ماذا تخفي "الثلاثون المجيدة"؟

news image

"الثلاثون المجيدة" أو Les Trente Glorieuses، مُصطلحٌ صاغه الاقتصاديّ الفرنسيّ جان فوريستيه (Jean Fourastié (1907 - 1990 في كِتابه الذي أصدره بالعنوان نفسه في العام 1979؛ وهو يُشير إلى العقود الثلاثة (1945 - 1975) التي شهدت فيها الرأسماليّة ازدهاراً ونموّاً كبيرَين تمثّلا بامتلاك القدرات العِلميّة والبشريّة والتقنيّة وتوظيفها في تفعيل دَوراتها الاقتصاديّة، وفي تحقيق تراكُمٍ إنتاجيّ ملحوظ، رافقه ارتفاع معدّلات الناتج الإجماليّ العالَميّ بشكلٍ غير مسبوق، سواء بسبب الصناعات التحويليّة أم بسبب زيادة حجم التجارة الدوليّة وغير ذلك من العوامل الاقتصاديّة المتضافِرة؛ بحيث واكبَ هذا النموَّ ارتفاعُ الدخلِ الفرديّ في بلدان الدول الرأسماليّة المتقدّمة، وحتّى في خارجها. فما هي حقيقة ارتباط السنوات المجيدة هذه بالرأسماليّة؟

لا يختلف اثنان حول اقتحام الرأسماليّات الأوروبيّة الاستعماريّة الأسواقَ العالَميّة خلال النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، وتشكيله أحد الدّوافع القويّة في مَسيرة التطوُّر الرأسماليّ في التاريخ الحديث والمُعاصر. كما لا يخفى على أحد أنّ انتصار الحُلفاء في الحرب العالَميّة الأولى (1914 - 1918) قد شكَّل انتصاراً للدول الأقوى رأسماليّاً، ما عزَّزَ مَواقِعَ الرأسمال العالَميّ، وصولاً إلى انتصار الرأسماليّة كنهجٍ وكأنموذجٍ حتَّمَ على العالَم بأسره تبنّيه أو الاقتداء به، بقيادة الدولة الرأسماليّة الأقوى، أي الولايات المتّحدة الأميركيّة.

وأمّا عن السنوات الثلاثين المجيدة، فلم تكُن في واقع الأمر إلّا محطّة من محطّات الرأسماليّة لإنقاذ نفسها من أزماتها الدوريّة، والتي كان أبرزها قبيل الحرب العالَميّة الثانية، تلك التي عُرفت بأزمة "الكساد الكبير" (1929)، التي أفضت إلى النظريّة الكينزيّة، وما ترتّب عن هذه النظريّة لاحقاً من حلولٍ كان من بينها إيلاء الدولة مهمّة التدخُّل في النشاط الاقتصادي. بحيث تمثَّل أحد جوانب هذا التدخُّل بإيلاء الدولة مهمّة تلبية الحاجات الأساسيّة للناس سواء عبر دولة الرعاية كما في الولايات المتّحدة وغالبيّة الدول الأوروبيّة واليابان أم دولة الخدمات العامّة (صحّة، تعليم، بنى تحتيّة، فُرص عمل....) كما في كثير من دول العالَم النامية، ومن بينها الدول العربيّة. وقد توالت أزمات الرأسماليّة، بعد السنوات الثلاثين المجيدة تلك، فوقعَتْ أزمة النظام النقدي العالَمي مطلع سبعينيّات القرن المُنصرم، التي غدت أزمةَ تضخّمٍ وأزمةَ مديونيّةٍ طاولت بلداناً عدّة وأودت بها إلى الإفلاس، ثمّ إلى أزمة الديون الأوروبيّة أو ما يُسمّى بأزمة منطقة اليورو أو أزمة الديون السياديّة الأوروبيّة منذ نهاية العام 2009 التي طاولت دول منطقة اليورو (اليونان والبرتغال وإيرلندا وإسبانيا وقبرص)... وصولاً إلى أزمة المديونيّة العالَميّة، التي توقّع كثرٌ أن تحدث اليوم، لأسباب مُختلفة لا مجال لسردها الآن، في حين بدأت مَعالمها تتكشّف راهناً مع أزمة كورونا المُستجدَّة.

في محدِّدات انطلاق الرأسماليّة وأزماتها

تقوم الرأسماليّة على مبدأ مُراكَمة رأس المال الذي تَنتعش وتتطوّر به، بحيث يتحقَّق هذا التراكُم، الذي أسَّس له الانتقال من حركة تداوُل سلعة - نقْد - سلعة - إلى حركة نقْد - سلعة - نقْد، ونقْد أكثر، من خلال فائض قيمة هو فوق القيمة المدفوعة في الأصل، ويتوسَّع في نطاق تكرارٍ دائم لحركة تداوُل النقد كرأسمال بوصفه غاية في ذاته؛ الأمر الذي يسمح لرأس المال هذا بالتحرُّك بلا حدود، في إطار مُنافَسةٍ حرّة هي في حقيقتها القانون المُحرِّك للإنتاج الرأسمالي بوصفه قانوناً خارجيّاً وقسريّاً يخرج عن إرادة الأفراد ونواياهم. ففي مختلف مراحل تطوير قوى إنتاجها، وصولاً إلى الثورة العِلميّة والمعلوماتيّة الرّاهنة، التي أَنجزتْ في عقود ما لم تُنجزه البشريّة خلال قرون خلت، وأتاحت، من بين ما أتاحت من إنجازات، إنتاج بدائل لِما كانت البلدان الرأسماليّة المتقدّمة تستغلّه أو تَستورده من مواد أوّليّة لصناعاتها من مُستعمراتها السابقة، كالقطن والمطّاط وغيرها، لم تُغيِّر الرأسماليّة من جوهرها، أو من قانونها الداخليّ، أي مُراكَمة الرأسمال. هذا القانون الذي تنتعش هذه الرأسماليّة به وتنمو من خلاله، وغدا سبب تطوّرها وسبب أزماتها في آن. ذلك أنّ التطوُّر اللّامتكافئ داخل البلدان أو خارجها هو السمة المُلازمة للرأسماليّة من جهة، ولأنّ ثمّة تبايُناً قائماً بين القدرة الكبيرة على التوسّع في الإنتاج مقابل القدرة المحدودة على التوسُّع في الاستهلاك من جهة أخرى، ما يُحلِّل الكلام على الرأسماليّة كنَهجٍ أو كأنموذجٍ اقتصاديّ مولِّد في جوهره للأزمات.. وبالتالي ثمّة قوانين موضوعيّة تُحتِّم أن تستمرّ الرأسماليّة في تحقيق النموّ على حساب القطاعات الأقلّ نموّاً سواء في داخل البلد الواحد أم على صعيد علاقة المركز الرأسمالي عموماً بالأطراف.

أمّا في ظلّ الحرّيّة المُتزايدة باطّراد في تدفُّق التجارة ورؤوس الأموال والأفكار والناس التي دشّنتها العَولمة، وتغوُّل رأس المال وانفلاته من دون حدود، فإنّ تبعيّة الأطراف للمَراكز، عبر سيطرة رأس المال والشركات العابرة للقوميّات والبلدان، لم تتغيّر. فهذه التبعيّة لا تزال السمة المُواكِبة للتطوّر الرأسمالي، ويجري من خلالها تصدير أعباء الأزمات الدوريّة والهيكليّة إلى البلدان الأضعف والأقلّ نموّاً، سواء عبر افتعال الحروب والقلائل الأمنيّة فيها أم من دونه. الحالة الأولى، أي حالة افتعال الحروب، تُجسِّدها حرب الخليج الثانية أو حرب "عاصفة الصحراء" في العام 1991 التي قادتها الولايات المتّحدة كحلّ للركود الاقتصادي الذي عانت منه - طالما أنّ الحروب أحياناً تغدو مَنفَذاً وحلّاً تراكميّاً وتصريفيّاً -، كما تُجسِّدها الحروب المتوالية التي لم تُراعَ فيها القوانين الدوليّة وسيادة الدول.

أمّا الحالة الثانية التي يتمّ من خلالها تهيئة الأرضيّة للحروب والنزاعات، فيُجسّدها جهازٌ أيديولوجيٌّ (فكري وثقافي وإعلامي وتعليمي...) يُثير القلائل عبر ترويجه لفلسفة صراع الثقافات والأديان التي تمّ نسْجها في دوائر صنع القرار الرأسماليّة بعامّة، والأميركيّة بخاصّة، حيث تُغيِّب هذه الفلسفةُ جوهرَ الصراع الاقتصادي مُختزلةً إيّاه إلى صراع ثقافويّ يخفي معه مصالح الرأسماليّة المتغوِّلة وإمكانيّة ضبْط مَساراتها، ويُبرِّر زيادة الإنفاق العسكريّ لمُواجَهةٍ يقتضيها صراع الثقافات والحضارات المزعوم، وما يتبعه من ضرورة مُحاربة الإرهاب؛ فتحلّ الكراهيّة بين الجماعات بدل التضامُن، والشعبويّة بدل رؤية نظريّة نقديّة لعمليّة التطوّر الرأسمالي من شأنها تهْيِئَة البيئة المُلائِمة للضغط على الرأسماليّة. وهو أمر عَلَتْ الأصوات بشأنه في الآونة الأخيرة، وخصوصاً عند الكلام على السنوات الثلاثين المجيدة التي ما كان لمجدها أن يتحقَّق لو تُرك الأمر للمَسار الموضوعي للرأسماليّة. وفي مُراجعةٍ لهذا المَسار، يقول الاقتصادي الفرنسي أنطون برندر Anton Brender (في كتابه رأسماليّة وتقدُّم اجتماعي Capitalisme et Progrès Social الصادر في العام 2019) إنّ الرأسماليّة "قوّة قادرة على توليد الإنتاجيّة والكفاءة"، وإنّها في البلدان الرأسماليّة المتقدّمة، ولاسيّما في فرنسا، نجحت في "إنتاج السلع والخدمات التي جعلت حياة أكبر عدد من الناس أكثر راحة ومتعة. وإذا كانت الرأسماليّة قد اتّخذت هذا المَنحى، فذلك لأنّ مُجتمعاتنا دفعتها إليه. ذلك أنّه لو تُرك الأمر لها بمُفردها لما كانت قد ذهبت طويلاً في هذا الطريق. فعلى مدى السنوات الأربعين الماضية، تلاشت حدّة هذا الدَّفع/ الضغط بشكلٍ خطير."

الحاجة إلى براديغمات جديدة لفهْم العالَم

واليوم، إذا كان العِلم الذي يُشكِّل مدماك الثورة التكنولوجيّة والمعلوماتيّة الرّاهنة والتطوّر الرّاهن للرأسماليّة، قد انطلق كماردٍ من القمقم، على حدّ تعبير فؤاد مرسي، في كِتابه "الرأسماليّة تُجدِّد نفسها" (عالَم المعرفة - الكويت، 1990)، فإنّه بذلك انطلق "من قيوده جميعاً، لكنْ على العكس من مارِد الأسطورة فلن يعود العِلم مرّة أخرى إلى قمقم السحرة. فهو وحده ساحر العصر الحديث"، بحيث إنّ تراكُب العِلم والثورة التكنولوجيّة والمعلوماتيّة وتضافُرهما مع الرأسماليّة، يجعل من الصعب العودة إلى الوراء، كما يجعل من غير السهل التحكُّم بمفاعيل القوانين الاقتصاديّة الموضوعيّة للرأسماليّة الرّاهنة أو تغيير طبيعتها. ومن هنا رأى كثرٌ، ومن بينهم المفكّر الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي Thomas Piketty، ولاسيّما في كِتابه "رأس المال في القرن العشرين" (2013)، أنّ فترة "الثلاثين المجيدة" لم تكُن إلّا استثناءً بسبب مُراكَمة أوروبا على مدار الفترة المُمتدّة من العام 1914 إلى العام 1945 تأخّراً هائلاً في النموّ مُقارنةً بالولايات المتّحدة، ما مكَّنها بالتالي من سدّ تلك الفجوة خلال الأعوام الثلاثين المجيدة، إذ لا وجود في رأيه لهذه الأعوام المجيدة في أميركا الشماليّة، حيث نما نصيب الفرد من الناتج بالوتيرة نفسها بين 1820 و2012. وبالتالي نفى بيكيتي نفياً قاطعاً فرضيّة أنّ اللّامساواة، وضمناً الرفاه الاجتماعي، ستتراجَع تلقائيّاً مع تطوُّر الرأسماليّة، داعياً إلى نَوع من الملكيّة الاجتماعيّة والمؤقّتة بدلاً من الملكيّة الخاصّة من خلال فرْض ضريبة تصاعديّة على المُمتلكات.

وبالعودة إلى أنطون برندر، فقد رأى بدَوره أنّ الحلّ يكمن في العمل على تعزيز نهْج الديمقراطيّة الاجتماعيّة وإعادة الدعْم لمَساحات النقاش السياسي التقليديّة، من صحافة ونقابات وأحزاب، وإيلائها الدور أو القيمة التي فقدتها، ليُصار من ثمّة إلى مُمارَسة ضغط أكبر على الرأسماليّة، كما جرى في أزمنة سابقة، ووضْع الطاقات، مرّة أخرى، في خدمة التقدُّم الاجتماعي.

ولعلّ وباء كورونا أو كوفيد-19 بتداعياته المُختلفة التي ما زالت بعيدة عن بلوغ نهاياتها، ربّما يكون هو نفسه واقعة موضوعيّة لقلْب كلّ المعايير ووضْعنا أمام فرضيّات واحتمالات جديدة قد تُعزِّز حاجتنا إلى براديغمات جديدة لفهْم العالَم، ورسْم مَساراته، بما فيه مصلحة البشريّة جمعاء، وأيضاً المُراجَعة النقديّة لمسار الرأسماليّة وحقيقة السنوات الثلاثين المجيدة، أو لحقيقة "نهاية التاريخ" المُتداوَلة، بحجّة أنّ القدرات الخلّاقة للتطوّر البشري قد استُنفِدَت مع الرأسماليّة، أي مُراجعتها وغيرها.. وغيرها الكثير من المفاهيم والأفكار الرائجة.

لكنْ، وأيّاً كانت طبيعة الأسئلة والإشكاليّات التي تُطرَح الآن، فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ عالَم اليوم، العالَم الذي تَحتدِمُ فيه الحروب واستخدامات الأسلحة النوويّة والسامّة والأزمات الماليّة والاصطفافات الطبقيّة، سواء داخل كلّ دولة من دول العالَم أم بين القارّات والدول، والذي تزداد فيه المَخاطِر البيئيّة، عالَم ما بعد جائحة كورونا، لن يكون كما قبلها، لكنّه حُكماً لن يبلغ إنسانيّته بعصا سحريّة، وإنّما بجهود الفاعلين الاجتماعيّين، بما في ذلك جهود الدول، ولاسيّما منها الأضعف والأفقر والأكثر تهميشاً، فضلاً عن المنظّمات الدوليّة وهيئات المُجتمعات المدنيّة المحلّيّة والعابِرة للدول.

د. رفيف رضا صيداوي / مؤسّسة الفكر العربي