انفجار بيروت.. تداعياتٌ اقتصاديّةٌ بأبعادٍ جيوسياسيّة

news image

لا يزال لبنان يعيش على وقع تردّدات الانفجار الهائل الذي دمَّر القسم الأكبر من مرفأ بيروت وأَلحق أضراراً جسيمة بالمناطق المُحيطة به من المدينة. لقد سبَّب هذا الحَدَثُ المروّع خسائرَ بشريّة واقتصاديّة وعمرانيّة فادحة، وتركَ وسيَترك تداعياتٍ خطيرة بعيدة المَدى على لبنان وشعبه ومُستقبله كدولةٍ وككيان، وعلى مَوقعه ودَوره على مستوى الإقليم، تداعيات ذات أبعاد اقتصاديّة وسياسيّة وجيوسياسيّة.

لقد اضطَّلع مرفأ بيروت بدَورٍ محوري في الاقتصاد اللّبناني بوصفه المرفأ الرئيس في لبنان، ولعبَ دَوراً أساسيّاً في عمليّات الاستيراد والتصدير، وبالتالي في تحريك العجلة الاقتصاديّة في البلاد، حيث كان يؤمِّن ما يقارب 72% من حركة الاستيراد والتصدير، و89% من مجمل عمليّات نقْل الحاويات، ويحقِّق لخزينة الدولة دخلاً سنوياً قدره 270 مليون دولار (وصلت إلى 313 مليوناً في العام 2018)، ويقوم بدَور كبير في حركة الترانزيت إقليميّاً. وبالتالي، فإنّ توقّف المرفأ، ولو لفترة قصيرة، ستنجم عنه خسائر لا تعوَّض للاقتصاد اللّبناني المُتهالك أساساً.

فعلى مستوى الاقتصاد الكلّي، كان لبنان يُعاني أزمة متعدّدة الأوجه (اقتصاديّة، ماليّة، نقديّة)، كانت من أسباب الانتفاضة الشعبيّة والاضطّرابات التي رافقتها وأدَّت إلى توقُّف العجلة الاقتصاديّة في البلاد. وتفاقَمت الأزمة نتيجة تفشّي وباء كوفيد-19 ليضيف بُعداً صحيّاً على الأزمة، بما يُهدِّد الأمن الصحّي للمُجتمع اللّبناني، مع ما ينطوي عليه ذلك من تداعيات اقتصاديّة مدمّرة، تتمثّل في تعطُّل قطاعات اقتصاديّة بكاملها وتفاقُم البطالة بوتائر مُخيفة وإفقار مُريع لما يزيد على نصف الشعب اللّبناني. كلّ ذلك دفع البنك الدولي إلى توقُّع انخفاض بنسبة تزيد على 10% في إجمالي الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2020. تلك كانت صورة الاقتصاد اللّبناني قبل الرابع من آب (أغسطس) الأسود. ويُجمِع المُحلّلون الاقتصاديّون على أنّ الخسائر الناجمة عن الانفجار جسيمة، تُقدَّر ما بين 5 مليارات و15 مليار دولار (تشير تقديرات البنك الدولي إلى 8,2 مليار). وثمّة نوعان من الخسائر. الخسائر المُباشرة نتيجة التدمير الذي أصاب المرفأ، وطال المَرافق والتجهيزات والأصول، وكذلك الأضرار التي أصابت المباني السكنيّة والتجاريّة في الأحياء المُجاورة ومحتوياتها (قُدِّرت هذه الخسائر الأوليّة بخمسة مليارات دولار، أي بنحو 9,3% من قيمة الناتج المحلّي الإجمالي لعام 2019 والبالغة 53,37 مليار دولار. وهي تُعادل 4 أضعاف قيمة سندات "اليوروبوند" التي تخلَّف لبنان عن سدادها في آذار (مارس) الماضي والبالغة 1,2 مليار دولار، كما تُعادل قرابة 25% من احتياطي مصرف لبنان من النقد الأجنبي لحظة وقوع الانفجار)؛ والخسائر غير المباشرة الناجمة عن توقُّف المرفأ عن العمل وتعطُّل الأنشطة الاقتصاديّة فيه لفترة من الزمن قد تطول، وما يسمّى خسائر الفُرص الضائعة نتيجة هذا التوقُّف. يُضاف إلى ذلك حرمان الدولة من جزء مُعتبر من مداخيلها السنويّة من رسوم جمركيّة وضرائب مُختلفة على الأنشطة الاقتصاديّة. ونتيجة لذلك، توقَّع البنك الدولي حصول انخفاض إضافي في الناتج المحلّي الإجمالي بمقدار 0.4 نقطة في العام الحالي، و0,6 نقطة في العام المُقبل. وفي المحصّلة، فإنّ الكارثة لن تؤدّي إلى انكماش النشاط الاقتصادي فحسب، بل إلى ما يُشبه الانهيار في مُختلف قطاعات الاقتصاد اللّبناني، وإلى تفاقُم البؤس الذي يصيب فئات المُجتمع الأكثر فقراً، وكذلك إلى انسحاق الطبقة الوسطى التي تمثِّل، عادة، الركيزة الأساسيّة والمَصدر الرئيس للازدهار والاستقرار في الاقتصادات والمُجتمعات كافّة.

في التداعيات السياسيّة والجيوسياسيّة

من المعروف أنّ مرفأ بيروت لعب، تاريخياً، دَوراً بالغ الأهميّة في الاقتصاد الإقليمي، ويُعدّ واحداً من أهمّ الموانئ في الحوض الشرقي للبحر المتوسّط (يقدَّر عدد السفن التي ترسو فيه سنويّاً بما يزيد على 2000 سفينة)، ويحتلّ المرتبة 73 على مستوى التجارة الدوليّة، والمرتبة التاسعة على مستوى المنطقة، ويتمتّع بقدرة تنافسيّة عالية، تتمثّل في مَوقعه الجغرافي وتوافُر التجهيزات اللّوجستيّة والخبرات العالية. وبفضل مَوقعه الاستراتيجي كان هذا المرفأ، الذي افتُتح في العام 1894، بمثابة البوّابة الرئيسة لحركة التجارة (الترانزيت) نحو الداخل العربي. وكانت توضع الخطط الطموحة لتعزيز هذا الدَّور من خلال تطوير المرفأ نفسه، وكذلك شبكة المواصلات التي تربطه بالبلدان العربيّة. ومن الواضح أنّ ما حصل يوجِّه ضربة قاصمة لكلّ هذه الطموحات ويُخرِج مرفأ بيروت من المُنافَسة الشديدة الدائرة بين مرافئ شرقي البحر المتوسّط، لفترة طويلة من الزمن، ما قد يفقده هذا الدَّور بصورة شبه نهائيّة. كلّ ذلك يدفع إلى الظنّ بأنّ تدمير مرفأ بيروت قد يكون الهدف منه استكمال تطويق لبنان وإضعافه. ويُمكن وضع ذلك في سياق حسابات جيوسياسيّة واستراتيجيّة في إطار ما يسمّى "حرب المَرافئ" في هذا الجزء من العالَم، فالطموح الإسرائيلي واضح في السعي ليحلّ مرفأ حيفا مكان مرفأ بيروت ويَنتزع منه دَوره التاريخي كصلة وصل بين الشرق والغرب.

ويأخذ هذا التنافُس بين المرفأَين أبعاداً جديدة في ضَوء الخطط الصينيّة البعيدة المدى لإحياء طريق التجارة الدوليّة ("طريق الحرير") القديم بين الصين والغرب، مروراً بالشرق الأوسط، عبر مدّ شبكات سِكك حديد جديدة ومتشعّبة وتوظيف استثمارات كبيرة في عددٍ من المرافئ ومن بينها ميناء حيفا، وتعزيز الحضور الروسي في المنطقة تحقيقاً للحُلم الروسي الدائم في إيجاد مَوقع قَدَمٍ راسخٍ في المياه الدافئة جنوباً، ومُحاولات إيران الحثيثة إثبات وجودها كقوّة إقليميّة مؤثِّرة، وكذلك الحراك التركي المُتزايِد للاضطّلاع بدَورٍ إقليمي فاعل على أكثر من جبهة والسعي لإعادة النظر بحدود بحريّة وبريّة رُسمت عقب الحرب العالَميّة الأولى وأمّنت السيطرة الاستراتيجيّة الغربيّة على البحر المتوسّط. في مُواجهة ذلك كلّه، تندرج الجهود الغربيّة (الأميركيّة والفرنسيّة في الدرجة الأولى) للحفاظ على مَواقع القوّة والنفوذ في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق بالتحديد نَضع الاندفاعة الفرنسيّة في اتّجاه لبنان، بما يتجاوز ما يُحكى عن روابط تاريخيّة بين البلدَين وتضامُن إنساني.

فقد استثارت الكارثة التي حلّت ببيروت مَوجة تعاطُف شعبيّة وسياسيّة وإعلاميّة عارمة على المستويَين العربي والدولي لم يشهد لبنان مثيلاً لها، حتّى في أحلك مراحل حربه الأهليّة. وكان هذا التعاطُف صادقاً أمام هول الكارثة، ولاسيّما على المستوى الشعبي، وإلى حدّ كبير على المستويَين الرسمي والإعلامي؛ فقد سارعت دول شقيقة وصديقة لمدّ يد العون للبنان في محنته، ولا شكّ لدينا في صدق عاطفتها واندفاعتها المشكورة. بيد أنّ الدول، وخصوصاً الكبرى منها، ليست جمعيّات خيريّة، ولكلّ واحدة منها مَصالحها وأهدافها وتحالُفاتها وتطلّعاتها لتوظيف ما حصل في إطار الصراع الدائر على مواقع النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، والتنافُس الشديد بين مراكز القوى العالَميّة فيها، في ضوء الاكتشافات الجديدة لمَكامن الثروة النفطيّة والغازيّة فيها وسعي هذه القوى للهَيمنة عليها. فمن المعروف أنّ النفط (والغاز) مادّة قابلة للاشتعال، ليس بالمعنى الحرفي للكلمة فحسب، بل والسياسي أيضاً. فحيث توجد كميات كبيرة منه، يصبح "الحريق" أمراً شديد الاحتمال. وهذا ما يُفسِّر احتدام المُنافَسة على النفوذ في لبنان وشرق المتوسّط عموماً، وخصوصاً في ضوء الأصوات والدعوات التي تصاعدت في لبنان في الآونة الأخيرة والداعية إلى التوجُّه شرقاً، أو بالأحرى فتْح كلّ الخيارات، سواء أكانت شرقيّة أم غربيّة، للخروج من أزماته الماليّة والاقتصاديّة المُتفاقِمة وإيجاد الحلول لها.

أيقونة المُدن العربيّة

لقد أدَّت الكارثة إلى استجلاب التدخّلات الخارجيّة في الشؤون الداخليّة للبنان (أو بالأحرى تزايدها، وهي الحاضرة أصلاً في الواقع اللّبناني منذ أن وُجد لبنان)، وإلى تقاطُر كِبار المسؤولين والمبعوثين من دول، بعضها كبرى، لزيارة لبنان والتقاء مسؤوليه وبعض مُمثّلي القوى السياسيّة والمُجتمع المدني فيه، بل ونزول بعضهم إلى الشارع والاستماع إلى شكاوى الناس العاديّين ومَطالبهم وتقديم الوعود لهم، مع عدم مُراعاة أبسط مَظاهر السيادة الوطنيّة وتجاوُز واضح لكلّ اللّياقات والأعراف الدبلوماسيّة التي تحكم العلاقات السياسيّة بين الدول. فلم يَجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حرَجاً في تقديم "النّصح" حول الاصلاحات المُفترَض القيام بها لإخراج البلد من أزمته الاقتصاديّة والسياسيّة، ووضْع الأُطر الزمنيّة والسياسيّة التي يراها مناسبة لتشكيل الحكومة الجديدة ورسْم مسار سياستها الإصلاحيّة. فبدا الأمر وكأنّنا أمام وصاية جديدة، أو بالأحرى انتداب جديد يُطلّ برأسه عشيّة مئويّة قيام لبنان الكبير. وأدَّت الكارثة أيضاً إلى تزاحُم السفن والبوارج الحربيّة الأجنبيّة أمام الشواطئ اللّبنانيّة بحجّة تقديم المُساعدة في إزالة آثار الانفجار.

وإذا كانت مَوجة التعاطُف قد أسهمت، نسبيّاً، في فكّ الطوق الاقتصادي والمالي والسياسي المفروض على لبنان منذ قرابة العام، فإنّ ما حصل أدّى عمليّاً إلى تحوُّل لبنان إلى ساحة مكشوفة هذه المرّة، للصراعات الاستراتيجيّة الدائرة في الإقليم، والتي قد تُسهم نتائجها في إعادة رسْم الخريطة الجيوسياسيّة للمنطقة. ومن الأكيد أنّه سيحصل تسابُق وتنافُس بين دول عديدة للفَوز بعقود إعادة بناء المرفأ، وربّما تشغيله، وبشروط قد تضع هذا المَرفق الحيوي والبالغ الأهميّة محليّاً وإقليميّاً، في قبضة الجهة التي ستفوز بالعقد، مع ما يترتّب عن ذلك من هَيمنة على الاقتصاد اللّبناني، بحكم الدَّور الذي يلعبه المرفأ في هذا الاقتصاد. ومن الواضح أنّ الطبقة السياسيّة التي تمسك بزمام السلطة في البلاد منذ ثلاثة عقود، والتي أَظهرت الأزمة الاقتصاديّة والماليّة المُستفحِلة التي تعصف بالبلاد في السنوات الأخيرة، ثمّ كارثة المرفأ، مدى فسادها وعدم أهليّتها، أنّ هذه الطبقة السياسيّة ستكون عاجزة عن الوقوف بوجه التدخّلات الخارجيّة وحماية الوطن من أتون الصراعات الدوليّة، لا بل ستكون مستعدّة، ومن أجل الحفاظ على مواقعها في السلطة، للرضوخ للقوى الخارجيّة وتسليم مصير البلاد لها، مع ما يُمكن أن ينجم عن ذلك من فقدان لبنان لأمنه واستقراره وحريّة قراره.. ولاستقلاله في نهاية المطاف.

لكنْ، وعلى الرّغم من كلّ ما تقدَّم، فإنّ ثقتنا كبيرة بأنّ لبنان قادر على النهوض مُجدّداً من الركام والتغلُّب على أزماته السياسيّة والاقتصاديّة والصمود في وجه التدخّلات الأجنبيّة، وأنّ بيروت قادرة على محو آثار الكارثة واستعادة دَورها ومَوقعها بوصفها أيقونة المُدن العربيّة، المدينة الأكثر حيويّة وإشعاعاً وإبداعاً في عالَمنا العربي. والتاريخ شاهد على ذلك.

د. محمّد دياب / باحث في الشؤون الاقتصاديّة والجيوسياسيّة من لبنان - مؤسسة الفكر لعربي