الجزائر وفرنسا: الذاكرة المُشترَكة

news image

د. عبد الحسين شعبان*

على خلفيّة خمسة أسباب جديدة وخمسة مَطالب جزائريّة معتّقة، تفجّرت أزمة الذاكرة المُشترَكة بين الجزائر وفرنسا، والتي تُمثّل الحقبة الكولونياليّة، تلك التي ما تزال تُلقي بظلالها الكثيفة وأثقالها الضخمة على العلاقات الجزائريّة – الفرنسيّة؛ فالاحتلال الفرنسيّ للجزائر والذي دام نحو 132 عاماً لا يريد أن يغادر الذاكرة الفرنسيّة أو الجزائريّة على حدّ سواء، وخصوصاً حين تلوح في الأُفق بعض المساعي لمُعالجة هذا الملفّ الشائك والمعقّد والمُحزن، وقد جَرَت مُحاولاتٌ لإبرام "معاهدة صداقة بين البلدَيْن" في إطار مشروع العدالة الانتقاليّة الدوليّة، التي تقتضي كشفَ الحقيقة كاملةً. فما الذي حصل؟ ولماذا حصل؟ وكيف حصل؟

المُساءلة على ما حَصَل في إطار تسويةٍ شاملة تقوم على جبْرِ الضرر المادّي والمعنوي والتعويض الشخصي للضحايا وأُسرهم وإصلاح العلاقات بين البلدَين وإرسائها على أُسسٍ جديدة أساسها الاحترام المُتبادَل وحقّ تقرير المصير، وخصوصاً بعد مُصالَحةٍ تاريخيّة وفقاً للقواعد الآمرة للقانون الدولي المُعاصر الواجبة الأداء والتنفيذ، والتي يقال عنها باللّاتينيّة Jus Cogens.

ويتطلّب ذلك اعترافاً من جانب الفرنسيّين على نحوٍ واضح وصريح واعتذاراً رسميّاً، وخصوصاً أنّ جرائمَ قد ارتُكبت ومَجازر قد وُثِّقت بحقّ مئات الآلاف من الجزائريّين، مقابل علاقات جديدة أساسها التسامُح والتعايُش والتواصُل الإنساني في إطار الذاكرة المُشترَكة.

ولعلّ مناسبة هذا الحديث هو الأزمة الفرنسيّة - الجزائريّة التي اندلعت على خلفيّة تصريحاتٍ أدلى بها إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي في 30 سبتمبر/ أيلول 2021 خلال لقائه مجموعة من الطلبة الجزائريّين ومزدوجي الجنسيّة وفرنسيّين من المُعمّرين السابقين في الجزائر، حين خاطبهم: "إنّ الجزائر قامت بعد استقلالها العام 1962 على إرثِ الماضي، مستغلّةً ذكريات الحرب الدمويّة". وفي كلام خارج الدبلوماسيّة قال ماكرون إنّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون رهينٌ لنظامٍ مُتحجّر، وهو مُحاصَر بسبب هَيْمَنة العسكر على السلطة وصناعة القرار، ولوَّح بمنْعِ تأشيراتِ بعض المسؤولين الجزائريّين وأبنائهم وعدم تسهيل تنقّلاتهم. وطَعَنَ ماكرون بوجود هويّة جزائريّة أصلاً قبل احتلال فرنسا للجزائر العام 1830، وحاولَ أن يغمز الجزائريّين بأنّهم نسوا فترة الحُكم العثماني للجزائر (1514 – 1830)، من دون أن ينسى نقْدَ تركيا من خلال إبداء "إعجابه" بقدرتها على جعْل الجزائريّين ينسون تماماً الدَّور الذي لَعبتْه في الجزائر والهَيْمَنة التي مارسَتْها، مُشيراً إلى أنّ الفرنسيّين لم يكونوا المُستعمِرين الوحيدين. وانتقدَ تركيا بشدّة لأنّها تُمارِس "عمليّات تضليل ودعاية" ضدّ بلاده في مسألة كتابة التاريخ، ولاسيّما مرحلة ما قبل استقلال الجزائر، ودعا إلى إصداراتٍ فكريّة باللّغتَين العربيّة والآمازيغيّة لمُواجَهة الآراء التي تُدين فرنسا.

وكانت ردّة الفعل الجزائريّة إزاء تصريحات ماكرون شديدة، حيث رفضت الجزائر التدخّل في الشؤون الداخليّة، بل اعتبرها الرئيس تبّون "لا مسؤولة وسطحيّة ومُغرضة"، وتحمل مفهوماً قائماً على "الهَيْمَنة المُبتذَلة" للعلاقات بين الدول، وهو نسخة تبريريّة للاستعمار على حساب النظرة التحرّريّة التي تؤكِّد شرعيّة الكفاح الوطني، إذْ لا يُمكن لأيّ شيء أن يغفر لقوّات الاستعمار الفرنسي جرائم الإبادة الجماعيّة ضدّ الإنسانيّة، والتي لا تسقط بالتقادُم. وعلى إثرها استدعى تبّون السفيرَ الجزائري في باريس للتشاوُر معه وقرَّر لاحقاً عدم عودته ما لم تعتذر فرنسا.

خمسة أسباب وراء استفزاز الذاكرة المُشترَكة

أوّلها - تأييد فرنسا للحراك الشعبي الجزائري الذي أَجبر الرئيس عبد العزيز بو تفليقة على تقديم استقالته في 2 إبريل/ نيسان 2019، وهو الحراك الذي استمرّ لأسابيع طويلة وعلى نحوٍ مُتعاظم ومتجدِّد للمُطالبة بالإصلاح منذ فبراير/ شباط 2019. وعلى الرّغم من أنّ التأييد كان إعلاميّاً وغير رسمي، إلّا أنّ الحكومة الجزائريّة شعرت بعدم الارتياح، بل بضيقٍ منه، الأمر الذي يُفَسِّر في جزءٍ منه ردَّ الفعل النفسي الذي حفَّز الذاكرة التاريخيّة ضدّ إدارة الرئيس ماكرون، على خلفيّة الارتكابات الفرنسيّة.

وثانيها – تطوُّرات الملفّ اللّيبي حيث اختلفت توجُّهات الجزائر عن التوجُّهات الفرنسيّة، الأمر الذي أَحدث عدم رضىً فرنسيّ ونَوعاً من عدم التفاهُم بين البلدَين، وخصوصاً في الموقف بشأن الدَّور التركي في ليبيا، والذي اقترب سياسيّاً من الجزائر، وإن اختلفَ في شقّه العسكري وإرسال المرتزقة، وهو ما عارضَته فرنسا بشدّة وأدّى إلى تصدُّع العلاقات الفرنسيّة – التركيّة، ولاسيّما مُطالبة فرنسا تركيا بتقديم اعتذارٍ بشأن مَذابح الأرمن في مطلع القرن العشرين، والتي ما تزال تركيا ترفض الاعتراف بها.

وثالثها – الانقلاب الذي حصلَ في مالي، والذي حَسَبَهُ الفرنسيّون بتدبيرٍ وإيحاءٍ ودعْمٍ غير مباشر من الجزائر، وهو ما يُمكن أن يُلحِق ضرراً بليغاً بمصالح فرنسا الحيويّة في منطقة الساحل وجنوب الصحراء الجزائريّة المُجاوِرة للنيجر وموريتانيا والسنغال وغينيا وبوركينو فاسو، والتي تشكِّل المصدر الأساسي لتوريد اليورانيوم إلى فرنسا وتستخدمه في العديد من الصناعات الحربيّة والمدنيّة.

ورابعها – خشية فرنسا من المُنافَسة الصينيّة والروسيّة، وهُما الدولتان اللّتان لهما علاقة تاريخيّة مع الجزائر منذ استقلالها وتتقاطع سياستهما مع السياسة الفرنسيّة والأوروبيّة والغربيّة بشكلٍ عامّ، وبما يؤثِّر على مصالح فرنسا في القارّة الأفريقيّة، ناهيك بالعلاقات الألمانيّة - الجزائريّة التي أخذت بالتطوُّر؛ الأمر الذي أثار حساسيّة الفرنسيّين أيضاً.

وخامسها – موضوع الهجرة الذي أُثير بطريقةٍ استفزازيّة، فمن جهة هناك ضغوط لإعادة مُهاجرين غير شرعيّين، ترفض الجزائر عودتهم، واندلع الخلاف للتفريق بين المُهاجِر الخطر والمُهاجِر المُعارِض، وهو تفريق له بُعد سياسي. ومن جهة أخرى تخفيض منْح التأشيرات للجزائريّين ووضْع ضوابط للحدّ من ذلك، والأمر شَمَلَ المَغاربة والتونسيّين، وهو ما أثار حساسيّاتٍ وردودَ فعلٍ ضدّ الإجراءات الفرنسيّة. ولعلّ إقدام ماكرون على مثل هذا الإجراء يأتي في إطار توازنات وضغوط داخليّة، وذلك قبل أشهر من الانتخابات، وتنازُلاً لليمين واليمين المُتطرّف.

وإذا كانت هذه خمسة أسباب وراء اندلاع الأزمة، سواء بشكل منظور أم غير منظور، فهناك خمسة مَطالِب تُحفّز الذاكرة الجزائريّة باستمرار:

أوّلها – قضيّة المفقودين التي ما تزال عالقة، بما فيها استعادة رفات شهداء المُقاومة الجزائريّة، والتي صادف خلال الفترة القريبة الماضية مرور 60 عاماً (17 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1961) على إطلاق النار على مُتظاهرين جزائريّين في فرنسا وسقوط أعداد من القتلى.

وثانيها – استعادة الأرشيف الوطني الجزائري الذي تمّ الاستحواذ عليه من جانب فرنسا. وعلى الرّغم من المُطالبات الجزائريّة، إلّا أنّ الأمر ظلّ في إطار الوعود والمُماطلات وعدم التقدُّم بجديّة لإنجاز هذا الملفّ، وكانت فرنسا قد شرّعت قانوناً في العام 2006 أَدرجت فيه الأرشيف كجزء من الأملاك العموميّة.

وثالثها – دفْع تعويضات عن ضحايا الألغام الفرنسيّة في الجزائر، والتي راح ضحيّتها عدّة آلاف، فهي ما تزال تقتل الجزائريّين، على الرّغم من تدمير ملايين منها. كما تُطالب الجزائر بتعويض ضحايا التجارب النوويّة التي أجرتها فرنسا في منطقة رقان (جنوبي الجزائر) خلال فترة بين 1952 - 1962؛ إذ إنّ إشعاعاتها النوويّة ما زالت مؤثّرة حتّى الآن وتسبَّبت في تشوُّهاتٍ خلقيّة وسرطانات وأمراض مُستعصية، إضافةً إلى تلويثِ الهواء والماء. وكان صديقنا الراحل عبد الكاظم العبودي الذي عمل في الجزائر ونالَ الجنسيّة الجزائريّة قد وثّق جرائم فرنسا النوويّة في الصحراء الجزائريّة.

ورابعها – تقديم اعتذار رسميّ للجزائريّين من جانب فرنسا، إضافة إلى تعويضات ماديّة ومعنويّة عن الأضرار التي لحقت بالجزائريّين جرّاء الاحتلال الفرنسي. فبعد التصريحات التي أثارت أزمةً دبلوماسيّة بين البلدَين حاول ماكرون تجاوزها بإصدار بيان من قصر الإيليزيه يدعو فيه بالتهدئة ويأسف "للجدل وسوء الفهْم اللّذَين نجما عن التصريحات التي نُشرت ...". ويُعتبر ذلك البيان بمثابة تراجُعٍ مدروس، وهو أقرب إلى الاعتراف بالخطأ والإقرار بتحمّل المسؤوليّة، حتّى وإن لم يكُن بصورة مباشرة. وربّما يكون تكتيكاً قُبيل الانتخابات الفرنسيّة في ربيع العام 2022، وخصوصاً حيث المُنافَسة حامية الوطيس مع اليمين الشعبوي المُتطرّف. وعلى الرّغم من ترحيبٍ جزائريّ بالبيان الفرنسي، جاء على لسان وزير الخارجيّة رمضان لعمامرة، إلّا أنّ العلاقات ما زالت فاترة ولم تعُد إلى مَسارها الطبيعي.

وخامسها – أنّ طَيّ صفحة الماضي الاستعماري الفرنسي تحتاج إلى شجاعةٍ فرنسيّة وإرادةٍ سياسيّة وموقفٍ أخلاقيّ عالي التجرُّد والموضوعيّة والحساسيّة الإنسانيّة، لكي "يعترف الأبناء بما اقترفه الآباء"، لإغلاق هذا الملفّ والتطلّع إلى المستقبل، كما يحتاج إلى شجاعة جزائريّة وسموٍّ أخلاقيّ يتّجه نحو التسامُح من جانب "الأبناء لما أصاب الأجداد والآباء والأجيال التي تَلَتْهم من أذىً"، من دون نسيانه، ليبقى ماثلاً في ذاكرة الأجيال، درساً وعبرةً للمستقبل وللعلاقة بين البلدَين والشعبَيْن، فضلاً عمّا يُمكن أن يُمثّله لعموم العلاقات الدوليّة، وذلك في إطار عدالة انتقاليّة دوليّة تسوّي المشكلات التاريخيّة العالقة، وفقاً للاعتبارات الإنسانيّة والقانونيّة والمَصالح المُشترَكة وأهداف السِّلم والأمن الدوليَّين.

* أديب وأكاديمي عراقي - مؤسسة الفكر العربي

كلمات مفتاحيّة: الاحتلال الفرنسيّ للجزائر - جرائم الإبادة الجماعيّة - العدالة الانتقاليّة الدوليّة- شرعيّة الكفاح الوطنيّ- ضحايا التجارب النوويّة- الأرشيف الوطنيّ الجزائريّ- الهجرة- قضيّة المفقودين - ذاكرة الأجيال- التسامُح.