"البتكوين" والثورة المعلوماتيّة الثانية

news image

د. رحاب علي عميش*


اكتسحت الآلةُ المصانعَ الأوروبيّة ليشهد العالَم، وللمرّة الأولى في التاريخ، الثورةَ الصناعيّة الكبرى، التي نَقلتِ البشريّةَ من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، وهي ثورةٌ شكَّلت تحوُّلاً حضاريّاً كبيراً انعكسَ على المراكز القانونيّة المُستحدَثة مثل الملكيّة الصناعيّة ومسؤوليّة المتبوع وإصابات العمل. ولم تلبث البشريّةُ أن شهدت الثورةَ المعلوماتيّة التي نقلتِ العالَمَ إلى عصر المعلومات مطلع تسعينيّات القرن الماضي، فأصبح قريةً صغيرة تذوب فيها الحدود القوميّة لمصلحةِ ثقافةٍ عالَميّة موحّدة.

في ظلّ هذه الثورة المعلوماتيّة أضحى للجريمة مسرحٌ إلكترونيّ، وللمُعاملات عالَمٌ افتراضيّ، وللإجراءات مُستندٌ إلكترونيّ، لكنّ الإنسان ظلَّ هو اللّاعب الرئيس للسلوك، إرادته هي أساس المسؤوليّة الجنائيّة. واستمرَّت الدولةُ بأجهزتها الرسميّة والمركزيّة هي المتحكِّم الأكبر في البيانات المخزَّنة مركزيّاً على أجهزتها الخادِمة (Servers) من جهة، وهي المُسيطِر من خلال نظامها القانوني من جهة أخرى.

وقد حَدَثَ أن وقعتِ الأزمةُ الماليّة العالَميّة في العام 2008، فاهتزَّت الثقة في المعاملات البنكيّة والعقاريّة ليبدأ التفكير في التداوُل خارج سيطرة الأجهزة الرسميّة للدول، وبدأ البحث عن عملةٍ بديلة باستخدام التقنيّة المعلوماتيّة، وكانت عملة "البتكوين" BITCOIN ذات الوعاء أو حقل التداوُل القائم على قاعدة البيانات المصمَّمة على شكل شبكة البلوكتشين أو البلوك تشين Block chain أو سلسلة الكتل الآمنة التي صُمِّمت لتداوُل العملة الرقميّة، فكيف أثَّر ذلك على ثورة المعلومات التي شهدها العالَم مطلع تسعينيّات القرن الماضي؟ وما هي آثارها القانونيّة؟ وهل أدّى ذلك إلى ثورة معلوماتيّة ثالثة؟

البلوكتشين Blockchain وأهمّ تطبيقاتها

أوّلاً: العملة الرقميّة المشفّرة

 Crypto Currency كأهمّ مُخرجات تقنيّة الــ Blockchain

في العام 2008، قام شخص غير معروف في الأوساط الماليّة والنقديّة يدعى "ساتوشي ناكاماتو" بكتابة بحثٍ استحدَث فيه عُملةً رقميّة جديدة سمّاها "بتكوين" Bitcoin، وصمَّم لها قاعدة بيانات خاصّة بها هي الـ Blockchain أو نظام سلسلة الكِتل الآمنة، والتي هي عبارة عن نظامٍ للتخزين الحَوسبي موزَّع بشكلٍ لامركزي لتسجيل الأحداث والمُعاملات والعناوين، بحيث يستحيل معه التزوير أو تغيير أيّ بيانات مخزَّنة أو التلاعُب فيها، وذلك لسببَيْن: الأوّل لأنّ شبكة البلوكتشين تسمح بتسجيل كلّ مُعاملة وتشفيرها بشكلٍ يعتمد على تشفير البيانات السابقة، وهو ما يجعل أيّ تعديلٍ أو تحريفٍ للبيانات بحاجة إلى فكّ التشفيرات السابقة كلّها؛ والسبب الثاني هو أنّها تجعل تلك البيانات منسوخة في كلّ الأجهزة المرتبطة بها. فتتميّز البلوكتشين والحال كذلك بالعالَميّة واللّامركزيّة لكونها بمثابة "دفتر أستاذ" عالَمي لامركزي، يطَّلع عليه كلّ مُشترك ويعلم بكلّ تعديل يطرأ على أيٍّ من البيانات المخزَّنة فيه؛ لذا تمّ إطلاق عمليّاتٍ رياضيّة وحسابيّة معقّدة على شبكة البلوكتشين ينتج عن حلّها الحصول على عدد 1 "بتكوين" كمكافأة له، وهنا بدأت أوّل عمليّة تعدين تقنيّة في العالَم Mining لهذه العملة الرقميّة، فمَن يكسب "البتكوين" يسجَّل باسمه (الذي يظهر مشفَّراً) على قاعدة البيانات أو شبكة البلوكتشين، فلا يمكنه الادّعاء بغير ما يملك فعلاً. ويقوم المُستخدِمون بخصْم أو إيداع حساباتهم الرقميّة بهذه الوحدات الافتراضيّة من دون الإفصاح عن هويّتهم من خلال حساباتهم على الشبكة. من هنا أصبحت "بتكوين" قيمة ماليّة رقميّة عالَميّة يتمّ تداولها من دون وجود إدارة مركزيّة لها ومن دون الحاجة إلى وسيط بين طرفَيْ المعاملة. فكانت بدايةً لعصرٍ معلوماتيٍّ جديد يسمح بتداوُل عملة لامركزيّة لا تخضع، ولأوّل مرّة في التاريخ، لأيّ مؤسّسة حكوميّة مركزيّة.

في العام 2008، كانت قيمة وحدة "البتكوين" تساوي دولاراً أميركيّاً واحداً، لكنّها بدأت تنتشر على نطاقٍ واسع لشدّة الإقبال عليها، نظراً لما توفّره من خصوصيّة ولانعدام نفقات الوساطة والتحويل التي تطلبها البنوك، وقد ساعد ذلك على ارتفاع حجم التجارة الإلكترونيّة.

في المقابل، ظهرت عملاتٌ أخرى مثل الريبل XRP والإيثريوم ETH، لكنّ "البتكوين" BTC ظلَّ أشهرها وأكثرها انتشاراً ليصل سعره إلى 50 ألف دولارٍ شهر آذار/ مارس 2021، وذلك بعد انتشار جائحة كورونا، وذلك كلّه وسط ذهول المُراقبين وخبراء الاقتصاد. ويمكن إجمال أهمّ خصائص هذه العملة في:

أ. العالَميّة واللّامركزيّة (راجع مقال علا السيّد، "تدفّقات إلكترونيّة في مرحلة المخاض"، في دوريّة "اتّجاهات الأحداث"، مركز المستقبل، العدد الثاني، أيلول/ سبتمبر 2014). تختلف العملة الرقميّة عن النقود الإلكترونيّة، لأنّ هذه الأخيرة تظلّ نقوداً صادرة عن سلطة مصرفيّة مركزيّة، ولها أوعية تقنيّة مثل بطاقات الدفع الإلكتروني وبطاقات الائتمان Credit & Debit Cards لسهولة حملها ونقلها؛ فالجانب التقني هنا لا يشكِّل سوى وعاء حامل لها. أمّا جوهرها فيظلّ متمثّلاً في العملة الرسميّة للنظام النقدي للدولة المصدِّرة، في حين أنّ العملات الافتراضيّة Virtual Currency أو العملات المشفّرة Crypto Currency (كما تسمّى أيضاً) فيشكِّل الجانب التقني منها جوهر العملة نفسها، وليس لها سياسة نقديّة مركزيّة، ولا تخضع لغَير حركة العرض والطلب، سواءً أكان هو مالِكَها الأصلي الذي قام بتعدينها أم قامَ بذلك مُشترٍ آخر لها.

ب. الثقة والأمن المعلوماتيّ: حيث يتمّ نقل الثقة من الموظّف أو الأشخاص المسؤولين إلى قاعدة بيانات البلوكتشين في إطار نموذجٍ تعاونيّ وتكافليّ جديد لتنظيم العلاقة بين الإنسان والبيانات فتُصبح شبكة البلوكتشين نفسها هي الطرف الثالث الموزِّع لهذه العمليّة الموثَّقة وتتحوَّل الثقة مباشرةً إلى الأفراد أعضاء هذه الشبكة، ليصبح كلّ مُستخدِم مسهِماً في هذا التوثيق والإثبات والمُصادقةMarcelo Corrales, Mark Fenwick and Helena Haapio, Perspectives in Law, Business and Innovation. Springer Nature Singapore, 2019 - Digital Technologies

ثانياً: الآثار القانونيّة لتقنيّة البلوكتشين والعملة الرقميّة المشفّرة

بدأت بعضُ الدول الأوروبيّة والمُجتمع الدولي بالتنبُّه إلى خطورة ظاهرة العملة الرقميّة الخارجة عن سيطرة أيّ حكومة؛ فحثَّت الدولَ على فرْضِ العديد من الشروط على شركات التداوُل والائتمان، وأَطلق البرلمان الأوروبي مُعاهدة AMLD للكشف عن مالكي العملات الرقميّة، واتّخاذ الضوابط اللّازمة للكشف عن هويّة العُملاء لمُكافحة غسل الأموال، وهو ما لا يتأتّى إلّا عن طريق الاعتراف بالعملة الرقميّة. وفي أوّل وأهمّ سابقة قضائيّة لمحكمة تكساس، تعرَّضت المحكمة لتاريخ ظهور "البتكوين" واسم مصمِّمه، وهو شيء غير مألوف في الأحكام القضائيّة. وجاء بمنطوق الحُكم أنّ "البتكوين" عملة رقميّة لامركزيّة لشراء السلع والخدمات عبر الإنترنت بشكلٍ سريع، ومن دون مدير أو متحكِّم فردي. وأكّدت في حُكمٍ آخر أنّ "البتكوين" هو عملة ماليّة، وذلك في معرض رفضها الدفع المقدَّم من المتَّهم بجريمة تداوُل أموال من دون ترخيص، والذي نفى صفة الأموال عن "البتكوين"، لردّ التّهمة عنه، فما كان من المحكمة إلّا أن ردَّت عليه بأنّ "البتكوين" وسيلة للدفع، مقابل السلع والخدمات.

ثالثاً: العقود الذكيّة Smart Contract

بعد انتشار العملة الرقميّة بدأ التفكير في تطبيقاتٍ أخرى للبلوكشين، ما مهَّد لاستخدامها في مجال العقود، فظهر ما يسمّى بالعقود الذكيّة smart contract وهي برمجيّات حاسوبيّة بأوامر مشفّرة ذاتيّة التنفيذ، تتمّ من خلالها معاملات ماليّة بين طرفَيْن في وقتٍ محدَّد؛ فهي عقود تتمّ برمجتها في إطار إلكتروني بحيث يكون ذلك بمثابة التوثيق أو المُصادقة التي تُغني عن أيّ تصديق من جهة أخرى (هناء محمّد هلال الحنيطي، مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، دبي 2019). نفترض أنّ مُسافراً أراد أن يضمن سفره في موعدٍ من دون تأخير، فيقوم باستخدام العقد الذكي الذي ينصّ على أنّه في حال تأخُّر الرحلة عن الموعد المتَّفق عليه، يتمّ دفْع تعويضاتٍ له في غضون ساعات من دون أن يضطرّ المدّعي إلى اتّخاذ أيّ إجراءات قضائيّة أو تقديم إثباتاتٍ أخرى، هذا فضلاً عن الحماية من الاحتيال والمُطالبات الوهميّة (Maria Grazia Vigliott, The Executive Guide to Blockchain - Springer Nature Switzerland,2020).

خاتمة

أصبحت أهميّة شبكة البلوك تشين تتمثّل في كونها سجلّاً إلكترونيّاً لتسجيل المعاملات وتوثيقها مع القيام بدَور الوسيط الذي حلَّ محلّ الشهر العقاري والسمسار ووكالات تحويل الأموال لما في ذلك من ثقة عالية يستمدّها من لامركزيّته واستحالة تزويره. وبهذا، نصل إلى أنّ مفهوم سلطة الحكومات اليوم لم يعُد قائماً في التحكُّم المركزيّ في المُعاملات، بل أصبح قائماً في قدرتها على التعامُل مع هذه التقنيّة وإيجاد الأُطر اللّازمة لتقنينها بغية فرْضِ تدابير المُراقبة والمُلاحَقة المُلائمة والحدّ من استغلال هذه التقنيّة في الجريمة المنظَّمة وجرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب.


*أكاديميّة- كليّة القانون جامعة طرابلس/ ليبيا - مؤسسة الفكر العربي