أميركا والصين: ميدان المُواجَهة الأخطر

news image

ياسر هلال*

تحت وطأة وباء كورونا والانتخابات الأميركيّة، أَعلنت الصّين الخطوطَ العريضة لاستراتيجيّة "مَعايير الصين 2035" التي يُجمِع الخُبراءُ على أنّها ستُشكِّل مُنعطَفاً في صراعها مع الولايات المُتّحدة، فتنقله من التنافُس على مَوقِع الصدارة في المجالات الصناعيّة والتجاريّة والتكنولوجيّة، إلى التنافُس على وضْع قواعد وأُسس النِّظام الدوليّ، فالصين كما بات معروفاً تَستهدفُ المُشارَكة في إدارة هذا النِّظام وليس تدميره، والجلوس إلى جانب أميركا وليس مَكانها.

في المقلب الأميركي، يُسيطر جوٌّ من الارتباك في التعامُل مع الهجوم الصيني الشامل؛ فهل يَتواصَل تبنّي سياسة المُواجَهة بما يُهدِّد بنشوب حربٍ باردة وتقسيم العالَم إلى مُعسكرَيْن؟ وهي السياسة التي بَدأت تُحذِّر من مَخاطرها مَراكِز دراساتٍ استراتيجيّة مرموقة، مثل "تشاتام هاوس" و"راند"، وشخصيّاتٌ مؤثِّرة مثل هنري كسينجر، أم يتمّ تبنّي سياسة التعاوُن والتنافُس مع الصين، ما يعني الاعتراف بأنّ جَوهر المشكلة هو ضعف أميركا وليس قوّة الصين؟ ما يعني بالتالي أنّ الحلّ يستهدف تقوية أميركا بمُعالَجة مَواطِن الضعف المُتراكِمة، وليس إضعاف الصين.

لنبدأ بتسليط ضوءٍ بسيطٍ على ماهيّة وأهميّة المَعايير التقنيّة، وكيف هيَّأت الصين مقوّمات دخولها "نادي المَعايير الدوليّة"، فنُشير إلى أنّ المَعايير والمَقاييس التقنيّة حاضرة في كلّ مَناحي حياتنا اليوميّة، من قابس الكهرباء إلى السيّارات ذاتيّة الحركة، وصولاً إلى الصناعات العسكريّة. واعتماد معايير موحّدة في التصنيع، هو الشرط الأوّل لكي تعمل مُنتجات الشركات والدول كافّة مع بعضها البعض. أمّا إذا وَضعتْ كلُّ دولةٍ أو شركةٍ مَعاييرها الخاصّة، فتُصبح المُنتجات محصورةً بأسواقٍ مُحدَّدة والدول أشبه بجُزرٍ مَعزولة عن بعضها البعض.

أمّا أهميّة المَعايير، فتتمثّل في أنّ الدولة أو الشركة التي تَضَع المَعايير وتتحكَّم بها، تَضمن مَسألتَيْن: الأولى زيادة إنتاجها بالحدّ الأقصى، طالما أنّها تَضمن ترويجه في أسواق العالَم كافّة. والثانية جني أرباح طائلة من بَيع حقوق ملكيّة هذه المَعايير.

وبالنسبة إلى "مَعايير الصين 2035"، فتكمن أهميّتها في كَونها تتعلّق بالصناعات النّاشئة أو ما يُسمّى الثورة الصناعيّة الرّابعة، مثل شبكات الجيل الخامس، الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، الإنترنت الصناعي، الأمن السيبراني، الطاقة المُتجدِّدة، الصناعة البيئيّة، والأنظمة الصحيّة الذكيّة...إلخ.

هل تستطيع الصّين فرْض مَعاييرها؟

لم يأتِ طرْحُ "مَعايير الصين 2035" من فراغٍ، بل هو حلقة في سلسلة مُتكامِلة من سياساتِ وخططِ مُراكَمةِ عناصر القوّة على المستويات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والتقنيّة...إلخ. كما أنّ هذه المعايير جاءت استكمالاً للنجاح في تنفيذ "استراتيجيّة صناعة الصين 2025" التي كرَّست صدارتها عالَميّاً في الصناعة والتجارة الدوليّة وسلاسل الإمداد. يُضاف إلى ذلك قيامها بتهْيِئة أسباب نجاح استراتيجيّة المَعايير من خلال إنجازات مُتحقَّقة فعلاً على صعيد التفوُّق في شبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي والمُدن الذكيّة والآمنة؛ حيث قامت الصين بربْط تنفيذ مشاريع البنية التحتيّة المُنفَّذة في إطار "مُبادَرة الحِزام والطريق" باعتماد المَعايير التقنيّة الصينيّة. وتمّ إبرام أكثر من 116 اتّفاقيّة لإنشاء مُدنٍ ذكيّة وآمِنة، من بينها 25 مشروعاً في مُدنٍ أوروبيّة. ومن الإنجازات الجديرة بالذكر في هذا المجال، تلك المُتعلِّقة بالاقتراح الصيني المُقدَّم إلى الاتّحاد الدولي لاعتماد "بروتوكول الإنترنت الجديد"، والذي سيتمّ اختباره خلال الربع الأوّل من العام الحالي.

عَناصِرُ قوّةِ الصّين

لكي نَضع الأمورَ في نصابها الصحيح، فإنّ قدرة الصين على فرْض مَعاييرها، لا تتوقَّف على الجانب التِّقني للمعايير ذاتها وعلى تَهْيِئة البيئة التقنيّة لتعميمها فحسب، بل ترتبط أساساً بالقوّة السياسيّة والاقتصاديّة وحتّى العسكريّة للصين. فالمَعايير الدوليّة لا تُفرَض بقوّة الحقّ والعدل، بل بقوّة الدول ونفوذها.

وإذا كان التفوُّق الصيني في الجانب الاقتصادي بات معروفاً، حيث تُسجِّل الصين نموّاً مُطّرداً بمُعدّلاتٍ قياسيّة، وإنتاجاً صناعيّاً مُتقدِّماً، وبيئةَ أعمالٍ جاذِبة للشركات الدوليّة، وسيطرةً على التجارة الدوليّة وسلاسل الإمداد، فهناك مجالات اعتُبرت تقليديّاً تحت سيطرة أميركا بلا مُنازِع، تمكَّنت الصين من تسجيل اختراقاتٍ مُهمّة فيها، نكتفي بالإشارة إلى ثلاثة منها:

1. تدويل العُملة الصينيّة

قَطعت الصين شَوطاً طويلاً في فَرْضِ نفسها لاعِباً رئيساً في المجالات الماليّة التي تحتكرها أميركا، فحقَّقت اختراقاً مُهمّاً في تدويل العملة الصينيّة وجعْلها عملةً للاحتياطيّات والتبادُل إلى جانب الدولار. فبعد نجاحها باعتماد اليوان كعملة خامسة في سلّة عُملات صندوق النقد الدولي المكوِّنة لحقوق السحب الخاصّة، يبدو أنّها ستنجَح قريباً بزيادة حصّة اليوان البالغة حاليّاً 8.3 في المئة على حساب الدولار واليورو. كما قامت في العام الماضي بخطوتَيْن كبيرتَيْن، كانت الأولى الإعلان عن قابليّة تحويل اليوان إلى ذهب تماماً، كما فَعلت الولايات المتحدّة بموجب اتّفاقيّة بريتون وودز لعام 1944، وباشَرت بتسديد ثمنِ النفط المُستورَد باليوان أو بالذهب.

أمّا الخطوة الثانية، فكانت الإطلاق التجريبي لليوان الرقمي العام الماضي، والذي يُعتبر اختراقاً كبيراً في تطوير البنية التحتيّة للتكنولوجيا الماليّة العالَميّة، بخاصّة في ظلّ الانتشار الواسع لتطبيقات WeChat وAliPay؛ إذ يُقدَّر حَجْم المُعاملات النقديّة التي تتمّ إلكترونيّاً في الصين بحوالى 90 في المئة. ويُتوقَّع أن يَشهد العام الحالي الإطلاق الدولي لليوان الرقمي، واحتمال استخدامه لتسعير السلع بدلاً من الدولار، بخاصّة أنّ بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) هو الذي يُصدره ويَضمنه.

2. تعزيز الحضور في المؤسّسات الدوليّة

بَذَلَت الصين على مدى العقدَين الماضيَيْن جهوداً حثيثة وأَنفقت عشرات مليارات الدولارات لتعزيز وجودها ونفوذها في المُنظّمات والهيئات الدوليّة، بما يَكفل تناغُم هذه المؤسّسات ولو بالحدّ الأدنى مع رؤيتها وخُططها، مع تركيزٍ واضحٍ على صندوق النقد والبنك الدوليّين بهدف زيادة قوّتها التصويتيّة فيهما، وذلك في مُقابل انسحاب أميركا من هذه المُنظّمات أو تقليص دعمها لها. ومن المؤسّسات ذات الصلة المُباشرة بالمَعايير التقنيّة، نُشير إلى المُنظّمة الدوليّة للمعايير (المقاييس) ISO، التي تحتلّ الصين منذ العام 2008 مَركزَ العضو السادس الدائم فيها. كما تمَّ في العام 2015 انتخابُ رئيسٍ صيني للمُنظّمة. وحَصَلَ الأمرُ نفسه في اللّجنة الكهروتقنيّة الدوليّة، وهي من أهمّ هيئات المعايير، ويشمل نشاطُها قِطاعات الكهرباء والإلكترونيّات والتقنيّات المُتعلِّقة، حيث نما نفوذ الصين فيها ليصل إلى تعيين ينبياو شو رئيساً لها في كانون الثاني (يناير) 2020. كما تمّ في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، إعادة انتخاب هولين جاو كأمينٍ عامّ للاتّحاد الدولي للاتّصالات، ليبدأ ولايته الثانية والأخيرة الممتدَّة لأربع سنوات قي 1 كانون الثاني (يناير) 2019.

3. عَسْكَرَة الحِزام والطَّريق

لمّا كان التنافُسُ على النفوذ والمَصالِح، يحتاج إلى قوّة عسكريّة رادِعة تُسهم في "تجنُّب تحوُّل المُنافَسة إلى صراع وحروب" على حدّ تعبير الرئيس الصيني، فقد ظَهَرَ تطوّرٌ بالِغ الدلالة على صعيد عقيدة الجيش الصيني ليُصبح الدِّفاع عن مَصالِح الصين جزءاً من مسؤوليّته، وليس الدفاع عن الأراضي الصينيّة فقط. وترافَقَ ذلك مع خطط لتعزيز هذا الجيش بزيادة الإنفاق العسكري إلى 320 مليار دولار. وتمَّت تَرْجَمَةُ هذا التغيير بالسعي إلى "عسكَرَة طريق الحرير"، فتمّ في العام 2017 تدشينُ أوّل قاعدة عسكريّة بحريّة فى جيبوتى، مع العمل على تعزيز الوجود العسكري في باكستان وبنغلاديش وميانمار وسريلانكا والمالديف، وبخاصّة أنّ الولايات المُتّحدة تَمتلك حوالى 279 قاعدة في منطقة آسيا والمُحيط الهادئ. كما باشَرت الصين بتطوير قوّاتها البَحريّة، فبدأت ببناء حاملات الطائرات والغوّاصات وكاسِحات الجليد التي تعمل بالطّاقة النوويّة.

أميركا بين خيارَيْ المُواجَهة والتعاوُن

تَقِفُ الولايات المتّحدة في ظلّ ولاية جو بايدن أمام مُفترقِ طُرقٍ في علاقتها مع الصين، بين مُواصَلة سياسة ترامب الصداميّة وصولاً إلى حربٍ باردة، وتقسيم العالَم إلى مُعسكرَيْن، وهو ما لا تريده الصين، لأنّه لا يُحقِّق مصالِحها؛ وبين الاعتراف بانتهاء مرحلة التفرُّد في قيادة العالَم، والإقرار بفَشَلِ سياسة المُواجَهة مع الصين وبدء مرحلة أخرى لَخَّصَها على أكمل وجه السيناتور الديمقراطي كريستوفر كونز بقوله: "يجب علينا بناء علاقة مع الصين تقوم على ثلاثة أعمدة هي: التعايُش، التعاوُن والمُنافَسة."

أمّا السياسي المُخضرَم هنري كيسنجر، فكان شديد الوضوح بالتحذير من "مغبّة نقل سِباق التكنولوجيا وصناعات المُستقبل وتقنيّات الذكاء الاصطناعي بين أميركا والصين، من ميدان التنافُس إلى ميدان الصراع المُدمِّر".

وسواء اختارت الولايات المتّحدة المُواجَهة أم المُنافَسة، فهناك شبه إجماع بين الباحثين في مَراكِز الدراسات على أنّ الشرط الأساسي للنجاح، هو ترتيب البَيت الأميركي الذي بدأ يتداعى تحت وطأة أزمة الثقة بين مكوّناته العرقيّة والطبقيّة، فضلاً عن تداعيات الأزمات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وأخيراً الصحيّة. والوصفة النّاجِعة هي استعادة أميركا عَناصِرَ قوّتها، وليس إضعاف الصين. وقد لخَّص المُرشَّحُ الرئاسي أندرو يانغ الوضعَ بقوله "إنّ صعود الصين لا يُشكِّل تهديداً مُباشراً للولايات المُتّحدة، طالما نحن أقوياء في الداخل".

*كاتب وإعلامي اقتصادي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي