بخصوص خبز الموارنة وخبز الحياة
د. رفيف رضا صيداوي*
يأتي كتاب "خبز الموارنة وخبز الحياة - نشأة عصبيَّة وتهاويها" لعالِم الاجتماع اللّبناني فردريك معتوق، الصادر حديثاً عن منتدى المعارف في بيروت، كعصارة اشتغال مؤلِّفه على موضوع العصبيّة، الذي صَدَرَ له عنه على التوالي: "صدام العصبيّات العربيّة" (2017)، "مجتمعات ودول العصبيّات إلى أين؟ سوسيولوجيا العصبيّات" (2018)، "التقدُّم الحضاريّ العربيّ المعصوب" (2019)، "التنشئة على العصبية" (2022). أمّا سمة هذا الإصدار الجديد، فتكمن في أنّه بمثابة دراسة تطبيقيّة ترصد وتتبَّع شبكة العلاقات التي سمحت بتجذُّر العصبيّة في مجتمعاتنا، مُتّخِذةً من لبنان في تاريخه الحديث ومن الطائفة المارونيّة تحديداً حقلاً لها.
كيف للقيَم الأبويّة وعلاقات القربى والعشيرة والطائفة والجماعة العرقيّة أن تبقى متجذّرة في بنيان مجتمعاتنا العربيّة ومُعطِّلة لبناء الدولة الحديثة؟ وممَّ تتغذّى عصبيّاتنا العائليّة والقبليّة والعشائريّة والدينيّة والمذهبيّة هذه؟ أسئلة لطالما طرحها فردريك معتوق في كُتبه وأبحاثه وأطروحاته، المذكور منها آنفاً وغير المذكور، عاكفاً على تفكيكها وتحليل عناصرها من منظورٍ تحليليٍّ سوسيو - معرفيّ، مُضيئاً على صلابة العصبيّة وقدرتها على إعادة تأهيل نفسها إلى ما لا نهاية في البنى المجتمعيّة التقليديّة بعامّة، والعربيّة منها بخاصّة، كما وعلى إعاقة النموّ الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والاتّصاليّ والمعرفيّ.
لئن استند فردريك معتوق إلى مفهومِ العصبيّة الخلدونيّ الذي مضى عليه الزَّمن، ولاسيّما أنّ للعصبيّة بُعدَها القبليّ المُعزَّز بالبداوة، ليختبرها على مجتمعاتنا الحديثة، فذلك لأنّه قرأها كمنظومةٍ فكريّةٍ حيّةٍ ومتحرّكةٍ ذات مكوّناتٍ عصبيّة يحكم قانونُ الغُلب العصبيّ فيها ويتغلَّب على العقد الاجتماعيّ، بما يسمح لها، أي لهذه العصبيّة، كما سبق لمعتوق أن وصفها، بتمدّدِها "الجذموريّ" Rhizomatic في مناحي الحياةِ السياسيّةِ والاجتماعيّةِ كلِّها، سواء أكانت تقليديّة أم مُستحدَثة.
هذا الكتاب الذي وصفه مؤلِّفُه بأنّه "بمثابة مونوغرافيا سوسيو - معرفيّة"، استند في توثيقه إلى "الدفاتر الخمسة" المحفوظة تحت إشراف كاهن الرعيّة في الكنائس المارونيّة (أي دفاتر العماد، والتثبيت، والزواج، والوفيّات، والإحصاء)، ولاسيّما ما يتعلّق منها بالسنوات الموافقة للحرب العالميّة الأولى، في قريته الصغيرة "سرعل" القائمة في وادي قاديشا، في شمال لبنان، وفي غيرها من القرى والبلدات ذات الغالبيّة المارونيّة. وما عكسته هذه الدفاتر الخمسة، فضلاً عن قيمتها التوثيقيّة في ما يتعلّق بالتوزُّع السكّاني للموارنة وأحوالهم من الولادة إلى الموت قبل قيام الدولة بمفهومها الحديث، هو تماسُك العصائب المارونيّة والدَّور المميَّز للمؤسّسة الكنسيّة في تأمين هذا التماسُك وإدارته، الذي جَعَلَ القناصل الأوروبيّين يشيرون منذ القرن التّاسع عشر "إلى أنّ الشعب -الماروني La nation - أي الطائفة المارونيّة - هي الأشدّ تماسكاً وتركيباً بين الجماعات الدينيّة الموجودة في المنطقة؛ بحيث تعدَّى هذا التماسُكُ أو هذه اللّحمةُ الروحيّةُ برعاية الكنيسة الجانب الدّيني "لتتماهى مع الاجتماعي والثقافي العامّ. وقد برع رجال الكنيسة المارونيّة بهذه العمليّة التي طالت عُمق شخصيّة أناس كان الحُكم العثماني يريدهم أيتاماً وبلا ثقافة روحيّة بالمعنى المشبع للكلمة".
لم يفُت د. فردريك معتوق في دراسته المونوغرافيّة هذه، تتبُّع ميكانيزمات التنشئة الأوّليّة للفرد في الأوساط المارونيّة من ضمن أحضان العائلة، وتلك التي يتلقّاها خارج أسوار عائلته البيولوجيّة، أي التنشئة الثانويّة في فترة ما قبل اندلاع الحرب العالميّة الأولى، والدَّور الذي قامت به السلطة الكنسيّة المارونيّة، بإشرافٍ من السلطة البابويّة في روما، في القرن الثامن عشر؛ حيث ساندت المؤسّسةُ الدينيّةُ المؤسّسةَ التعليميّة، بتوجيهٍ من البابويّة، وأفضى هذا التراكب والاندماج إلى تطوّرٍ ملموس في شكل الوعي الاجتماعي الماروني العامّ خلال حقبة الحُكم العثماني، أَنبت وعياً تشاركيّاً (associatif) ولحمةً اجتماعيّة وثقافيّة وروحيّة في آن.
في التحوّلات المفصليّة
لئن كانت الطائفة الدينيّة تقوم على رابطة المقدَّس والدينيّ، فإنّ التضامُن بين أفرادها وجماعاتها في الحالة المارونيّة، شكَّل وجودها المؤسِّس، بسبب تلك الرابطة الدينيّة تحديداً، وإن كانت صلة الرّحم كمصدر محبّة وتضامُن سبّاقة على الرابطة الدينيّة. غير أنّ المشكلة التي حاول د. فردريك معتوق الإضاءة عليها في دراسته هي تحوُّل الروابط الإيجابيّة إلى أخرى سلبيّة يُحرّكها التَّنافس والسَّعي إلى المجد والسلطة، والتي تتولّد منها إشكاليّة تحوّل "المحبّة إلى عنصريّة تقوم على التمييز مع تصوُّرِ تفوُّق العنصر على من سواه لمجرّد التسلسل النَّسبيّ؛ فهذا ما يحوِّل القبيلة إلى قبائليّة مثلما يُحوِّل الشعب إلى شعبويّة والطائفة إلى طائفيّة والمذهب إلى مذهبيّة، أي تحوُّل الطبيعيّ إلى اصطناعيّ، وهو اصطناعٌ أسطوريّ يؤسِّس للعرقيّة السلبيّة وللهويّات القاتِلة ولو معنويّاً" (عبد اللّه الغذّامي، القبيلة والقبائليّة أو هويّات ما بعد الحداثة). فكانت البداية مع الحرب العالميّة الأولى التي تغيَّر معها مشهد المُجتمع الريفي التقليدي الصغير الساعي إلى تطوير نفسه، والذي تعمّق المؤلِّف في توصيفه مُدعِّماً إيّاه بالأرقام والإحصائيّات العائدة لتلك المرحلة: نفاد المدخّرات والمجاعة، اجتياح الجراد، الحصار البحري الذي ضربه الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا)، والحصار البرّي الذي ضربه العثمانيّون لمنعِ نقل القمح من البقاع وحوران وحلب إلى جبل لبنان.
لقد تمثّلت هذه المُعايشة الميدانيّة لموارنة "سرعل" ومحيطها، وغيرهما من المناطق اللّبنانيّة، والتي أشرك الكتابُ فيها القارئَ، في محاولةِ الإضاءة سوسيولوجيّاً، وعن قرب، على كيفيّة تحوُّل الطائفة إلى طائفيّة والمذهب إلى مذهبيّة بفضل ظروفٍ جيوسياسيّة ولّدتها الحرب العالميّة الأولى أفضت إلى تغيُّر موازين القوى، واندحار الجيوش العثمانيّة، وتبنّي المرجعيّة المارونيّة الكبرى الانتصارَ الفرنسي، وتبنّي الفرنسيّين في المقابل الموارنة، وتحوُّل "العصبة" المارونيّة إلى عصبيّة بعد تمأسسها في الدولة.
فمع انتشار الأمراض الفتّاكة إبّان الحرب العالميّة الأولى (وباء الجدري في "سرعل" والحمّى في "طورزا" والتيفوئيد في غير مكان) "لم يجد الوعي التقليدي السائد من معينٍ فعليّ موثوق في الطبّ الشعبي ولا في شخص الحكيم العربي عندما أزفّت ساعة الحقيقة، كما لم يجد الأهالي الدّعم المتوقَّع من البطريركيّة المارونيّة: "كانت أهوال الحرب العالميّة الأولى هائلة لدرجة أن لا هذه المؤسّسة ولا سواها من المؤسّسات المحلّيّة كانت مؤهَّلة وقادرة بما فيه الكفاية على مُكافحة آثارها على نحوٍ شامل وكامل ومُستدام"؛ ما يعني أنّ الحرب العالميّة الأولى بقدر ما خلخلت الانتظام الاجتماعي للجماعة المارونيّة، "أظهرت للكنيسة المارونيّة أنّها متغيّر تابع، لا متغيّر مستقلّ في اللّعبة السياسيّة الكبرى الجارية"، في ظلّ صراع القوى الفرنسي العثماني. فيقول معتوق: "واقعيّاً، كانت البطريركيّة المارونيّة قد وقعت رغماً عنها في لعبة أُمم تفوق تصوّراتها الاستراتيجيّة الأوّليّة المبنيَّة على إدارة ناجحة لعَصَبَة محلّيّة مُسالمة تجاه الحُكم العثماني".
تقاطُعات المحلّي والإقليمي والدولي إذاً، طوال الفترة الممتدّة بين إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920 ودولة الاستقلال في العام 1943، كرّست تدعيم الطوائف ككيانات سياسيّة لها أنظمتها الخاصّة والمستقلّة، وتحوُّل الطائفة إلى طائفيّة، لأنّ الطائفيّة في لبنان ليست، بحسب المفكِّر اللّبناني مهدي عامل، "كياناً، وليس لها وجود أنطولوجيّ. إنّها علاقة سياسيّة (...) قائمة بالدّولة، بمعنى أنْ لا وجود مؤسّسيّاً لها إلّا لكونها قائمة بالدولة، وتحديداً بالدولة الطائفيّة". هذه السيرورة بدأت مع نموّ "شريحة مارونيّة من أخلاف أعيان زمن الحرب العالميّة الأولى الذين قاموا بعمليّة تحضين سياسي للإرث المعنوي الذي سلّفتهم إيّاه الكنيسة المارونيّة، معبّرين على الدوام عن طاعتهم للمرجعيّة الدينيّة، لكن مع تبييتِ رغبتهم بالتفلُّت السياسي من هذه السلطة الجبريّة بغية إنشاء زعامات عائليّة سياسيّة صغيرة ومستقلّة، على شكل عُصيبيّات عشائريّة صغيرة تضمّ الأقارب في العائلة الممتدّة والأهل والمقرّبين". لذا أضحت هذه العُصيبيّة هي الجوهر المحرِّك لكلّ المكوّنات السياسيّة الأخرى، وحالت دون أن تُسهم بدايات التحوُّل الرأسمالي الذي انطلق مع إنتاج الحرير في منتصف القرن التاسع عشر والتطوُّر النسبيّ لعلاقات الإنتاج الرأسماليّة بعد الاستقلال لاحقاً، من القضاء على الطابع التقليديّ للعلاقات السياسيّة والاجتماعيّة وارتباطاتها الطائفيّة، والقَبليّة والعشائريّة، والمناطقيّة المَوروثة. حتّى أنّ اتّفاق الطائف في تعديله نِظام توزيع السلطات بين الرئاسات الثلاث لم يكُن يتّجه حقيقةً إلّا إلى تسويةٍ تُعيد تثبيت توازنات النّظام الطائفيّ القائِم على العصبيّات الدينيّة والعشائريّة، الذي لم يتوقّف منذ ما يربو على أكثر من مائة وخمسين عاماً "عن توليد التوتّرات والمُشاحنات والصراعات، الكامنة غالباً والمتفجّرة أحياناً، مع كلّ تبدّلٍ في التوازنات الداخليّة والخارجيّة" (كمال حمدان، الأزمة اللّبنانيّة، ترجمة رياض صوما، 1998).
في خلاصة هذا الكتاب يوضح معتوق أنّ ما جاء فيه لا يقتصر على الموارنة، بل يشمل كلّ المكوّنات السياسيّة اللّبنانيّة الأخرى. "فالدروز والسنّة والشيعة في لبنان يشكّلون امتداداً لهذا المنظور، إذ ما حصل لاحقاً، عام 1943 ثمّ في الخمسينيّات والسبعينيّات وحتّى اليوم، يشير بوضوح إلى تمسُّك جماعي محلّي، عنيد ومُستميت، بصيغة لبنان التقليدي كما بصيغة لبنان كدولة للعصبيّات والمُلك"، وذلك في ظلّ تراكُب القوى العظمى على هذا البنيان العصبيّ في البلدان التقليديّة "حيث عملت في السابق على أورَبَة، وبعدها أمرَكة، واليوم عَولَمة، كلّ شيء فيها ما عدا ما يتعلّق بأنظمتها السياسيّة الموروثة". وكأنّ الهمّ الأساسي هو التشديد على أنّ اللّبناني المحكوم بهابيتوس العصبيّة، بشكلَيها القبليّ (العائليّ) والدينيّ – المذهبيّ، قادر، على الرّغم من ذلك، على مواجهة هذا الوضع، لكونه ليس قَدَراً محتوماً، بل واقعاً يُمكن تغييره عبر تحريره من العصبيّة على نحوٍ استراتيجيّ، والاتّجاه نحو دولة المُواطنة المدنيّة الديمقراطيّة الحديثة.
*مؤسّسة الفكر العربي