اللّاجئات السوريّات إلى لبنان.. وتحدّيات الأمومة

news image



د. نجلاء حمادة*

حاولنا مراراً في “تجمّع الباحثات اللّبنانيّات” أن نضع كتاباً سنويّاً عن الأمومة، ولم نوفَّق، ذلك أنّ هالة الشغف والامتنان المُحيطة بالأمومة تُصعِّب الاقتراب الذهنيّ منها، كما أنّ التناقضات حولها تجعلها موضوعاً شائكاً ومُحيّراً. فالأمومة تُبجَّل بل تُقدَّس تارة ويُجحَف بحقّها تارات.

لليلى أحمد في كِتابها “المرأة في الإسلام” فصلٌ رائعٌ عن التفاوُت بين نظرة الإسلام الأخلاقيّة المُمجِّدة للأُمّهات وبين الشرع الذي يبخسهنّ معظم حقوقهنّ. وفي كتابهما الإلكترونيّ المدعوم بمنحة بحثيّة من المعهد الدوليّ للتربية، عبّرت الباحثتَان فاديا حطيط ونهوند القادري عن مثل هذا التوجُّه، من خلال “إعطاء الأمّهات مكانةً رمزيّة ثمناً للإجحاف بحقّهنّ”.

في كلامه عن المَعنيّين باستقصاء الحقيقة مُقارنةً بغَير الآبهين لها أو المُتلاعبين بها، يقول الفيلسوف الروسي إسكندر بوغين إنّ العِلم يبحث عن الحقيقة بينما يعمل الإعلام على قَوْلَبة الحقائق أو تحويرها أو إغفالها وفق مرامي الإعلاميّ و/ أو توجُّه المؤسّسة التي يعمل فيها. وقد سبق أن لحظَ فلاسفةُ المعرفة وجود نوعَيْن من العلوم: علومٌ صلبة كالفيزياء والكيمياء والرياضيّات تتوافر لها البراهين الحسيّة أو/ والمنطقيّة الدّامغة، وعلومٌ ليّنة هي مجمل العلوم الإنسانيّة التي يصعب الجزم بمقولاتها أو البرْهنة على ما تدّعيه. ومَن يطّلع على نظريّاتٍ واستنتاجاتٍ في مجال العلوم الإنسانيّة يرى أنّها كثيراً ما تُشبه الإعلام بتكاذُبِها المغرض.وبالنسبة إلى ما يتناول النساء من هذه “العلوم” تَذكر الباحثتان نقلاً عن فوكو القمعَ المبطَّن لهنّ في إغفال كلّ ما هو نسائي وكأنّه “نافل الوجود”. وجليّ أنّ النظريّات التي وضَعها فلاسفةٌ رجال أو رجالُ دين تُبالغ في تسطيح النساء وتشييئهنّ (بعكس تصوير الأدباء لهنّ)، أمّا المُنظِّرات النسويّات فيسعَيْن إلى ردّ الاعتبار لجنسهنّ وصولاً أحياناً إلى الادّعاء بتفوّقه أخلاقيّاً وإنسانيّاً على الجنس الآخر. فمن الواضح أنّ معظم المُنظّرين في مجال العلوم الإنسانيّة يسحبون القيمة والفضل نحو الجماعة أو الفئة أو الجنس الذي ينتمون إليه أو نحو ما يناسبهم وما يرغبون بتعميمه.

في مُواجَهة التناقُض في الكلام على الأمومة وقلّة مصداقيّة الحقل الذي يقع فيه هذا الموضوع، اختارت الباحثتان فاديا حطيط ونهوند القادري التركيز على الاستقصاء الميداني وعدم الخروج عن حيّزه، إلّا في ما ندر. وانطوى خيارهما هذا على تضحيةٍ بسعة نِطاق الدراسة، التي غدت تُطاول الأُمّهات في زمانٍ ومكانٍ معيّنَيْن بدل التصدّي للأمومة بالمُطلق، لكنّه خيار حلّ لهما مشكلتَيْ التناقُض والمصداقيّة.فالتناقُض الذي من شأنه أن يُقوِّض النظريّات والجدليّات يبقى مقبولاً ومألوفاً عند توصيفِ واقعٍ وجودي. وفي مُواجَهة التشكيك المشروع بنظريّات العلوم الإنسانيّة، جاء خيار القادري وحطيط وكأنّه استجابة للقول الشعبي: “إذا كان الكذب حجّي (حجّة) فالصدق بينجّي”؛ إذ لا شكّ أنّ أصدق ما يُقال عن الأمّهات هو تعبيرهنّ عن معيشهنّ ومَشاعهرنّ بدل تحدُّث المُنظّرين (المُغرضين غالباً) باسمهنّ. ولعلّ واقع أنّ الأمّهات في عيّنة الدراسة، ولكونهنّ من بين الأقلّ ثقافة وبالتالي الأقلّ تأثُّراً بالنظريّات وبالبروباغندا الإعلاميّة، قد ضاعَفَ من مصداقيّتهنّ وبالتالي ممّا تنطوي عليه الدراسة من دلالات.

نظريّاتٌ عن الأمومة وتوصيفٌ لأوضاع اللّجوء

استعرضت حطيط والقادري في الجزء الأوّل من الدراسة نظريّاتٍ عن الأمومة بين تقليديّةٍ أبويّة ونسويّةٍ مُتدرّجة في اعتراضها وصولاً إلى المستوى الجندري الساعي إلى المُساواة عن طريق التنمية. فذكَرَتا أنّ النظرة الأبويّة التقليديّة للأمومة جمَّدتها أو “سجَنتها” داخل طبيعتها البيولوجيّة. أمّا ما ذكرتاه عن مُناقَضة المنظّرات من النساء لهذا التجميد فاشتمل على اعتبار سيمون دو بوفوار وغيرها الأنوثة والأمومة أدواراً اجتماعيّة غير حتميّة. ولم تغفل الباحثتان ذكر بعض المنظّرين العرب أمثال جميل حمداوي وداليا أحمد، فذكرتا أنّ الأوّل يصرّ على أنّ تقييم الأدوار هو مسألة اجتماعيّة متحرّكة وأنّ الثانية توصي بأن تتمّ دراسة الأمومة بمعزل عن الانحياز النسوي.

وفي توصيفهما للأوضاع الماديّة والقيَميّة للّاجئات، ميَّزت الباحثتان بين الهجرة المُختارة واللّجوء القسري، ولَحظتا أنّ للجوء السوريّين إلى لبنان خصوصيّة تكمن في التقارُب الجغرافي بين البلدَيْن فضلاً عن علاقات النّسب والتقاليد المتشابهة، في حين أنّ اللّاجئات السوريّات في ألمانيا يُعانين نفسيّاً بقدرٍ أكبر ممّا تُكابده نظيراتهنّ في لبنان.

وتسهب حطيط والقادري في توصيف الأوضاع التي وجدت نساء العيّنة أنفسهنّ في حيّزها من لجوء (منفى) وفقر وحروب، في مساكن ضيّقة أو في مخيّمات تغيب فيها الخصوصيّة، وحيث يُعانين من ضيق العيش حتّى في تأمين الغذاء لأسرهنّ، في ظلّ قوانين لا تسمح لهنّ بالعمل إلّا في قطاعات غير رسميّة، وحيث يخضعْن لـ”شاويش المخيّم” من أجل تسيير أمورهنّ الضروريّة، بما في ذلك استحصالهنّ على الأوراق الثبوتيّة لهنّ ولأولادهنّ.

وبالإضافة إلى أوضاعهنّ الماديّة، تُذكِّر الباحثتان بما نمّت عنه الدراسة الميدانيّة من تقاليد نشأت الأمّهات عليها، كمقولة أنّ “السترة” أولويّة وأنّ التضحية أو الرضوخ لقيَمٍ بطركيّة ولإرادة الزوج حتّى في أمور التربية مطلوبة ومتوقّعة منهنّ.وتستكمل القادري وحطيط رسم خلفيّة نسائهنّ بذكر إمكانيّة تأثُّر الأمّهات بتوصيات الجمعيّات والهيئات المُساعدة لهنّ وبقيَمها وبما يشهدنه في مجتمع اللّجوء من تقاليد وأساليب عَيش لم يألفوها في بلدهنّ.

وقد بدا من المخطّط الذي اتّبعته الباحثتان أنّ غايتهما من ذكر النظريّات عن الأمومة ومن توصيف الأوضاع الثابتة كما المستجدّة لما تعيشه الأمّهات كانت توفير خلفيّة يستعين بها القارىء أكثر منها وسيلة للإضاءة على ما تنمّ عنه الدراسة أو تساعدهما في استخلاص الأحكام و/ أو في تبرير مقولاتهما.

الثابت والمتحوّل في أمومة اللّاجئات

كما في كثير من الدراسات الميدانيّة، تبنّت القادري وحطيط ثلاث أدوات لجمْع البيانات، هي الاستبيان والمقابلة والمجموعة المركّزة.فالاستبيان لوحده، وما يسمح به من استنباط نسبٍ رقميّة غالباً ما يفرح بها الدارسون لما فيها من مُحاكاة للعلوم الصلبة، كثيراً ما يؤدّي إلى مُغالطاتٍ مردّها أنّ المُجيبين عليه قد يتسرّعون أو قد يعطون الإجابات المتوقّعة أو السائدة أو المُنمَّطة. وبما أنّ المُقابلة تركّز أكثر على الفرد فقد تستحثّه على مُواجَهة واقعه ومشاعره بعُمق وفرادة أكبر. أمّا النقاش ضمن المجموعة المركّزة فغالباً ما يؤدّي، بفضل ما يستدعيه من عودةٍ إلى قيمتَيْ العدالة والجدوى ومن تبادُلٍ للخبرات والأفكار، إلى بلْورةِ مواقف وقناعات لم تكُن قد وصلت تماماً من قَبل إلى الوعي أو القناعة أو الهدف. وقد وجدتِ الباحثتان أنّ القناعة والرضى عند الأمّهات كانا أقلّ في المقابلة منهما في الاستبيان وأقلّ في المجموعة المركّزة ممّا كانا عليه في المُقابلة. ونمَّ النقاش المركّز عن مُراجعة الأمّهات لدَور البذل والتضحية الذي تقمّصْنه، ما أشعرهنّ بالتقصير بحق أنفسهنّ.

واستنتجت الباحثتان من التفاوُت بين ما تقوله الأمّهات عن الإنجاب وما قلْنه عن التربية أنّ النساء يكنّ أكثر استكانة لمصيرهنّ في الإقبال على الزواج - الأمومة وفي القبول بسلطةٍ هرميّة قبل أن يلدن وتُصبح أمومتهنّ “أمومة عارفة” بالقوانين وبهشاشة أوضاعهنّ وبدورهنّ التربوي، حيث ينزعن أو يرغبن بدَور أكبر في اتّخاذ القرارات، بخاصّة بعد تأثُّر كثيرات منهنّ بالبيئة الجديدة وبتوصياتِ الجمعيّات وبعد سقوط هالة الرجل بسبب التهجير.

وقد أظهرت الدراسة الميدانيّة أنّ للبيئة التي تعيش فيها الأمّهات ضمن المكان تأثيراً وازِناً في تقبّلهنّ للوضع المستجدّ وفي تأقلمهنّ معه، فبدا أنّ مَعيش الأمّهات اللّاجئات مع أسرهنّ في بنايات يحرسها أزواجهنّ أصعب عليهنّ من السكن في خيام داخل المخيّم. فعائلة ناطور البناية تسكن ضمن جدران ضيّقة ويكون معظم تعاطيها مع سكّان البناية المُختلفين عنها في العادات وفي المستوى المعيشي. أمّا ساكنات المُخيّم فيجدن عضداً اجتماعيّاً وراحةً نفسيّة في مُساندة الجيران وفي التعاطي مع مَن تتماثل أوضاعهم مع أوضاعهنّ. ولمُساندة الأنداد مزيّة على مساندة الأهل لكونها طوعيّة ومُتبادَلة وغير مقرونة بسلطةٍ تُفرض على المتلقّي. وقد رحّبت معظم النساء بتواجد الزوج بصورة أكبر ضمن الأسرة بعد التهجير وحتّى بتدخّله أكثر في تربية الأولاد، مُقرّات بحقّه في أن تكون له الكلمة الأخيرة. ويُقرأ بين السطور أنّ سقوط هالة الزوج وتواجده الأكبر مع الأسرة قرّبا الزوجَين من بعضهما البعض وأضفيا حميميّةً ندّيّةً على العلاقة بينهما، الأمر الذي عزَّز الاندماج بين أعضاء الأسرة المصغّرة (النوويّة). وعبّرت بعض الأمّهات عن أنّ الزوج غدا بيتهنّ في غياب الجدران.وبدت غالبيّة الأمُهات سعيدات بأمومتهنّ، على الرّغم من قلقهنّ على سلامة أولادهنّ من الأذى الجسدي والاستغلال الجنسي والإدمان وعلى نظافتهم (كرامة، سُمعة) وخوفهنّ ممّا يُخبّئه لهم المُستقبل. وأقرّت غالبيّة الأمّهات بأنّ أسلوبهنّ في التربية اختلف عمّا خبرْنه عند أهاليهنّ بسبب اللّجوء وتغيُّر الجو العامّ، بخاصّة مع توافُر وسائل التواصُل الاجتماعي التي تُشجّع الأطفال على التعبير عن آرائهم أو التشبّث بها على حساب إطاعة الأهل.

نحو استقلاليّة مُختلفة

أختم بالقول إنّ هذه الدراسة تتميّز بطزاجة مُنعشة مردّها النظرة المُحايدة وغير السلطويّة للباحثتَيْن، واستقلاليّتهما عن المعايير والقوالب السائدة المُستقدَمة في غالبها من الغرب. وقد أضافت الأمّهات إلى موضوع الدراسة هذه المزايا، بحيث تجلّى ذلك من خلال وعيهنّ لأوضاعهنّ الجماعيّة كلاجئات وضمن الأسرة، وفي عدم تأثّرهنّ بما لم يقتنعن به، بتبنّيهنّ بعض ما أملته عليهنّ الجهات المانحة من معايير تغييريّة وعزوفهنّ عن بعضها الآخر. فعلى الرّغم مثلاً من التركيز على أهميّة تعليم الأولاد، بدت الأمّهات أكثر اعتمادًا على ارتزاق أولادهنّ في المستقبل من العمل اليدوي أو الصنائعي.

وما عبّرت عنه الأمهات من ارتياحهنّ للتضامُن الجماعي داخل المخيّم ينفي بصورة غير مباشرة التثمين المُطلق للفردانيّة المستقلّة، مُذكّراً بأنّ الذات التواصليّة في الحضارات الشرقيّة هي غير الذات المُغلقة الحدود التي يتربّى عليها الغربيّون.فاعتبار اللّاجئات السوريّات أنّ أمومتهنّ تؤنْسِنُهنّ وتؤنِسُهُنّ ويلذْن بها وبالعائلة من صعوبات التهجير والفقر، يُعبِّر أو يصف منحىً يُناقض الكثير من النظريّات النسويّة السائدة الساعية إلى تحجيم دَور الأمومة في حياة النساء. فقد أضاءت الدراسة على ما تمنحه الأمومة للنساء من سعادة، بينما السعادة قيمة لم تلْحظها بعض النسويّات المتقدّمات في الغرب.

بدت الأمّهات والباحثتان في هذه الدراسة مُتجاوزات للأسلوب والتقييم الغربيَّيْن الشغوفَيْن بالبحث عن تعارُضٍ بين العقل والجسد أو السيّد والعبد أو العقل والعاطفة. وفي ظنّي أنّه لو سألنا الأمّهات موضوع الدراسة إن كانت أمومتهنّ غريزيّة أم دَوراً مُكتسباً أو إن كان مبعثها العقل أو العاطفة أو إن كنّ راضيات أم لا عن مدى قدرتهنّ على فرْض إراداتهنّ ضمن الأسرة وعلى تربية الأولاد لتَثَاءَبْن وتشاغَلْن بأمرٍ أكثر جدوى وأقرب إلى معيشهنّ وإلى تحقيق ما فيه خير جماعتهنّ. ولا غرْوَ، فالتوحيد نشأ في الشرق والرأسماليّة هي من بنات الفكر الغربي التي ما فتئ الغربُ يروّج لها ويتمسّك بها.

* أستاذة جامعيّة وباحثة من لبنان - مؤسسة الفكر العربي