان وأفغانستان.
ويبدو أنّ نظريّات المؤامرة ميدانٌ مُشترَك بين اليمين واليسار؛ فبعد إخفاق اليساريّين في تطوير فكرٍ اقتصادي واجتماعي يُلائِم العالَم المُعاصِر، انتقلَ بعضُهم من التحليل المادّي إلى التحليل الغَيْبي، وتحلّوا بهوَسِ الصراعات بين الدول. فقد لَجأ جيرمي كوربين ونعّوم تشومسكي إلى تحديد فسطاط الشرّ في الولايات المتّحدة، وبريطانيا وإسرائيل، ثمّ قاما بالدعوة إلى دعْم فسطاط الخير الصامد في وجه هذا العدوّ الإمبريالي. وبالطبع؛ فإنّ العالَم أكثر تعقيداً ممّا توحي به هذه النظرة البسيطة؛ فاليساريّون الذين يرون الإمبرياليّة الأميركيّة مَنبعَ الشرّ، عاجزون عن الإقرار بخَطَرِ الفاشيّة الصربيّة على أبناء البوسنة وكوسوفو، في حين أنّهم يلومون حِلف شمال الأطلسي على ما حصلَ في البلقان. ويُشوِّه مُعادو الإمبرياليّة كلَّ ما لا يتماشى مع ثنائيّة الفسطاطين، الطاغوت الأميركي وضحاياه في العالَم الثالث، فيتجاهلون كلَّ ما يتناقض معه أو يُحرّفونه أو يُعيدون تفسيره بما يَنسجم مع مُعتقداتهم.
لقد تحوَلتْ نظريّةُ المؤامرة مع مرور الوقت إلى إيديولوجيا في الذهنيّة العربيّة، وأصبحت منهجَ التفسير الأساسي للأحداث والوقائع، ويعود ذلك لأسبابٍ عدّة منها السياق الزمني الطويل للهزيمة والانكسار الذّاتي والجمعي الذي أَوجد بيئةً خصبة للتعايُش مع نظريّة المؤامرة لعقودٍ طويلة من الانتكاسات؛ فتحوَّلت من أداة تحليل غير علميّة إلى عقيدة وأيديولوجيا لدى فئاتٍ ليست قليلة من الناس في مُجتمعات منطقتنا، إذ تعاني المجتمعات العربيّة من مشكلاتٍ شتّى، ولها أسبابها، وبَدلاً من أن تُحمِّل نفسَها أو الفسادَ العامّ مسؤوليّة الإخفاقات الاقتصاديّة والعسكريّة والسياسيّة، يسهل عليها اتّهام المخطّطات الخارجيّة أو التحريض على الأقليّات الطائفيّة. وبسبب تفشّي الإحباط والرقابة والخوف، تنتشر قصصٌ تعكس الهموم المحليّة، ثمّ تتحوَّل إلى تفسيراتٍ طريفة للأحداث العالميّة. خير مثال على هذا الفترات الأولى لتفشّي وباء كورونا (كوفيد-19)، ونظريّة أنّ شركات الأدوية متآمرة علينا بتصنيع وباء كورونا من أجل كسب الأموال.
إنّ انتشار "نظريّة المؤامرة" والأخبار الكاذبة بأشكالها بين أفراد المجتمع، تدعمه البيئة الاجتماعيّة، والجهل بالقصّة المنشورة، وانعدام الوعي بأهميّة التحقُّق من صحّة ما يراه الفرد، وتجاهُل الحَذَر من إعادة النَّشر قَبل التأكُّد من صحّة ما يُرى أو يُشاهد، وعمليّة نشْرها عن عمد أو من دون قصد هو فعلٌ تضليليّ ينبغي، في سبيل مكافحته، تقوية مناعة المتلقّين للأخبار الكاذبة بالتوعية بأخطارها في المقام الأوّل، ونشْر الوعي بأهميّة التحقُّق من كلّ ما نراه، أو على الأقلّ اللّجوء إلى الخُبراء، وتحليل الأخبار الزائفة، إضافةً إلى أهميّة معرفة أنّ خداعنا بما هو منشور قد يأتينا في أشكالٍ مختلفة من دعايات وكذب وإشاعات.
وعلينا الآن أن نتذكّر دائماً، وأن نُذكِّر مَن حولنا، بأنّ الأحداث ربّما تقع من تلقاء نفسها أو بمنطقٍ معقّد لا نستطيع إدراكه؛ فالحياة أعقد من قدرتنا البشريّة على الإحاطة بفهْمِها، وبأنّه لا سيطرة مطلقة فيها لمرءٍ بعيْنِه، وبأنّه لا وجود للأخيار والأشرار، بل للبشر. فالأخيار أنفسهم أشرارٌ حيناً أو بجوانب ما والأشرار أخيارٌ أحياناً أو بجوانب أخرى. لا شيء ثابت، كلّ شيء يتغيّر باستمرار، وليس هناك من طُرُقٍ مُختصَرة لفهْم الأمور. وكما قالت حنّة آرنت يوماً: "التفكير لا يؤدّي إلى الحقيقة؛ إنّما الحقيقة هي بداية الفكر".
*أستاذ أصول التربية- جامعة الإسكندريّة - مؤسسة الفكر العربي
______________________
تعليق خبير الإعلام الإستراتيجي بوكالة بث
بين الواقع والأسطورة، تبقى نظرية المؤامرة إحدى أكثر الظواهر تأثيرًا في تشكيل الرأي العام، لكن كيف يمكننا التمييز بين الحقيقة والوهم في عالم تملؤه المعلومات المتشابكة؟
نظريات المؤامرة لم تكن يومًا مجرد أفكار هامشية، بل كانت ولا تزال انعكاسًا مباشرًا لحالة عدم اليقين التي تصيب الأفراد والمجتمعات، خاصة في فترات الأزمات والتحولات الكبرى. في عالم اليوم، حيث تتداخل الحقائق مع الأكاذيب، وحيث تسيطر العاطفة على المنطق، أصبحت نظريات المؤامرة أداة تُستخدم أحيانًا بوعي، وأحيانًا أخرى بدافع الخوف من فقدان السيطرة على الواقع المعقد.
لكن المشكلة الحقيقية ليست في وجود المؤامرات—لأن التاريخ يثبت أن هناك دائمًا مخططات وتحالفات سرية—وإنما في تعميم فكرة أن كل شيء في الحياة مدبَّر سلفًا. هذا التفكير لا يُلغي فقط مبدأ التعقيد والتداخل في الأحداث، بل يُضعف أيضًا قدرة الأفراد والمجتمعات على اتخاذ قرارات عقلانية مبنية على الأدلة، لا على الافتراضات العاطفية.
نحن اليوم أمام مرحلة جديدة من "العالم المعلوماتي" حيث لم تعد الحقيقة شيئًا يُكتشف، بل باتت شيئًا يُعاد تشكيله وفقًا للمصالح. في هذا السياق، يصبح الإعلام المستقل القائم على التحقيقات العميقة والتحليل العلمي حجر الأساس في مواجهة التلاعب بالسرديات. العالم الجديد لن يكون حكرًا على القوى التقليدية، بل ستقوده الدول والمؤسسات القادرة على إنتاج المعرفة الحقيقية، وفك شفرة الفوضى المعلوماتية التي نعيشها.
🔹 الحل؟ بناء ثقافة "التحقق" قبل التصديق، وتعزيز التفكير النقدي، والتمييز بين "المؤامرة الحقيقية" و"نظرية المؤامرة". فالأولى حقيقةٌ يمكن كشفها، والثانية مجرد وهم يستهلك الطاقات، ويُبقي الشعوب في حالة انتظار لعدوٍ خفيٍّ، بدلاً من التركيز على بناء المستقبل.