هويّة الحالة العقليّة.. مَن يُحدِّدها؟

د. صلاح إسماعيل*
اختلفت المذاهب الفلسفيّة في الإجابة عن أسئلة من قبيل: ما الطبيعة النهائيّة لما هو عقليّ؟ وما طبيعة الحالات العقليّة؟ قالت ثنائيّة الجوهر إنّ الطبيعة النهائيّة لما هو عقليّ، لا بدَّ من أن توجد في جوهرٍ عقليّ لاماديّ. ورأتِ السلوكيّة أنّ استعدادكَ للسلوك بطريقةٍ معيّنة في ضوء مثيرات معيّنة هو حالتك العقليّة. أمّا نظريّة الهويّة فتُطابِق الحالات العقليّة بحالات المخّ. وإذا كانت السلوكيّة تردّ الحالاتِ العقليّة إلى سلوك، وتردّها نظريّةُ الهويّة إلى حالاتٍ مخيّة، فإنّ الوظيفيّة لا تفعل كذلك، وإنّما تقول إنّ الحالات العقليّة تتشكَّل عن طريق علاقاتها السببيّة بعضها ببعض، وبالمُدخلات الحسيّة والمُخرجات السلوكيّة. تهدف هذه المقالة إلى بيان جوهر وظيفيّة الآلة، وأصولها، وموقفها بين التأييد والنقد.
نَشَرَ هيلاري بتنام في العام 1967 مقالتَيْن هُما "المحمولات النفسيّة"، و"الحياة العقليّة لبعض الآلات". وإذا الفلاسفة ينصرفون عن فيزيائيّة النمط ونظريّة الهويّة، وإذا هُم يطيلون النَّظر في التماثُل بين العقول والآلات اعتماداً على فكرتَيْن. فأمّا أولاهما فهي النّزعة الحسابيّة التي تَزعم أنّ الكائنات الحيّة ذات العقول هي أنظمة حاسبة، وأنّ العقل نظامٌ يقوم بمُعالجة المعلومات، بناءً على مجموعة من القواعد الحسابيّة. وأمّا الأخرى، فهي الوظيفيّة القائلة إنّ امتلاك عقل هو مجرّد امتلاك النَّوع الصحيح من التنظيم الوظيفي.
تسعى الوظيفيّة إلى حلّ مشكلة العقل والجسم. تقول فكرتها الجوهريّة إنّ هويّة الحالات والحوادث العقليّة (مثل الاعتقادات، والأفكار، والآلام) تتحدَّد عن طريق علاقاتها الوظيفيّة أو السببيّة بالمُدخلات الحسيّة، والمُخرجات السلوكيّة اللّفظيّة وغير اللّفظيّة، وحالات عقليّة أخرى. خُذْ مثلاً حالةً عقليّة بسيطة وهي الألم. تَجِد أنّ الوظيفيّة تَصف الألم على أنّه حالة تنشأ عن إدراكٍ مُثير ضارّ بالجسم، مثل تطايُر الزيت المغلي على يد فاطمة، واستجابتها بالصياح وقولها "آه"، والنَّظر إلى يدها بانزعاج، واعتقادها بأنّها تتألَّم، ورغبتها في التخلُّص من هذا الألم، وتذكُّرها لحادثةٍ مُماثلة وقعتْ لها من قَبل، وأملها في أنّ استخدام المَرهم سوف يخفِّف الألم.
وتُقرِّر الوظيفيّة أنّ الخصائصَ العقليّة هي خصائص وظيفيّة، وهي في هذا تُشبه ترس الساعة، مثلاً. يكون الشيء ترس ساعة بمقتضى ما يفعله أو ما يُمكن أن يفعله، مثل كونه قادراً على تحريك تروسٍ أخرى كي تدور عقارب الساعة. وما يُكسِب ترس الساعة هويَّتَهُ، ليس المادّة التي صُنع منها، إذ يُمكن أن يُصنع من موادٍّ كثيرة، وإنّما الدَّور الذي يؤدّيه داخل النظام الذي ينتمي إليه. وعلى هذا المنوال يَنسج الوظيفيّون تصوُّرَهم للحالات العقليّة، ويزعمون أنّ هويّة الحالة العقليّة تتحدَّد عن طريق الدَّور الذي تؤدّيه داخل النظام المعرفي، أي العقل، الذي تَقَعُ فيه. وترى الوظيفيّةُ أيضاً أنّنا في تفسير ماهيّة العقل لا نحتاج إلى تحديد ما يتكوَّن منه العقل، وإنّما نحتاج بالأحرى إلى ما يفعله. وإن شِئْتَ أن تضعَ ذلك بعبارةٍ موجزة، فقُلْ: العقل هو ما يفعله المخّ.
أصول الوظيفيّة وخلفيّتها
على الرّغم من أنّ الوظيفيّة ازدهرت في الثلث الأخير من القرن العشرين، فإنّها تضرب بجذورها في الفلسفة القديمة والحديثة، وتستمدّ جانباً كبيراً من أفكارها من النظريّات السابقة عليها مثل السلوكيّة، ونظريّة الهويّة، بالإضافة إلى الذكاء الاصطناعي وعلوم الكمبيوتر.
ونستطيع أن نجدَ أصولاً للوظيفيّة في الفلسفة القديمة في نظريّة أرسطو في النَّفس. كان الرأي عند أفلاطون أنّ النَّفس شيء غير مادّي متميّز عن الجسم، وهذا نَوع من ثنائيّة الجوهر. ولكنّ أرسطو رفضَ رأي أفلاطون وقرَّر في كتابه "في النَّفس" أنَّ النَّفس البشريّة ليست منفصلة ومتميّزة عن الجسم، وإنّما هي صورته. وفكرة صورة الشيء فكرة أساسيّة عند أرسطو، ذلك أنّها تُسهِم في أداء وظيفة تعريف الشيء أو غرضه. فصورة السيف تُمكّنه من القطع، وصورة العَيْن تُمكّنها من الرؤية. والصورة ليست شيئاً مُنفصلاً عن الشيء الذي يملكها. وكذلك نَلمس شيئاً من أصول الوظيفيّة في الفلسفة الحديثة عند توماس هوبز، الذي تمسَّك في كتاب اللّيفياثان (التنّين) بوجهة نظر آليّة للأنظمة الحيّة بما في ذلك البَشر، مُستبقاً بذلك فكرة الوظيفيّة عن قابليّة التحقيق المتعدّد.
أمّا الخلفيّة المُعاصرة للوظيفيّة، فتُلاحظها في ثلاثة تطوُّرات أدَّت إلى ظهورها. أولّاً، حدثتْ عند منتصف القرن الماضي أشياءٌ عدّة دفعتْنا إلى تغيير طريقة تفكيرنا حول العقل. بَدأ الاستكشافُ الجادّ للفضاء الخارجي عندما أَطلقت روسيا السوفياتيّة قمراً صِناعيّاً في العام 1957. وترتَّب عن ذلك النَّظر في إمكانيّة وجود صور من الذكاء خارج نطاق الأرض. وثانياً، عند منتصف القرن الماضي أيضاً، كان هناك تطوُّرٌ آخر على مستوى اللّغة، ألا وهو التقدُّم في تعليم اللّغة للحيوانات غير البشريّة والشمبانزي بخاصّة. وأظهرت التجارب مع الرئيسات الأخرى والدلافين أنّها تملك صورةً ما من الحالات العقليّة. وثالثاً، عند منتصف القرن الماضي أيضاً، ظهر الذكاء الاصطناعي والكمبيوتر في صورته الحديثة. وإمكانيّة وجود صور من الذكاء خارج نطاق الأرض، وازدياد الدليل على بعض القدرات العقليّة في الحيوانات غير البشريّة، والقدرات الذكيّة في أجهزة الكمبيوتر، أوحت إلى الفلاسفة أنّ الحالات العقليّة قابلة للتحقيق في أنواعٍ مختلفة من الأنظمة.
راجت الوظيفيّة بين أصحاب النّزعة الماديّة من فلاسفة العقل وعلماء الأعصاب وفي العِلم الإدراكي والذكاء الاصطناعي. ونالت الوظيفيّة دعْماً كبيراً بسبب التمثيلات بين العقول وأجهزة الكمبيوتر؛ إذ تُمثّل أجهزة الكمبيوتر أنواعاً وظيفيّة وأنواعاً قابلة للتحقيق على نحوٍ متعدّد. ويجيز لنا التماثل بين العقول وأجهزة الكمبيوتر أن نفكّر في علاقة العقل بالمخّ في حدود العلاقة بين البرامج وأجهزة الكمبيوتر. ويُمكن تشغيل البرنامج نفسه على أجهزة كمبيوتر متميّزة فيزيائيّاً. وتستطيع أن تُساير الوظيفيّة في أنّ حلّ مشكلة العقل والجسم يكمن في القول إنّ العقل مثل البرنامج الذي يعمل على الأجزاء الماديّة من المخّ. وتُعرف هذه الفكرة باستعارة الكمبيوتر، ومؤدّاها أنّ العقل بالنسبة إلى المخّ هو أشبه شيء بالبرنامج بالنسبة إلى جهاز الكمبيوتر. وتُعَدّ وظيفيّة الكمبيوتر، وهو الاسم الذي تُعرف به النظريّات الوظيفيّة القائمة على الحساب، جذّابة للغاية لأنّها توفِّر أساساً لنمْذَجَةِ نشاط العقل والمخّ كنوعٍ من الحساب، وتسمح بتطبيق الإطار النظري الأساسي لعِلم الكمبيوتر على عِلم الأعصاب الإدراكي وعلم النَّفس الإدراكي.
اقترحَ هيلاري بتنام الصورة المبكّرة من وظيفيّة الآلة التي تنظر إلى أيّ مخلوق لديه عقل على أنّه آلة تورنج Turing machine. وعلى الرّغم من أنّ وظيفيّة الآلة تتمتّع بأهميّة تاريخيّة، فقد تخلّى عنها بتنام في ما بعد. وعندما نتأمّل في كتابات الوظيفيّين في وقتنا الحالي، لا نجد تأييداً لهذه الصورة المبكّرة، وإنّما تنصرف عنايتهم، إمّا إلى الوظيفيّة التحليليّة أو إلى الوظيفيّة التجريبيّة.
حجج في صالح الوظيفيّة
الحجج التي تؤيّد الوظيفيّة هي نفسها المحاولات التي سَعتْ خلالها الوظيفيّةُ إلى اجتناب الصعوبات التي أزعجتِ النظريّتَيْن المُنافستَيْن لها، السلوكيّة ونظريّة هويّة العقل - المخّ. وحسبي الإشارة إلى حجّة قابليّة التحقيق المتعدّد النّاتجة عن المخاوف التي أُثيرت ضدّ نظريّة هويّة العقل - المخّ. وتتألَّف حجّة قابليّة التحقيق المتعدّد من مقدّمتَيْن ونتيجة. وتَعتمد الحجّة على قاعدة إنكار التالي: كذب التالي يَستلزم كذبَ المقدّم، وليس العكس.. إذا كانت فيزيائيّة النمط ملتزمة بإمكانيّة التحقيق الفردي للخصائص العقليّة، ولكنّ الخصائص العقليّة قابلة للتحقيق بشكلٍ متعدّد، فإنّ فيزيائيّة النمط خاطئة. وتأتي الحجّة في الصيغة الآتية:
1. إذا كانت فيزيائيّة النمط صحيحة، فيمكن أن تتحقَّق كلّ خاصيّة عقليّة بطريقةٍ فيزيائيّة واحدة.
2. من المعقول للغاية تجريبيّاً أنّ الخصائص العقليّة قابلة لتحقيقاتٍ متعدّدة.
إذن، من المعقول (تجريبيّاً) أن تكون فيزيائيّة النمط خاطئة.
نقد الوظيفيّة.. حجّة الزمبي
تُحاول النظريّات الوظيفيّة، سواء كانت تحليليّة أم تجريبيّة، تحليلَ الحالات العقليّة ووصفها في مصطلحاتٍ علاقيّة، وسببيّة على وجه التحديد. لكنّ الاعتراض على هذا التحليل هو أنّه لا يُمكن أن يُمسِك بالسمة الظاهراتيّة للحالات المتعلّقة بالخبرة. وتمتدّ هذه المخاوف بطبيعة الحال إلى الحالات القصديّة. ولذلك يُمكن تصنيف المشكلات التي تواجه الوظيفيّة في فئتَيْن. فأمّا أولاهما، فهي مشكلات الكيفيّات ويدخل فيها حجّة الكيفيّات المقلوبة، وحجّة الكيفيّات الغائبة، وحجّة الزومبي، وحجّة المعرفة، وحجّة النزعة الخارجيّة. وأمّا الثانية، فهي مشكلات القصديّة، ويأتي على رأسها حجّة الحجرة الصينيّة. وحسبي الإشارة إلى حجّة الزومبي، واعتراض النّزعة الخارجيّة النفسيّة.
الزومبي كائنٌ افتراضيّ مُطابِق فيزيائيّاً أو وظيفيّاً أو سلوكيّاً للإنسان العادي، ولكنّه يفتقر إلى الوعي. استخدمَ بعضُ أنصار ثنائيّة الخاصيّة، مثل ديفيد تشالمرز، إمكانيّة تصوُّر الزومبي في نقْد الماديّة أو الفيزيائيّة. والشيء المحقَّق أنّ تجربة فكر الزومبي لا تُثير مشكلاتٍ في وجه الفيزيائيّة فقط، وإنّما تُثيرها أمام الوظيفيّة أيضاً.
ولكن إذا كان بإمكان كائنَيْن مُتطابقَيْن وظيفيّاً أن يَختلفا في ما يتعلّق بما إذا كان لديهما حالات كيفيّة، فإنّ الوظيفيّة لا يُمكن أن تُفسِّر الكيفيّات بشكلٍ مناسب، وَمِنْ ثَمَّ تَفشل في تقديم نظريّة مناسبة في العقل. وبهذه الطريقة، تقدِّم حالة الزومبي نسخةً من اعتراض الكيفيّات الغائبة على الوظيفيّة. وتأتي حجّة الزومبي هكذا:
1. إذا كانت الوظيفيّة صحيحة، فمن المستحيل أن يكون هناك كائنان متشابهان تماماً وظيفيّاً، ولكنْ يختلفان في أنّ أحدهما يكون زومبيّاً فقط.
2. من المتصوَّر أن يتشابه كائنان وظيفيّاً، لكنّ أحدهما يكون زومبيّاً فقط.
3. إذا كان هناك شيء يُمكن تصوُّرُه، فهو مُمكن.
إذن، الوظيفيّة خاطئة.
وأنتَ ترى إذاً أنّ الفلاسفة ينقدون الوظيفيّة على أساس أنّها غير قادرة على تفسير الجوانب الكيفيّة لحياتنا العقليّة تفسيراً كافياً، أو قلْ إنّها تَجِد صعوبة في تفسير الوعي. ولكنّني أضيف إلى هذا النقد بُعداً آخر، وهو أنّ معظم النظريّات الفيزيائيّة المُعاصِرة في العقل، بما فيها الوظيفيّة، تدور حول ما يفعله المخّ. والرأي عندي أنّ التصوُّر المُلائم للعقل والحياة العقليّة للإنسان أوسع من أن نَحصرها في وظائف المخّ فقط، فهناك أعمال القلب من انفعالاتٍ ومَشاعر. وتؤكّد دعوى العقل المُمتدّ أنّ العمليّات الإدراكيّة لا ترتبط بجمجمة الأفراد فقط، وإنّما تُدمج مع عناصر أخرى من عناصر عالَمِنا الاجتماعي.
* أكاديمي ومفكّر من مصر
✍️ BETH – تعليق تحليلي
الزومبي لا يصرخ لأنه لا يشعر.
لكن الإنسان لا يصمت… لأنه ليس مجرد جهاز إدخال وإخراج.
في عمق هذا المقال، يُضيء الدكتور صلاح إسماعيل فجوة لم تُملأ بعد في العقلانية الغربية المعاصرة:
أنهم فككوا العقل إلى برنامج، وأغفلوا أن الإنسان لا يُقاس بوظيفة، ولا يُختصر في معالجة معلومات.
نحن لسنا آلات تورنج محسّنة، ولا حواسيب مطورة تلبس جلودًا بيولوجية.
نحن عقول تمتد إلى قلوب، وقلوب تمتد إلى مجتمع، ومجتمع يرتدّ إلينا… فكرةً وانفعالاً.
في الفلسفة، نسأل: "من يُعرّف العقل؟"
لكن في الإنسان، نعيد السؤال:
"من يشعر به؟"
🟨 هل نحن عقول فقط… أم كائنات تعي وتحب وتتألم؟