العربيّ متروكٌ لفضاءٍ يَحذفه سَلَفاً

news image

 

أحمد فرحات*

 

بإزاء السياسة المُتراجِعة على نحوٍ مخيف في العالَم كلّه اليوم، كَم تبدو الثقافةُ مثل موسيقى متلجْلجة، ضعيفة، تُذيب آخر مظاهرها بتجريداتها الهبائيّة.

كم تبدو راسبة، آفنة، لَزِجة ومُنشغلة لغواً بما لا تريد أن تفهمه أو تتأمّله أو تَقرؤه أو تَرصده... إلخ.

كم تبدو مثل صراخٍ ساذج، مكدود يواجه هاويته بتمرير إشاراتٍ لا تُعاين حتّى أفولها المريع.

كم تبدو منقطعة عن "جنون" البطولات والتحدّيات والمُغامرات الجريئة التي كان يتّسم بها رجالُها العظام من حَمَلة مَشاعل الحريّة والعدالة والحقّ لأجل الإنسانيّة المظلومة والمقهورة أينما كان، وبصرف النَّظر عن النتائج المُترتّبة عن ذلك، حتّى ولو جاءت مُخيّبة لآمالهم وتوقّعاتهم.

أصبح من مألوف القول إنّ الكلمة في حاجةٍ إلى أن تكون حرّة لتكون مُبدِعة وفاعِلة؛ غير أنّ الأنكى هنا أنّ قيَم الصراع ذاته بين ما يُسمّى الحريّة ونقيضها، والتي عاشَ البَشر على خطاباتها ردحاً طويلاً... يبدو أنّ هذه القيَم ما عاد لها أيّ شأن يُذكر في التداوُل السياسي والفكري الجدّي هذه الأيّام، عربيّاً وعالَميّاً. لقد طَمَسَتْها عن عمْد "قيَمٌ" و"أهدافٌ" سيو/ ثقافيّة من نَوعٍ آخر مُستهجَنٍ وفظيع.. والهدف في المحصّلة تزوير وتحوير كلّ شيء، بدءاً من التاريخ بمراحله، وانتهاءً بالمؤسّسات السياسيّة الدوليّة الكبرى التي نَشأت بعد الحرب العالميّة الثانية في العام 1945، والتي تمَّ ويتمّ الاستخفاف بها، وحَرْفُ أدوارها وقراراتها التي يُفترض أنها مُلزمة، وبالتالي التحكُّم بها وتوجيهها من طَرَفِ الدول الكبرى بحسب مصالحها، وفي طليعة هذه المؤسّسات الدوليّة منظّمة الأُمم المتّحدة وملحقاتها: "الجمعيّة العموميّة"، "مجلس الأمن"، "مَحكمة العدل الدوليّة"، "مجلس الأُمم المتّحدة لحقوق الإنسان"، "محكمة الجنايات الدوليّة"، "اللّجنة الدوليّة المَعنيّة بالمفقودين" وحتّى "المنظّمة العالَميّة للملكيّة الفكريّة".

من جانبٍ آخر، وبكلامٍ أجلى نقول إنّ التاريخ، مع الأسف، يَكتبه (كما هو شائع وحقيقي) المُنتصِر دوماً، وما أبعد هذا المُنتصِر في عالَمنا اليوم عن الثقافة بعُمق مداليلها وأسئلتها الكاشفة وغاياتها ومعارك نهوضها بالإنسان على المستويات كافّة.

إنّنا فعلاً في رعبٍ وجوديّ عرمٍ.. فالإنسان عموماً اليوم، والعربيّ منه بشكلٍ خاصّ، متروكٌ لفضاءٍ يَحذفه سَلفاً، ويَرميه بعيداً من أيّ محاولةِ لمْلَمةِ شظاياه واستعداده من جديد للانطلاق والتحدّي. وعلى العربيّ هنا أن يختار، إمّا أن يَستبدل ذاته بذات أخرى، أو "يموت" هكذا كمداً في عزلته المُتمادية.. وفي كلّ الأحوال، عليه استطراداً أن يَعتبرَ أنّ صوته النقديّ أو الاحتجاجيّ الباهت حتّى اللّحظة، ما هو إلّا عبارة عن مِعبرٍ شكليّ للّذي لم يَقلْه أصلاً.

***

في عصرِ مَكْنَنَةِ العمل وتأليلِه.. في العصر العلمي التكنولوجي والمعلوماتي المفتوح على الإدهاش المُستمرّ، والذي هو معجزة من معجزات العقل البشري المتقدّم، لم تَعُد مخاطبة الذّات والعالَم بالأساليب البالية إيّاها تُجدي.

لِنَرَ إلى مُجتمعاتنا العربيّة كيف صارت نتيجة ما دَرجنا عليه من لغة "سياسيّة" و"إيديولوجيّة" مُهترئة وأثريّة في كلّ شيء... لنرَ إلى أولئك الذين يركنوننا اليوم في أبعد صورة من صُور جهالة العصور الوسطى، مدعومين قطعاً، وبشكلٍ موصول، من دول الحداثة وما بعد الحداثة في الغرب نفسه، تلك التي تُترجِم وبدقّة "التعاليم النظريّة" التي رسَمها الأميركي من أصلٍ بريطاني برنارد لويس لتقسيم المنطقة العربيّة إلى دويلاتٍ إتنيّة وطائفيّة ومذهبيّة وقبائليّة وعشائريّة... إلخ؛ تتصارع في ما بينها إلى ما لا نهاية، وبالتالي تسهل السيطرة على ثروات العرب ومقدّرات العرب وحاضر العرب ومستقبل العرب، ويستحيل بعدها قيام أيّ نهضة عربيّة مُفترضة تُذكر بين أُمم العالَم النّاهضة.. والمشهد أمامنا يُفصِح عن نفسه بنفسه ولا يحتاج إلى أيّ دليل، حيث يتسيّد الآن سلطويّون تكفيريّون جُدد يتمنْطقون "بلغة دينيّة" يشوّهون بها الدّين الحنيف باسم الدّين الحنيف، وكِتاب الله باسم كِتاب الله، والحديث الشريف باسم الحديث الشريف، والتراث باسم التراث.. ويَذبحون هكذا بدمٍ بارد، وعن سابق قصد وتصميم، النَّفسَ التي حرَّم الله قتْلَها بغَير ذَنْب... والنتيجة مُراوَحة الذّات العربيّة الضحيّة في واقعها التراجيدي المعقّد حتّى إشعارٍ آخر، وانسحاقها بالتالي تحت شروط القسريّات المُضلّلة على أنواعها، يُمارسها أفرادٌ لا يحتكمون إلّا للغة الشَّره الدموي، وما تمّ تكليفهم به من أوامر عليا بحت سياسيّة، ودائماً تحت لافتة "التكليف الشرعي".

وهؤلاء "المكلّفون الشرعيّون" في المناسبة، تَراهم إلى جانب قتلهم الأبرياء من كلّ الأعمار، وسبي النساء، يُدمّرون كلّ شيء، ويتجرّؤون على كلّ شيء، باستثناء العدوّ الفعلي الذي يَغتصب الأرض ويبيد ناسَها ويَعبث بالمقدّسات وسائر الموروثات التاريخيّة والحضاريّة للمنطقة.. أكثر من ذلك نَجدهم وقد تحوّلوا إلى أدوات غرّيرة تُساعد هذا العدوّ على ترجمة مآربه، إنْ لم نَقلْ البدء بتنفيذ كامل أجندة خريطته السياسيّة ومشروعاته التوسّعيّة المشبوهة في المنطقة، رويداً رويداً.

بوجيز العبارة، وفي إطارٍ آخر من ثقافة البلطجة والغرائز، نرى أنّ شوكة هؤلاء لا تستقوي إلّا على ما تبقّى من مدارك وتفتّحات بشريّة عربيّة لا تُسقِط من حسابها البتّة مرجعيّةَ العقل وحجيّة العِلم. إنّنا نراهم، مثلاً، في غزوة دائمة للعقل العربي الأنواري للحؤول دون انطلاقته وتبلْوره في سدّة عقل كونوي جديد يَخدم مجتمعاته العربيّة وتطورّها.

لكن في المقابل، وعلى أرض الواقع، نَعرف سلفاً أنّ هؤلاء المصابين بغرغرينا التضخُّم الذاتي والرطانات المُتحجّرة، عبثاً يتصوّرون سيادةً لأفكارهم ونجاحاً لمشروعاتهم التكفيريّة الإلغائيّة.. ببساطة لأنّها تتناقض ومنطق الدّين والحياة والتاريخ والحضارة وتنظيم حياة الإنسان في دولٍ آمنة، عادلة ومستقرّة.

ومع هؤلاء يجب أن نُكرّر القول، بأنّهم أضرّوا بالإسلام ضَرراً فادحاً يصعب إصلاحه في مدّة زمنيّة وجيزة؛ وخصوصاً أنّ الأجيال الجديدة منهم، ليست أكثر بُعداً عن التسامُح والمرونة والفكر الوسطي فقط؛ وإنّما هُم أبعد وبأشواط هائلة عن قراءة القرآن الكريم قراءة صميميّة فاهِمة ومُستوعِبة، ولو في الحدّ الأدنى لآياته، وخصوصاً منها تلك التي تُحرِّم تكفير أيّ مُسلم يقرّ بالشهادتَيْن كقوله تعالى في سورة النساء 94: "يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضَرَبْتمْ في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لِمنْ ألقى إليكُمُ السلام لستَ مؤمِناً تبْتغونَ عَرَضَ الحياة الدّنيا، فعند الله مغانِمُ كثيرةٌ كذلك كُنتُم من قبْلُ فمنّ الله عليكُمْ فتبيّنوا إنّ الله كان بما تعمَلُون خبيراً".

ولا ننسيَنّ في هذا المناخ من الكلام التذكيرَ بأنّ هناك حركاتٍ تكفيريّة يصل تعدادها إلى الأربعين حركة، يـُنافِس بعضُها البعضَ الآخر على نَهْج التطرُّف والغلوّ ومُمارسات ذبْح البشر، حتّى أنّ جهةً تكفيريّة بعيْنها من بين تلك الجهات، رأت مثلاً أنّ مُطلق مُسلِم لا يشاركها "عقيدتها" و"تعاليمها الشرعيّة"، فهو دونما أيّ مناقشة زنديق، كافرٌ ويحلّ قتْله على الفور.

ومِن هنا يبدو ملحّاً جدّاً رفْع هذا السؤال:

مَنْ يا ترى، سيُسدِل الستارة على هذه التراجيديا الدمويّة المفتوحة في بلادنا، والتي لم يَسبق أن شهدنا مثيلاً لها في تاريخنا السيو/ ثقافي الدّيني المُعاصر كلّه؟!

ورأس الكلام في ما نتحدّث عنه بَعد، إنّما يتجسّد في ضرورة التوكيد على أنّنا في أمسّ الحاجة، هذه الأيّام، لقيام حملاتٍ فكريّة وسياسيّة نخبويّة وشعبيّة، قويّة ومؤثِّرة، من شأنها أن تُساعدنا على العودة إلى سياق الحياة الطبيعيّة التي تَعيشها باقي الأُمم والشعوب على هذه الأرض. 

^مؤسسة الفكر العربي