تصدّع البيتِ الأوروبيّ.. هل تَحيد البوصلة الأوروبية عن الوجهة الأمريكية؟

تقرير - مروة شاهين - خاص بث:
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وصل الأوروبيون الى قناعةٍ مفادها ان القارة الاوروبية قد شهدت ما يكفيها من الحروب و الدمار، اذ كانت هذه القارة مسرحاً لحربين عالميتين غيّرتا وجه التاريخ، و أحدثتا تعديلات جذرية على الخارطة السياسية العالمية.
و نتيجة لهذه الافكار، قرر القادة الاوروبيون زيادة أواصر السلام في القارة الاوروبية، عن طريق زيادة اعتماد الدول الاوروبية على بعضها البعض اقتصاديا و تجارياً، و ما يلي ذلك من تقارب بين شعوب القارة، مما يبعد شبح الحرب عن اوروبا قدر الإمكان، و كانت أهم ثمرات هذا التعاون الاقتصادي الذي حصل في اوروبا هو الاتحاد الذي استطاع ان يحقق الوحدة الاوروبية، و لو نسبياً، أي الاتحاد الأوروبي.
فكيف نشأ هذا الاتحاد، و هل استطاع فعلاً أن يحقق الوحدة الأوروبية؟ و ما هي ابرز خلافات الدول الأعضاء و التي قد تشكل خطراً على استمرارية الاتحاد؟
ما هي طبيعة الاتحاد الأوروبي؟
أُنشِئ الاتحاد الأوروبي في سبيل الحفاظ على السلام والديمقراطية وتحسين التعاون بين الدول الأوروبية. هو كناية عن اتحاد اقتصادي وسياسي فريد يضمّ 28 دولة (27 في عام 2019 بعدخروج بريطانيا). تشكّل وتعتمد هذه البلدان مع بعضها البعض التشريعات والسياسات المشتركة، لأغراض منها تعزيز حقوق الإنسان على المستوى الداخلي وحول العالم، أنشِئ الاتحاد الأوروبي أصلاً على أنّه كيان اقتصادي وتجاري، إلا أنّه ما لبث أن تحوّل على مرّ السنين إلى لاعب سياسي أقوى، وخير دليل على هذا التوجّه هو اعتماد السياسة الأمنية والخارجية المشتركة في عام 1993. بيد أنّه لا تزال حكومات الدول الأعضاء وأجنداتها تُهيمن بقدر كبير على السياسة الخارجية،فيما يتعلّق باالدعوة حول السياسة الخارجية وحقوق الإنسان.
التفاوت الاقتصادي: سيّد الخلافات في القارة العجوز
تتمثّل كبرى الخلافات الكلاسيكيّة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي في انتقادات للاقتصاديات القوية بالاستغلال والنمو على حساب الدول الأكثر فقراً اقتصادياً، ومن جهتها تتهم الدول الغنية الأعضاء الآخرين بالاتكال عليها وتشكيل عالة وعقبة أمام نمو الاقتصاد الأوروبي، وفي مقدمة الدول صاحبة أضعف الاقتصادات في أوروبا تأتي اليونان ثم إسبانيا، وهما أكثر من عانى خلال الأزمات الاقتصادية التي ألمت بالقارة العجوز خلال العقدين الماضيين، حيث تضررتا على نحو فج انعكس على عجز كبير بالموازنات العامة، وعدم القدرة على سداد الديون.
ومع استمرار تدفق الخلافات على أجندة الاتحاد الأوروبي من حين لآخر، ومع صعود تيار اليمين القومي في أروقة السلطة والنخبة الأوروبية، تتجدد المطالبات من شعوب دول مثل ألمانيا وفرنسا وبلجيكا بالتخلي عن دعم الدول الأكثر فقراً، في إطار يصفه خبراء بأنه انتصار للمقاربة الإقليمية الواقعية على حساب القيم الليبرالية.
الأزمة الديمغرافية، نُدرةُ الأوروبيين
عامٍ بعد عام، يتزايد متوسط الأعمار المستمر وشيخوخة الهرم الاجتماعي في الدول الأوروبية، بسبب انخفاض معدلات الإنجاب وسط عزوف كثيرين عن تكوين أسر نتيجة للقيم المادية الفردانية التي تهمل البعد الروحي والإنساني، و لذلك يرى علماء الاجتماع بأن أوروبا بصدد أزمة ديمغرافية تهدد وجودها، مما ينتج تحوّلات ديمغرافية عديدة، حيث ينتج عن ذلك حاجة إلى قوى عاملة شابة بديلة، والتي تضطر الدول الأوروبية إلى فتح أبواب الهجرة من الدول ذات الأعمار الشابة القادرة على العمل و الانتاج.
أزمة اللاجئين
لطالما سببت أزمة الهجرة شرخاً عميقاً بين الدول الأعضاء في الاتحاد الاوروبي، حول ملفّ الهجرة الذي ما زال يرخي بثقله على العلاقات بين دول الجنوب والشمال، ويدقّ ناقوس الإنذار من أزمة غاز على الأبواب، اذ ان تزايد اعداد اللاجئين ينذر برفع مستوى استهلاك الطاقة، سواء لجهة الاستخدام الشخصي او الاستخدام العام، في الوقت الذي تواصل فاتورة الطاقة الأوروبية ارتفاعها المطّرد، وتحطّم كل يوم أرقاماً قياسية جديدة تهدد بخروج التضخم عن السيطرة، وكبح الانتعاش الاقتصادي بعد جائحة كورونا، ناهيك عن تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية و اثرها على اسواق الطاقة العالمية، لا سيما إن القارة العجوز تعتمد اعتماداً شبه اساسيّ على روسيا في امدادات الغاز الطبيعي و الطاقة.
و يعدّ الإنقسام حول ملف الهجرة ثلاثي الأبعاد، اذ شكلت ازمة الهجرة خلافات داخل الاتحاد الاوروبي مجموعةً من الكتل التي يطالب كل منها بسياسية معينة يمكن انتهاجها حول أزمة اللاجئين، حيث طالبت كتلة الدول الشرقية برفع جدار على الحدود الخارجية للاتحاد لمنع تدفّق المهاجرين، فيما اعترضت دول الشمال على ما يُسمّى في الاصطلاح الأوروبي اي التحركات الثانوية، أي انتقال الوافدين من بلدان الوصول إلى دول الداخل، بينما قادت إيطاليا كتلة الجنوب التي ترفض أن تتحمّل وحدها وزر موجات المهاجرين عبر شرق المتوسط، معترضة بشدّة على إقامة جدار على الحدود الخارجية.
النزعات الإنفصالية
تُعتبر سابقة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المعروفة بالـ”بريكسيت” بأنها قد تشجّع دولاً أخرى على المضي في نفس الطريق الذي سلكته المملكة المتحدة، اذ بدأت بريطانيا في طريق مغادرة الاتحاد بعد استفتاء شعبي أُجري عام 2016، أظهر رغبة الشعب البريطاني في مغادرة الاتحاد الأوروبي بالتذرّع بالسيادة الوطنية على أراضيها ومياهها الإقليمية واستقلالية قرارها السياسي، حتى غادرت الاتحاد رسمياً مطلع العام ، و تجدر الاشارة الى أن استطلاع رأي أُجري عام 2019 بين مواطني الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، كشف عن توجه واسع يفيد بأن الاتحاد من الممكن أن ينحل أو يتفكك في غضون فترة تتراوح بين 10 و20 عاماً.
وكان جزء كبيرة من المشاركين في الاستطلاع لديهم مخاوف حيال موضوعات مثل الاقتصاد، وعدم المساواة، والتهديدات الأمنية، حيث يرون أن هناك احتمالية نشوب نزاعات بين الدول الأعضاء بالاتحاد، وأن أكبر خسارة سيتعرض لها هي عدم القدرة على العمل معاً ضد القوى العالمية مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة.
كان ما سبق ذكره نبذة عن خلافات البيت الواحد، أي الاتحاد الاوروبي، و لكن لكي تكتمل الصورة و تصبح اكثر وضوحاً، لا بد لنا من عرض أبرز الخلافات الاوروبية مع الولايات المتحدة الامريكية، التي كانت تعتبر ( و ربما لا زالت) قائداً للقارة الاوروبية على المستويات الثلاث الاقتصادية ( فهي صاحبة مشاريع التنمية الاقتصادية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية عبر مشروع مارشال) و السياسية و العسكرية ( حلف شمال الأطلسي).
الخلافات الاوروبية الأميركية
دخلت العلاقات الأمريكية الأوروبية مرحلة جديدة، إثر تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن للسلطة بعد سنوات عجاف للعلاقات بين الولايات المتحدة الامريكية و حلفائها في حلف شمال الأطلسي خلال فترة حكم الرئيس الاميركي دونالد ترامب.
فقبل أربع سنوات، أُصيب الزعماء الأوروبيون بصدمة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي شجَّع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، و قلل من اهمية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، قائلاً أنَّ الحلف قد عفا عليه الزمن، ووصف الدول الأعضاء بأنَّها تتهرب من دفع التزاماتها ورفض في بادئ الأمر تأييد مبدأ الدفاع المشترك المحوري في حلف الناتو صراحةً.

و في هذا السياق يقول توماس كلاين بروكهوف، نائب رئيس مركز صندوق مارشال الألماني، إنَّهم يخشون من إمكانية تكرر الأمر، ومن أنَّ أمريكا تغيَّرت، ومن أنَّ بايدن هو مجرد “فاصل” بين رئيسين أكثر شعبوية ، ويضيف أنَّهم يعلمون أنَّ سياسات بايدن ستكون مُرفَقة سراً بفواتير للدفع، وهم ليسوا متأكدين، من مدى اختلاف التزامه بسياسة خارجية مختلفة عن سياسة ترامب التي كان شعارها أمريكا أولاً.

و من جانبها قالت يانا بوغليرين، مديرة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين، إنَّ النظرة المتفائلة التي تبعث على الأمل هي أنَّ بايدن يطلق علاقة جديدة، ويُظهِر إيمانه ببروكسل والناتو، ويقول الكلمات الصائبة، ويطلق العملية الاستراتيجية الرئيسية لإصلاح الحلف على مدار العقد المقبل، لكن يجب أن نرى نتائج ملموسة.
أبرز الخلافات:
الانسحاب من افغانستان
كان قرار بايدن بسحب كافة القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/أيلول اتُّخِذَ بصورة أحادية وبالطريقة القديمة، بحيث تقرر واشنطن ثم يتبعها الحلفاء، و لهذا، شعر القادة الأوروبيون بالغضب والإحراج من قرار بايدن دعم التنازل عن حقوق الملكية الفكرية بخصوص لقاحات كورونا وقد اتُّخِذَت تلك الخطوة، بعد انتقادات داخلية متصاعدة، دون تنبيه الحلفاء، ناهيكم عن التشاور معهم.
العقوبات على روسيا
شهدت العلاقات الاقتصادية الروسية الأوروبية عقودا من العلاقات المعقدة غير المستقرة، إلا أنها متشابكة وقوية، فكل طرف يعدّ شريكا تجاريا مهما للطرف الآخر، تتزايد حدة العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا تدريجيا، وكان أكبرها إخراج عدد من المؤسسات المالية الروسية من نظام “سويفت” العالمي للتواصل بين المؤسسات المالية، و تعد المؤسسات البنكية الأوروبية من أكثر الجهات تضررا؛ فحسب البنك المركزي الأوروبي فإن حجم الديون الروسية التي عليها أداؤها للبنوك الأوروبية تبلغ أكثر من 60 مليار دولار، وهو ما يعادل 4 أضعاف الديون الأوروبية المقدمة للبنوك الأميركية، إضافة الى اعتماد أوروبا على روسيا في قطاع الطاقة، مما يجعل العقوبات على روسيا و قطاع الطاقة الروسي، محل خلاف بين الحلفاء الأميركيين و الأوروبيين.
العداء مع روسيا و الصين
على خلاف الاميركيين، لا ينظر الأوروبيون إلى الصين باعتبارها المنافس الند مثلما تنظر إليها واشنطن، وما يزالون أكثر اعتماداً على الصين وروسيا في التجارة والطاقة، مقارنةً بالولايات المتحدة. ويشعر البعض بالقلق من أنَّ مسعى بايدن لتعريف العالم باعتباره منافسة بين الديمقراطية والسلطوية هو نظرة ترى العالم من منظور أبيض وأسود أكثر من اللازم.
صعود الهيمنة الصينية يهدد دور الولايات المتحدة كلاعب اساسي في المحور الأوروبي
تحاول الصين امتصاص صدمة الحروب التجارية والعقوبات والاستمرار بالنهوض من خلال تعزيز الطلب الداخلي في سوقها الضخمة. ولهذا الغرض وقعت مؤخراً أكبر اتفاق للتجارة الحرة في العالم مع دول شرق آسيا والمحيط الهادي ومن ضمنها اليابان وكوريا الجنوبية، كما أنها ماضية في تعزيز علاقاتها مع روسيا وعشرات الدول الأخرى من خلال مشروعها العالمي طريق الحرير الجديد، أما الولايات المتحدة التي انسحبت من اتفاقيات تجارية عديدة إبان حكم الرئيس ترامب فتحاول إعادة هيكلة اقتصادها وإحياء صناعاتها والحفاظ عليها من خلال المزيد من الاجراءات الحمائية. كما أنها تعمل لتوقيع اتفاقيات جديدة للتجارة تكون أكثر عدالة لها حسب تصنيف الإدارة الأمريكية السابقة، كتلك التي وقعها ترامب مع كندا والمكسيك كبديل لاتفاقية «نافتا» ونظراً إلى تمتع الولايات المتحدة بسوق كبيرة وقدرة شرائية عالية، فإن حفاظها على موقع في صدارة الزعامة العالمية غير مشكوك فيه، ما يدعم تفوقها، لاسيما وأنها ما تزال متفوقة في الذكاء الاصطناعي وعوالم الإنترنت من خلال غوغل وفيسبوك ويوتيوب وأخواتها.
أوروبا بين نارين
وفي الوقت الذي تحاول فيه الصين التفوق على الاقتصاد الاميركي، يبقى السؤال هنا ماذا بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي؟
تنعم دول الاتحاد وخاصة ألمانيا حتى الآن بمكاسب العولمة التي جلبت لدوله وخاصة لألمانيا المزيد من الازدهار منذ ثلاثة عقود.
ويعكس ذلك إلى حد كبير علاقات تجارية مزدهرة مع الولايات المتحدة والصين. غير أن التحولات التي تنبئ بنهاية هذه العولمة وتقسيم مناطق النفوذ بين الولايات المتحدة والصين يحتم على أوروبا الاختيار بين أحد القطبين. ويبدو طريق السيناريو الأخير الأقل تكلفة لأوروبا حسب الدراسة التي جاء فيها أن سلوكه يعني تراجع الصادرات الأوروبية بنحو 12 بالمائة.
وبالمقابل فإن الانحياز إلى تكتل صيني محتمل سيعني تقليص هذه الصادرات بنحو 18 بالمائة. أما الانضمام إلى تكتل أمريكي على حساب العلاقات مع الصين فيبدو الأعلى تكلفة إذ سيعني تراجعاً بنسبة 22 بالمائة للصادرات الأوروبية.

و في هذا السياق قالت ناتالي توتشي، مديرة معهد الشؤون الدولية الإيطالي: ان التواصل مع الحلفاء مهم ويتجاوز الرمزية، لكن الأوروبيين عليهم تحمل المسؤولية والعمل مع بايدن للتوصل إلى اتفاقات بشأن القضايا الرئيسية مثل المناخ واللقاحات والتجارة، والتي يمكن أن تخلق كتلة حرجة غربية تتمدد لتصبح اتفاقاً عالمياً أوسع متعدد الأطراف.

و يرى ابراهيم محمد، الكاتب و المحلل السياسي، أن الجهود أوروبية نحو مزيد من الاستقلالية ظهرت خلال السنوات القليلة في محاولات أوروبية تقودها فرنسا من أجل مزيد من الاستقلالية للاتحاد، ويدل على ذلك الجهود المبذولة لتعزيز دور اليورو كعملة عالمية إلى جانب الدولار الأمريكي وإنشاء قوة عسكرية أوروبية مشتركة للدفاع عن مصالح أوروبا، غير أن هذه الجهود ما تزال خجولة وتسير ببطء رغم زيادة التأييد الألماني المتزايد لها مؤخراً، وتكمن المشكلة الأساسية هنا في غياب إرادة سياسية أوروبية موحدة تدفع هذه الجهود بشكل سريع وملموس وجوهري إلى الأمام. لكن تجاوز هذه العقبات ليس من الأمور المستحلية، لاسيما وأن المصالح الاقتصادية الأوروبية ستكون مضمونة أكثر في ظل صعود قطب ثالث بين القطبين الصيني والأمريكي، هذا ومن المؤكد أن نشوء ثلاثة أقطاب أفضل لبقية دول العالم وفي مقدمتها البلدان العربية والنامية من نظام القطبين.