عودة سويسرا الشرق أم مزيد من الخراب.. أيُّ مسارٍ سوف يؤول إليه الوضع في لبنان؟


بيروت - مروة شاهين - بث:
على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، و بمساحة لا تتجاوز إحدى عشر ألف كيلو متر مربّع، تصدّر لبنان، الدولة حديثة الولادة، قوائم البلدان المزدهرة بعد فترة وجيزة من نيله استقلاله في العام ١٩٤٣، حتى أصبح يُعرف بسويسرا الشرق، نطراً لازدهار قطاعه المصرفي و التجاري، و طبيعته الخلابة التي جذبت الانظار نحوه سواء من جهة الشرق او الغرب، و العرب و العجم.
مسار التحول من دولة تحت الانتداب إلى دولة "شبه أوروبية" :
استطاع لبنان أن يتفوق حضارياً و اقتصادياً و علمياً على غيره من دول المنطقة، على الرغم من كونه يتشارك معهم تاريخاً طويلاً من الحكم العثماني و الانتداب الفرنسي، و لكن بعد الاستقلال، توفرت في لبنان عوامل كثيرة جعلته قادراً على التطور و الازدهار اكثر من غيره من دول المنطقة، و ربما كانت ترجع هذه العوامل إلى وجود عدد معتبر من السكان المسيحيين في لبنان، ما وجّه الاهتمام الأوروبي و خصوصاً الفرنسي نحو هذا البلد الصغير، الذي أُنشِئ في الأصل كي يكون دولة مسيحية في قلب المحيط الإسلامي الكبير الممتد في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا.
الغرق في مستنقع صراع "الجيران" :
وعلى الرغم من الازدهار الواضح الذي شهده لبنان منذ استقلاله و حتى السبعينات، إلا أن الحساسيات الطائفية و القومية سببت اهتزازاً للوحدة اللبنانية، إذ شعر المسلمون في لبنان بالتهميش نتيجة تركز السلطات بيد المسيحيين، إضافة إلى تأثر لبنان بالأحداث التي كانت تجري على الأراضي الفلسطينية، و لجوء الفصائل الفلسطينية المسلحة إلى لبنان ، ما أحدث خللاً كبيراً في الأمن و موازين القوى و سبب في نهاية المطاف اندلاع حرب بين الفصائل الفلسطينية و فصائل مسلحة لبنانية من المسيحيين، و ثم دخول المسلمين إلى الصراع الذي تحول إلى حرب أهلية شاملة كلفت لبنان ما يقرب المئة و عشرون الف قتيل إضافة إلى ما يقرب المليون نازح، و اقتصاداً مهترءٍ لوطنٍ يعوث فيه الخراب و الدمار.
باشر لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990) الاقتراض لتمويل إعادة الاعمار، وأعاد بناء اقتصاد اعتمد بالدرجة الأولى على الخدمات والسياحة وجذب الاستثمارات الخارجية، و ازداد العجز في ميزان المدفوعات على مر سنوات من النمو المتباطئ وقطاع مصرفي متضخّم يمنح فوائد خيالية على الودائع. وتجاوز الدين العام أكثر من 170 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي.
تضافرت هذه السياسات الاقتصادية الخطرة و المدمرة، مع وصول الميليشيات المتحاربة في الحرب الأهلية اللبنانية إلى السلطة في لبنان ،ما جعله وطنا يُدار من قبل مجموعة من أمراء الحرب، و لهذا كان الخراب مصيراً محتوماً على بلد غارق بالفساد من أعلى سلطة في الدولة و حتى أدنى الرتب في القطاع العام و القطاعات الخاصة المؤثرة في الاقتصاد بشكل كبير.

مخلفات الحرب اللبنانية.. حزب الله و المسار الإيراني:
و لعلّه كان من أبرز ما خلفته الحرب الأهلية و توابعها من الاجتياح الإسرائيلي للبنان، هو ميليشيا حزب الله التي اسستها إيران في الجنوب اللبناني، إذ نشأت هذه المجموعة تحت أهداف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، لينتهي بها الأمر ذراعاً إيرانيا متجذرٍ في الدولة اللبنانية، يسحب لبنان نحو المسار الإيراني، مما جعل لبنان في نهاية المطاف دولة منبوذة محسوبة على المحور السوري الإيراني، بعد أن كان الدولة شبه الأوروبية في شرقي المتوسط.
و في هذا الإطار يقول الباحث في مركز مالكوم كير كارنيغي في بيروت، مهند الحاج علي، إن لقد رسّخت مرحلة ما بعد الحرب اللبنانية مركزية الميليشيات التي كانت قائمة في زمن الحرب، وأرست مرتكزات حصانتها، ما أجهز على أي عملية لبناء المؤسسات الوطنية. في موازاة ذاك، تمكّن حزب الله، مع أسلحته وشبكته من المؤسسات الحزبية، من الازدهار في ظل واقع ما بعد الحرب. وهو يُعدّ الآن رأس الحربة في معركة إعادة إرساء المنظومة القديمة بعد احتجاجات العام 2019، سواء من خلال حملته ضد البيطار (القاضي المسؤول عن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت) أو عبر تولّيه زمام المبادرة في قمع منظمات المجتمع المدني ونزع الشرعية عنها، زاعمًا أنها على ارتباط بسفارات أجنبية أو "مخططات أميركية" متخيَّلة.
و يضيف الباحث في دراسة نشرها مركز كارنيغي الشرق الأوسط، إن إعادة النظر في هذه الميليشيات وشبكاتها المتغلغلة في مؤسسات الدولة أمرٌ مهم ومطلوب في الوقت الحالي، فيما تخوض الحكومة اللبنانية التي تشكّلت مؤخرًا مفاوضات مع صندوق النقد الدولي وجهات أخرى للتوصل إلى خطة إنقاذ مالية. وعلى المنوال نفسه الذي يجري التعامل به مع التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، يلجأ السياسيون اللبنانيون إلى الخطاب الطائفي والتلويح بالحرب لتجنّب الخضوع إلى أي مساءلة أو محاسبة عن الفساد في المؤسسات الحكومية ومصرف لبنان.
و يتابع بالقول أن الاقتصاد اللبناني وتخبُّط المؤسسات الحكومية من أجل البقاء، لا تزال معظم الأحزاب الطائفية تحتفظ بميليشيات، وخدمات صحية، وشبكات للرعاية الاجتماعية والمساعدات الإنسانية. لذا، ينبغي على أي إصلاح للمنظومة أن يأخذ في الاعتبار هذه البنية المتمحورة حول الميليشيات. والسبيل الوحيد للمضي قدمًا هو المطالبة بأطر مؤسسية مستقلة في لبنان، تكون متحررة من التعيينات السياسية على أسس طائفية. ويقع ذلك في صلب اقتراح القانون الذي قدّمته الأجندة القانونية، وهي منظمة غير حكومية ترفع لواء الإصلاح القانوني، وتسعى إلى الحؤول دون تعيين القضاة من قبل الأحزاب السياسية. ويمكن أن يشكّل ذلك أساسًا لإصلاح آليات التعيينات في مؤسسات الدولة الأخرى، و لكن الطريق لبلوغ هذه المرحلة طويلٌ ومحفوفٌ بالتحديات. فقد أظهرت أحداث الأسبوع الماضي أن الأحزاب وميليشياتها هي كيانات أكبر من الدولة اللبنانية ومؤسساتها المشلولة. لكن، لا يمكن إعادة بناء الدولة إلا من خلال كبح جماح هذه الشبكات الطفيلية، كي يتمكن لبنان من النهوض مجدّدًا.
سبب خراب لبنان.. الفساد أم حزب الله:
يمكن لأي قارئٍ للوضع اللبناني أن يجادل في هذه المسألة، و الخلاف هنا معقّد، فهل وصل لبنان إلى هذه الحالة المتدهورة جراء الفساد أم بسبب كون لبنان دولة منبوذة من المجتمع الدولي لكون حزب الله يسيطر على لبنان و على مفاصل قراره الداخلي و الخارجي.
و لتجنب الجدل، يمكننا أن نجيب عن هذه الجدلية باختصار، بالقول إن حزب الله و الفساد شريكين في انهيار لبنان، فالفساد هو من قضى على الاقتصاد اللبناني، و حزب الله هو العائق الذي يمتنع بسببه المجتمع الدولي و الدول العربية و الغربية عن إعادة النهوض بلبنان.
القادم أسوء.. أم أفضل؟ :
يمكن القول ان لبنان هو من أكثر الحالات السياسية تعقيداً في العالم، و يعود هذا إلى أهمية موقع لبنان الإستراتيجي، و وجود مصالح لأغلب الدول الكبرى فيه لا سيما الدول الغربية، و الاهتمام المعنوي للدول العربية بلبنان الذي يحظى بمكانة خاصة عند أشقائه العرب، إضافة إلى وجود الكثير من الاقليات العرقية و القومية و الدينية، كالدروز و الأرمن و العلويون و التركمان و الأكراد و عشائر العرب و غيرهم مما يكاد لا يعد و لا يحصى من الاقليات.
و لهذا فإن مصير لبنان لا يمكن أن يحدد داخلياً، بل ينتظر هذا البلد المتشرذم على كافة النواحي، قراراً خارجياً يقرر مصيره، سواء نحو السلم أم الحرب، الخراب أو الدمار.
و للإجابة عن أي توقعات تخص مستقبل لبنان فإنه لا بد من استعراض موازين القوى اللبنانية، سواء الجبهات المؤيدة لحزب الله أو الجهات المعارضة و التي تتمثل بالتالي:
انقسمت الأحزاب الكبرى بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 2005 إلى تحالفين، 14 آذار الموالي للغرب، و8 آذار الموالي لإيران. ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الأحزاب العلمانية غير الطائفية.
تحالف 8 آذار (حزب الله و حلفائه) : هو تحالف نشأ في لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان وذلك عندما أقامت الأحزاب التي لها علاقة وثيقة مع سوريا بعد خروجها من لبنان، وتضم هذه القوى حزب الله، حركة أمل، الحزب السوري القومي الإجتماعي تيار المردة إلى جانب مجموعات ثانوية أخرى موالية لسوريا مثل تيار التوحيد ورابطة الشغيلة أو مناوئة لخط الأمريكي في لبنان مثل جبهة العمل الإسلامي. وقد انضم التيار الوطني الحر إلى هذه الحركة بعد توقيعه لاتفاق 6 فبراير مع حزب الله فيما كان يعتبر نفسه المؤسس لتحالف 14 آذار.
تحالف 14 آذار (المعادي لحزب الله و الإيديولوجيا الإيرانية) :هو تحالف سياسي يتكون من كبار الأحزاب والحركات السياسية التي ثارت على الوجود السوري في لبنان بعيد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري أو ما سمي بثورة الأرز والتي تلقت الدعم من عدد من الدول بالأخص دعمتها فرنسا واميركا والسعودية والأمم المتحدة. وقد أخذ اسمه عن التاريخ الذي أقيمت فيه مظاهرة جمعت أكثر من مليون شخص سنة 2005، من أبرز قادة تحالف 14 آذار سعد الحريري، سمير جعجع والرئيس السابق أمين الجميّل. وكان في هذا التحالف وليد جنبلاط، إلا أنه انسحب منه معلنًا حياده السياسي. ترتبط القوى المشاركة في هذا التحالف بعلاقات وثيقة مع المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ومع بعض الدول العربية والخليجية الأخرى.
سيناريوهات المستقبل.. لبنان و المسارات المجهولة:
في ظل الأوضاع الخاصة و الصعبة التي يعيشها لبنان، و التي يزيد من صعوبتها و تعقيدها الأحداث العالمية الملتهبة لا سيما الصراع في أوروبا الشرقية، و التوترات في بحر الصين الجنوبي، و الخلافات داخل حلف الناتو و الاتحاد الأوروبي، فإن أي سيناريوهات قد يمر بها لبنان لا يمكن أن تخرج عن ثلاثة احتمالات، و هي :
السيناريو الأول: سياسة الحفاظ على الوضع الراهن، و تتمحور هذه السياسات حول الحفاظ على الوضع كما هو دون الذهاب نحو التهدئة أو التصعيد، بحيث تقرر الدول الكبرى ذات النفوذ و التأثير على لبنان، أن يبقى لبنان كما هو على وضعه الحالي، دون أي تدخل اقتصادي أو عسكري او استخباراتي ضد حزب الله، بحيث يستمر قطع الدعم الاقتصادي عن الدولة اللبنانية مع استمرار محاصرة حزب الله بكافة الوسائل و الأدوات المتاحة.
السيناريو الثاني: سيناريو التصعيد، و يتمثل في أخذ لبنان نحو مسار التصعيد سواء داخليا بين القوى السياسية الداخلية اللبنانية ضد حزب الله ، أو خارجياً مع إسرائيل عبر افتعال حرب توجه فيها إسرائيل ضربات عسكرية قاضية إلى حزب الله ، و في هذاالسيناريو لا يسعنا سوى العودة إلى دراسة تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، التي يصبح تكرارها أمراً لا مفر منه في حال اتخاذ سيناريوهات تصعيدية تتعلق بالأزمة اللبنانية ، أو سياسياً عبر افتعال أزمات سياسية تأخذ البلد نحو منعطفات غير مسبوقة تكون قادرة على تغيير الأوضاع القائمة.
السيناريو الثالث : سيناريو التهدئة، و يتمثل هذا السيناريو في اتباع مسار دبلوماسي او سياسي هادئ لحل الأزمة و الخلافات في الداخل اللبناني، و يتمثل هذا السيناريو أيضا في اتفاق الدول الكبرى التي لها نفوذ في لبنان، بحيث تحل الخلافات بشأن لبنان بين هذه الدول الكبرى بطريقة المساومة و الحفاظ على المصالح المشتركة، لا سيما أن الولايات المتحدة الأمريكية تتجه نحو سياسات تتسم بتهدئة الصراعات في الشرق الأوسط للتفرغ للخطر الصيني و الروسي، بينما تركز الصين على تثبيت دعائم اقتصادها و إصلاحه بعد ما تعرض له من أزمات جراء أزمة جائحة كورونا، كما أن روسيا تركز على حماية حدودها و مصالحها من التهديد المتمثل بتوسع الناتو شرقاً نحو الحدود الروسية، كما أن إيران تسعى إلى التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية بما يمكنها من الالتفات نحو الاهتمام باقتصادها المدَمّر نتيجة سنين طويلة من العقوبات الغربية.
لهذا، فإن السيناريو الثالث يبقى في الوقت الراهن أقرب سيناريو إلى الواقع، إذ لا ترى أي من الدول الكبرى التي تتمتع بنفوذ في لبنان، أي مصلحة من تصعيد الأوضاع، و لكن بما أنه "لا يوجد أكيدٌ في السياسة"، فإن المستقبل يظل مجهولاً و مرتبطاً بمآلات الظروف الدولية، التي قد تختلف من يوم إلى آخر بشكل جذري، إضافة إلى أن الدول الفاعلة في لبنان قد تختار سيناريوهات لا تتوافق مع خيارات خصومها من الدول الأخرى، إذ قد تختار دولة ما سيناريو التهدئة بينما تتجه أخرى إلى سيناريو الحفاظ على الوضع الراهن، و هذا ما يجعل التنبّؤ بمستقبل لبنان أمراً صعبا نسبياً، و يبقى متروكاً إلى مآلات الأحداث و المتغيرات الدولية و العالمية.