العيش حتّى 150 عاماً وأكثر

محمود برّي*
مجلّة "نيتشر" العلميّة البريطانيّة نَشرت مؤخّراً نصّاً يفيد عن تمكُّن عُلماء بريطانيّين من إعادة البصر إلى فئران عمياء.
الخبر مرّ خجولاً في عالَمنا العربيّ وسط الكمّ الهائل من الأحداث الشاغلة، من دون أن يجد الكافي من الاهتمام، حيث من المُستبعَد توفُّر وقتٍ للاهتمام بالفئران، بينما الناس أنفسهم منشغلون في خضمّ قضاياهم المُتناسِلة هموماً.
لكنّ هذا لا يلغي أهميّة وضرورة الوقوف مليّاً على وقائع هذا الخبر - الإنجاز، لما له من انعكاسٍ مباشر على الإنسان في كلّ مكان، بخاصّة أنّه يصدر عن جهةٍ علميّة مُعترَف بجدّيّتها ورصانتها. فنجاح العِلم في تحقيق هذا النوع من المعجزة المُذهلة بمستوى إعادة البصر لمكفوف، ليست أمراً يجوز التغافُل عنه، وبخاصّة حين يُضاف إليه خبرٌ آخر في المضمار ذاته، يزيده تجلّياً وإبهاراً. فقد تسابقت وسائلُ الإعلام الأميركيّة والعالَميّة عموماً على نَشْرِ وتعميم خَبَرٍ يقول إنّ فريقاً علميّاً مستقلّاً من مختبراتٍ في مدينة بوسطن الأميركيّة، اجترحَ ما يستحقّ لَقَبَ "الإنجاز التاريخي" حين استطاع تحقيق خطوة بارزة إلى الأمام تمثّلت في اختراقٍ بالغ الأهميّة، ليس في إعادة البصر لفئرانٍ عمياء متقدّمة في السنّ فحسب، بل أيضاً في... تجديد شباب تلك الفئران واستعادتها حيويّتها وتطوير أدمغتها أيضاً لتُصبح أكثر قدرةً وذكاءً.
الحدث جاء مُحيِّراً وغير متوقَّع... وعصيّ في بعض الأوساط عن الجدّيّة والتصديق، إذ لطالما كانت "عودة (و/ أو) إعادة العجوز إلى صباه" حُلمَ البشريّة الأثير ممّا جاء في سياق خرافات الكيمياء الكاذبة (الخيمياء) المستحيل تحقيقه منذ بواكيرها. وما رفعَ درجةَ الذهول والتشوُّق ما جاء في التقرير العلمي الصادر عن المُختبر الأميركي إيّاه، من أنّ هذا الإنجاز "فَتَحَ باب الأمل لتطبيق ذلك على البشر.." وهنا لبّ الموضوع.
لا بأس لو تركنا للمخيّلة بعضَ الفرصة في هذه العجالة؛ إذ من المُحيِّر والمُحرِج في الوقت عَيْنه أنْ يَخرجَ شابٌّ مثلاً في رحلةِ صيدٍ بَحريّة مع والده الذي بات لا يقلّ شباباً عنه! كذلك لن تكون قابلة للتصديق حكاية طفل يتنافس على لعبةِ كومبيوتر مع جدّه الذي بات يصغر حفيده بأشهرٍ عدّة!
المسألة هنا تتجاوز كونها نَوعاً غير مسبوق من الإنجاز العلمي. فهي تتّصل بنقطةٍ أكثر أصالة وعُمقاً في اليقين البشري المُتوارَث عبر التاريخ والعصور، وهي ما يعني المفاهيم العقليّة - الاجتماعيّة المترسِّخة في ذات المخلوق المنتصب - الذكيّ منذ الأزل، وأبسطها مفهوم التقدُّم في العمر، والبلى الذي يُلحقه تقادُم الزمن بجسمِ الكائن البشري وبالحواسّ والعقل والقدرات والكفاءات.
لكن، بالعودة إلى وقائع مجريات الأمور على المستوى العلمي، نَجِدُ الإنجازاتِ المُستجدَّة بالانتظار لإخراج المُتابِع عن سياق تخيّلاته. أوّل هذه الإنجازات ما حقَّقه في هذا المبحث ذاته، عالِمُ الوراثة الأسترالي الأصل "ديفيد سنكلير" مدير "مركز بول غلين لأبحاث بيولوجيا الشيخوخة" في كليّة الطبّ التّابعة لجامعة "هارفرد" الأميركيّة، وأستاذ عِلم الوراثة في "معهد بلافاتنيك" في كليّة الطبّ في الجامعة ذاتها.
الشيخوخة مرضٌ قابلٌ للعلاج
"سنكلير" ذَهَبَ بعيداً في أبحاثه في تطوير الأدمغة البشريّة من خلال الخلايا الجذعيّة، وذَهَبَ مباشرةً نحو الهدف العظيم، فأعلَنَ وسط دهشةٍ عامّة عن اعتقاده بإمكانيّة علاج الشيخوخة ذاتها. قال إنّنا في هذا المجال العلمي "نميل الى الافتراض بأنّ تقدُّمَنا في السنّ وشيخوختنا لا تَنتج عن تَلَفِ الخلايا بشكلٍ لا رجعة فيه، بل هو ناتج عن فقدانٍ للمعلومات وخَلَلٍ في قدرة الخليّة على قراءة حمضها النووي الأصلي. لذا فهي تنسى كيفيّة العمل، فتتلف بالطريقة نفسها التي قد تتلف بها البرامج القديمة على أجهزة الكومبيوتر (...) لكنّنا اكتشفنا أنّ أجسادنا تحتوي على نسخةٍ احتياطيّة من خلايا الشباب، وأنّه من المُمكن تحفيزها على تذكُّر مهمّتها، وبالتالي التجدُّد".
بعد قراءة هذه العبارة أكثر من مرّة، يتجلّى مستوى من الحقيقة لم يسبق التطرُّق إليه. فماذا بعد في جعبة "سنكلير"؟
في إعلانٍ له فريد بدا على حافّة الجنون، قال "إنّ الشيخوخة هي حالة مَرَضيّة"، وبالتالي فهي "قابلة للعلاج، وسيكون علاجها أسهل من علاج السرطان"، مؤكِّداً أنّ "تجديد العُمر والجسد البشريّ سيبدأ في العَيْن وفقدان السمع والخَرَف، ثمّ العضلات والكلى" (...) وأنّه "لا يوجد قانونٌ في عِلم الأحياء ينصّ على أنّه من المحتَّم على الإنسان التقدُّم في السنّ بهذه الوتيرة التي نشهدها".
لولا ألقابه العِلميّة وأبحاثه الباهرة المشهود لها، لما كان لكلامه ذلك الصدى الواسع في الأوساط العلميّة. لكنْ لو ذهبنا معه على هذا الطريق، لوجدناه يُطمْئنُنا أنّ التغيُّر في الطبّ، في ما يتّصل بالشيخوخة وعلاجها، قادمٌ لا محالة، مؤكِّداً أنّ الشيخوخة "ليست حتميّة"، على الرّغم من أنّ 90% من أسباب الأمراض هي الشيخوخة التي تتسبَّب في وفاة 150 ألف شخص سنويّاً في العالَم (...). ويُتابع أنّه "في العقد المُقبل سنَشهد تغيُّراتٍ حول ما نستطيع أن نُنجزه في أعمارنا، وأنّ القرن الـ 21 سيكون قرن التحكُّم بالأعمار والسيطرة على التقدُّم في السنّ".
للوهلة الأولى يبدو هذا الكلام من نَوع الخرافات العلميّة الجديرة بأفلام التشويق والإثارة؛ لكنّ "سنكلير" لا يكتفي بهذا ولا يكفّ عن الإدهاش. يقول مُفصِّلاً إنّ "في جسدنا نسخة احتياطيّة من المعلومات المُفتقدة، وإنّ إعادة تشغيلها في الجسد ليست مستحيلة..."، وإنّه "من خلال تشغيل 3 جينات جنينيّة، تسمّى (O و S و K)، نَجَحَ عمليّاً مع فريقه العلمي في إعادة عمر الأنسجة إلى الوراء بنسبة 75% في غضون ستّة أسابيع فقط، ما يعني أنّه بالإمكان أن تَعكس الخلايا العجوز عمرها لتعود شابّة".
وأضاف أنّ "ما يُمكن فعله لمُساعدة البشر على مُحاربة الأمراض وإطالة سنوات عمرهم مهمّ للغاية (...). وإذا كان من المُمكن بالفعل إعادة ضبْط البرنامج الذي يتسبَّب في تقدُّمِنا في السنّ، فقد يكون علاج الشيخوخة أسهل ممّا يَعتقد معظمُنا، ومن المُحتمل جدّاً أن يكون أوّلُ شخصٍ سيعيش حتّى 150 عاماً وأكثر، مولوداً اليوم بالفعل". وتابَعَ: "لقد استطعنا إعادة البصر إلى الفئران المُسنّة وتحسَّنت الأعصاب البصريّة لديها، كما نجحنا في استعادتها لشبابها، فلماذا لا نفعل ذلك مع البشر؟... هذا سؤال قد نضطرّ للإجابة عنه قريباً".
وفي باب الإرشادات التي يُوجِّهها في صدد مُواجَهة التقدُّم في العمر، يركِّز الدكتور "ديفيد سنكلير" على "أهميّة الإقلال من كميّة الطعام التي نتناولها، والامتناع أيضاً عن تناوُل 3 وجبات كبيرة يوميّاً كما هي العادة، والحرص على مُمارَسة التمارين الرياضيّة لمدّة 30 إلى 45 دقيقة، مع الإكثار من تناوُل الأغذية النباتيّة والابتعاد عن اللّحوم والسكّر"، موضحاً أنّ "مُمارَسة الصيام هي أحد أفضل طُرق إبطاء تقدُّم عجلة التقدُّم في العمر، لِما للصيام عن الطعام من أثرٍ إيجابي كبير على الجسم". ويؤكِّد في هذا السياق أنّ "الحرص على هذه المُمارسات بشكلٍ مستمرّ، يُسهم في تقليل الأمراض بنسبة 35%، إلى جانب تحسين القدرة الجسديّة، كما يُعزِّز من زيادة متوسّط العمر"... مُحذراً بشكلٍ خاصّ من تناوُل مادّة السكر التي يعتبرها "مشكلة حقيقيّة".
ضبْط الأنسجة
في الميدان ذاته يتحدّث باحثٌ آخر هو البروفسور "ديب دومياتي" الذي يبدو أنّه يتصرّف مع الجسم البشري كما لو أنّه يتعاطى مع آلة. يقول هو الآخر إنّه "بالإمكان إعادة "ضبط" الأنسجة المعقَّدة". ويُتابع: "لقد اخترنا أنسجة عيون الفأر، وتركنا مجموعة من الفئران تتقدَّم في العمر وتُصاب بالعمى؛ ثمَّ أَعَدْنا بَرْمَجَةَ عيونها؛ وأعدنا عمرَها إلى الوراء بنسبة 80%، فتمكَّنت تلك الفئران من الإبصار مجدّداً واستعادت لياقتها وقواها كما كانت في السابق".
وهذا يتوافق مع ما قاله باحثون في كليّة "ماونت سيناي للطبّ" من إنّهم أظهروا، وللمرّة الأولى، أنّ العيون لدى الحيوانات اللّبونة يُمكنها أن تجدِّد خلايا الشبكيّة المتضرِّرة، وذلك بعد توظيفهم علاجاً جينيّاً يقوم بتقوية آليّة الشفاء الذّاتي التي تفتقدها تلكم الحيوانات مع التقدُّم بالعمر".
لذلك ما نتحدّث عنه هو أنّ العلوم المتقدِّمة اكتشفتْ طريقةً رائدةً وغير مسبوقة لإعادة النَّظر، وبالتالي الجِسم، إلى الشباب. وهذا النَّوع من المعلومات التي تَعِدُ بتحقيق ذلك، تبقى موجودةً في الخليّة. وهذا ما يتوافق مع ما قاله "سنكلير" من أنّه "توجد نسخةٌ احتياطيّة من البرامج الخاصّة بقراءة الحمض النووي في الجسم، ويُمكن ببساطة إعادة ضبْطها". والمعنى أنّه "من ناحية نظريّة أَصبح من المُمكن أخْذُ شخصٍ شحَّ نظرُه بعدما بَلَغَ 100 عام من عمره، وإعادة "ضبط" عُمر نَظَرِهِ لإعادته إلى شبابه. والأمر المُثير للحماسة أنّنا قمنا بإجراء التجارب السريريّة على ذلك بالفعل ولم نكتشف أيّة أضرار بالنتيجة حتّى الآن. أليس هذا رائعاً؟؟ إنّه غير معقول. والآن فإنّنا نُجرِّب هذا على الثديّيات للتأكُّد من أمان العمليّة. وإذا سارَ الأمر على نحوٍ جيّد، فمِن المتوقَّع خلال العامَيْن المُقبلَيْن أن نتمكَّن من علاج العمى بالكامل... فننتقل إلى المستوى الأعلى وهو استعادة الشباب".
وثمّة ما هو أكثر إثارةً لدى "دومياتي". يقول: "لقد اخترنا العَيْن لإجراء التجارب عليها، واكتشفنا أنّه بإمكاننا إيجاد طريقة كاملة لإعادةِ ضبْطِ عُمرِ مختلف أعضاء الجسم. يُمكننا مثلاً إعادة ضبْط عُمر الجلد والعضلات. الجلد كان سهلاً علينا باستخدام الجينات ذاتها عن طريق تشغيل شفرة جينيّة في خلايا الكبار والشيوخ؛ ومبدئيّاً ينبغي أنّه سيكون بإمكاننا إعادة العجائز إلى الشباب... لقد فعلنا هذا في الفئران. والسؤال متى يُمكن تطبيقُ هذا على الإنسان؟".
في ختام هذه الرحلة المُشوِّقة لن يكون من المُستصعَب (عِلميّاً) أن نتبنّى بالكامل نظريّات إمكانيّة مُحارَبة الشيخوخة بشكلٍ تامّ. قد يكون الوقت ما يزال مبكّراً على ذلك. لكن لنقُل إنّ استخدامَ هذه التقنيّات الوراثيّة في البشر قد يستغرقُ بعض الوقت بعد... ومن العُلماء مَن يتوقَّع البدء في التطبيقات السريريّة لذلك بعد نحو عشر سنوات.
*كاتب من لبنان – مؤسسة الفكر العربي
وكالة بث