لبنان البلد الرائد في الحداثة الأدبيّة

news image

د. حمادي المسعودي*

إنّ لبنان البلد الجميل، يظلّ شامخاً أبداً شموخ جباله، جميلاً جمال سهوله وهضابه، غنيّاً بثرواته الطبيعيّة، مؤنساً بطبيعة أهله، واهباً الحياة والحبّ والأمل، فاتحاً آفاقاً جديدة في سبيل تشييد حضاراتٍ إنسانيّة واعدة، طموحاً إلى مستقبلٍ يسود فيه الأمن والسّلام، ويعمّ فيه الحقّ في الحياة للجميع.

من لبنان الجميل خرجت الأميرة/ الملكة ديدون (Didon) أو الملكة علّيسة - بحسب التسمية التونسيّة – ابنة الملك بيلوس، ملك مدينة صور (Tyr)، وهاجَرت عبر البحر إلى افريقية في نهاية القرن التاسع قبل الميلاد، وأسَّست قرطاج (تونس) سنة 814 ق م. خرجت الأميرة ديدون إذن مع مواطنين من مدينة صور اللّبنانيّة، وركبت البحر نحو إفريقية، فأسَّست دولة، وبَنت حضارة راقية ما زالت تشهد عليها إلى يوم الناس هذا، وكان اختيار الموقع مناسباً للتجارة والدّفاع، وكانت المُغامَرة ناجحة، وذاع صيت قرطاج عبر التاريخ.

يذكر "قاموس الكتاب المقدّس" في مادّة "صور" أنّ الصورّيين (سكّان مدينة صور) كانوا يميلون إلى الصناعة والتجارة وصكّ النقد والسفر بحراً، وكانوا يُنتجون الصبغة الأرجوانيّة والأشغال المعدنيّة والزجاج، وكانت لهم علاقات تجاريّة قويّة مع الشعوب البعيدة. وكانت مدينة قرطاجة التي أسَّستها الملكة ديدون مع الجالية الصوريّة مُنافِسة قويّة لروما في القرن الثامن قبل الميلاد.

ومن لبنان البلد الجميل هاجَر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين الميلاديَّين ثلّة من اللّبنانيّين إلى أميركا، من أشهرهم جبران خليل جبران (ت 1931 م) من مدينة بشرّي، وإيليا أبو ماضي (ت 1957 م) من بلدة المحيدثة، وميخائيل نعيمة (ت 1988م) من بلدة بسكنتا. وقد أَسهم هؤلاء في نشأة الحداثة والتجديد في الأدب العربيّ، فأحدثوا ثورةً عميقة في توجّهاته شكلاً ومضموناً. لقد اجتمع هؤلاء المفكّرون اللّبنانيّون والسوريّون في بلاد المهجر (مدينة نيويورك)، وفكَّروا في الخروج بالأدب العربي من القوالب الجاهزة والأشكال المحنَّطة فأسَّسوا "الرابطة القلميّة" سنة 1920، وعيّنوا جبران خليل جبران رئيسا لها. أمّا أعضاؤها المؤسّسون فهُم: ميخائيل نعيمة، نسيب عريضة، رشيد أيّوب، ندرة حدّاد، وليم كستفليس، إيليا أبو ماضي، وديع باموط.

وقد كان هؤلاء المفكّرون "يحملون رسالة جديدة إلى العالَم العربي" (بحسب عبارة ميخائيل نعيمة) محمَّلة في "الرابطة القلميّة" تمثّلت بحسب - عبارة نعيمة ـ- في "بثّ روح جديدة نشيطة في الأدب العربي وانتشاله من وهدة الخمول والتقليد إلى حيث يصبح قوّة فعّالة له في حياة الأمّة". لقد نشأ التفكير في إنشاء "الرابطة القلميّة" من شعورٍ عميق بما ران على الأدب العربي، شعره ونثره، من جمود وتقليد وتكلّف، فكان لا بدّ من النهوض به وتحديثه حتّى يواكب مقتضيات الحاضر ويُنافس الآداب العالَميّة. وإنّنا نرى أنّ كِتاب "الغربال" الذي ألّفه ميخائيل نعيمة ونشره سنة 1923 يمثّل "البيان" أو "الدستور الأدبي" الذي ضمّنه صاحبه أُسس تحديث الأدب الكفيلة بالخروج به من القوالب المحنّطة والأشكال التقليديّة وأساليب الكتابة الممجوجة. فما هي القيمة النقديّة لهذا الكتاب؟ وما هي أُسس التحديث/ التجديد التي تضمّنها؟ وهل نجد له تأثيراً في الأدب العربي المُنْشأ بعد تأسيس "الرابطة القلميّة"؟

إنّ المتأمّل في كِتاب "الغربال" وفي الكتابات الإبداعيّة نثراً وشعراً التي أُنْشئت بعد تأسيس "الرابطة القلميّة" سنة 1920 يُمكن أن يتبيّن بكلّ يُسر التأثير العميق لهذه الرابطة في الإنتاج الأدبي العربي، ويُمكن للقارئ أن يتأكّد من هذا التأثير العميق بعد الاطّلاع - على سبيل الذكر لا الحصر - على كتابات جبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي وميخائيل نعيمة وغيرهم من المفكّرين العرب الذين أسهموا في فتح أبواب التحديث في الأدب العربي.

فقد علّمنا جبران الثورة على التقاليد مثلما علّمنا الإيقاع في النصّ النثري، وعلّمنا إيليا أبو الماضي التساؤل عن الوجود البشري ومصيره، وعلّمنا ميخائيل نعيمة أنّ المحبة هي إكسير الحياة والدّين الذي يجب على الجميع اعتناقه ... وأنّ الأدبَ قلبٌ وفكر، ومشاعر تُحَسُّ وواقع معيش يُملي وأفكار تُصاغ في قوالب مختلفة. وتلك كانت رسالة "الرابطة القلميّة" التي عبّر عنها كتاب "الغربال" أحسن تعبير.

1- الغربلة/ النقد الأدبيّ

افتتح كِتاب "الغربال" ــ بعد التقديم الذي كَتبه عبّاس محمود العقّاد ــ بمقال وسمه المؤلّف بـــ "الغربلة"، وبدأه بمَثَلٍ "مَن غرْبَل الناس نَخلوه". وقد اهتمّ نعيمة في هذا المقال ببيان الدَّور المهمّ الذي يجب على الناقد/ المُغربل القيام به أثناء قراءته لأثرٍ أدبيّ شعراً كان أم نثراً. وقد دعا المؤلِّف نقّاد عصره العرب إلى ضرورة الفصل بين النصّ ومُبدعه، وانطلقَ في إبراز هذه الفكرة من واقع النقد الأدبي في الرّبع الأوّل من القرن العشرين حيث لاحظ أنّ النقّاد لا يهتمّون بغرْبلة النصوص، بل يسلّطون سِهام نقدهم نحو كتّابها، فيُخطئون المرمى ويصيبون شخص المُبدع بنبالهم في أخلاقه، بينما القصد من النقد ليس حرباً بين الناقد والكاتب/ المُبدع ولا هجاءً أو مدحاً للثاني، وإنّما فحْصٌ للنصّ لتبيُّن مواطن الجمال والإبداع فيه، ولا علاقة لهذا بشخص المُبدع/ الكاتب، لذلك قال نعيمة بضرورة الفصل بين النصّ المُبدع ومُبدعه؛ يقول صاحب "الغربال": "لنُقِم هذا الحدّ فاصلاً بين شخصيّة الكاتب والشاعر وبين ما يكتبه الأوّل وينظمه الثاني، وحينئذ يسهل علينا فهْمَ الغربلة الأدبيّة والقصد منها" (الغربال ص 15)، لأنّ "الناقد الذي لا يميّز بين شخصيّة المنقود وبين آثاره الكتابيّة ليس أهلاً لأن يكون من حاملي الغربال أو الدّائنين بدينه" (الغربال ص 14)، ولأنّ "مهنة الناقد هي غرْبلة الآثار الأدبيّة لا غرْبلة أصحابها" (الغربال ص 14). فنعيمة يِؤكِّد أنّ النقد الأدبي يتّصل بمُعالجة النصّ والبحث في مكوّناته الفنيّة وليس بأخلاق مؤلّفه وأفعاله في حياته الشخصيّة.

ويؤكِّد نعيمة أنّ للناقد الأدبي دَوراً على غايةٍ كبيرة من الأهميّة، بل أدواراً أو مهامّ، "فهو مُبدع ومُولّد ومُرشد مثلما هو ممحّص ومثمّن ومُرشد" (الغربال ص 18).

ويوضح نعيمة هذه الرسائل العظيمة التي ينهض بها الناقد لفائدة الكاتب فيقول إنّ الناقد ينتبه أثناء قراءته للنصّ إلى أفكارٍ طريفة مهمّة لم يكُن الكاتب قد انتبه إليها أو قصَدها، فيكون الكاتِب مُغنياً للأثر الأدبي بأبعادٍ فكريّة كانت مستورة قبل فعلِ النقد، ويكون الناقد بهذا الفعل الإغنائي مُبدعاً إلى جانب المُبدع الأوّل، يقول نعيمة: "هو مُبدع عندما يرفع النقاب في أثرٍ ينقده عن جوهر لم يهتدِ إليه أحد، حتّى صاحب الأثر نفسه. فكم سألتُ نفسي من هذا القبيل: ليت شعري! هل درى شكسبير يوم خطَّ رواياته وأغانيه أنّها ستكون خالدة؟ أم تراه وضعها ليقضي بها حاجةً وقتيّة ظنّ أنّها ماتت بموته؟ إنّني من الذين يرجّحون الرأي الثاني، لذلك يُجلّون الناقدين الذين اكتشفوا "شكسبير بعد موته إجلالهم للشاعر نفسه، إذ لولاهم لما كان شكسبير" (الغربال ص 18-19). إنّ خلود الأثر الأدبي وصاحبه يتوقّف على تعدُّد القرّاء وتجدُّد القراءة باختلاف القارئ والزمان والمكان.

بيد أنّ دَور الناقد لا ينحصر - في منظور نعيمة - في اكتشاف المستور أو المسكوت عنه في النصّ، بل يتجاوز ذلك، فيكون الناقد "مُولّداً"، ويقصد نعيمة بهذه اللّفظة ما يجده القارئ الناقد من وشائج قربى بين ذاته ونصّ المُبدع، ذلك أنّ القارئ الناقد قد يكتشف ذاته ساعة قراءته للنصّ بوجود هذه الذات في النّص، وذلك عندما يكون النصّ مرآة يرى فيها بعض أفكاره الشخصيّة، فيكون النقد مولّداً لأفكار المُبدع/ الكاتِب ولأفكار القارئ الناقد في آن، فتكون النصوص الإبداعيّة مرايا كاشفة لوجوهٍ عديدة، يقول نعيمة: "ثمّ إنّ الناقد مولّد لأنّه في ما ينقد ليس في الواقع إلّا كاشفاً نفسه. فهو إذا استحسنَ أمراً لا يستحسنه لأنّه حسنٌ في ذاته، بل لأنّه ينطبق على آرائه في الحسن. وكذلك إذا استهجن أمراً فلعدم انطباق ذلك الأمر على مقاييسه الفنيّة. فللناقد آراؤه في الجمال والحقّ. وهذه الآراء هي بنات ساعات جهاده الروحي ورصيد حساباته الدائمة مع نفسه تجاه الحياة ومعانيها" (الغربال ص 19). لكن هل تقف مهامّ الناقد عند فعلَيْ الإبداع والتوليد؟

إنّ الناقد مُرشد أو مُوجِّه للكاتب، وهو صدوقٌ نصوح له، لأنّه يكشف له عمّا هو كامن في النصّ المُبدع من مَواطن قوّة ومَواطن وَهَن، فيكون بالأولى داعماً ومنمّياً، ويكون بالثانية مُصلحاً وهادياً، ويكون بالاثنتَيْن مطوِّراً ومُتجاوزاً ومُرتقياً بالإبداع الأدبي إلى درجاتٍ عليا، فيرقى الأدب ويزدهر، يقول نعيمة: "والناقد مُرشد لأنّه كثيراً ما يردّ كاتباً مغروراً إلى صوابه، أو يُهدي شاعراً ضالّاً إلى سبيله. فكَم من روائي عظيم توهَّم في طورٍ من أطوار حياته أنّه خُلق للقريض، لكنّه نَظم ولم يَنظم سوى كلام، إلى أن قيّض الله له ناقداً رَفَعَ الغشاء عن عَيْنَيه، فأراه أنّ الروايةَ مسرحه وليس البحور الشعريّة! وكم من شاعرٍ سخر منه الناس حتّى كادوا يقتلون كلّ موهبة فيه، إلى أن أتاه ناقدٌ أَظهر للناس مواهبَ فيه ثمينة، وودائعَ نفسيّة، فانقلب سخرهم تكريماً وتهليلاً. مثل هذا الكاتب والشاعر هُما هديّة الناقد إلى الأمّة البشريّة" (الغربال ص 19-20).

2- الإنسان جوهر الإبداع الأدبيّ ومحوره الرئيس (مقال "محور الأدب" ص 23)

أن يفهم الإنسانُ الإنسانَ، أو أن يفهم الإنسانُ نفسَه إشكال عويص الحلّ، وقد قال أبو حيّان التوحيدي منذ القرن الرابع الهجري إنّ الإنسان أَشكل على الإنسان، وتبَعه المعرّي عندما قال:

والذي حارت البريّة فيه

حيوانٌ مُستحدَثٌ من جماد

وقد صدّر نعيمة مقال "محور الأدب" - وهو المقال الثاني المضمّن في كِتاب "الغربال" - بهذا البيت الشعري المعبّر عن غموض الكائن البشري واستغلاقه حتّى صار لغزاً: وهو ما يؤكّد من جديد أنّ الإنسان ظلّ لغزَ الألغاز وأساس الحيرة في الكَون: "هو الإنسان، عبرة العبر وحيرة الحير، يجيء من حيث لا يدري، ويمضي حيث لا يدري {...} فصول تلحق بفصول، وأجيال تلحق بأجيال، نهار تبتلعه ظلمة، وظلمة يمحوها نهار، ولادة وموت، وموت وولادة {...}.

هو الإنسان أحجية الأحاجي. منذ خالجت نفسه اليقظة حتّى اليوم وهو في صراعٍ مستتبّ مع الطبيعة، لا يصرعها مرّة حتّى تصرعه ألف مرّة {...} ومن الغريب أنّه مع ضعفه الواضح وجبروتها الظاهر لا يزال يُصارعها، فلا هو ينثني، ولا هي ترحم ..." (الغربال ص 23-24).

يرى نعيمة أنّ هذا المخلوق الذي حارت البريّة فيه يجب أن يكون الفلك الذي تدور حوله جميع أعمال البشريّة والمحور الرئيس الذي تُسخَّر له جميع العلوم بحثاً عن أنفاسنا وسعياً جادّاً لمعرفة ذواتنا، لأنّنا متى فعلنا ذلك اكتملنا، واكتمل بنا الكون، وتحقَّق الوئام مع الطبيعة، فلا صراع ولا حرب... إنّ نعيمة يؤكِّد "في كلّ ما نفعل وكلّ ما نقول وكلّ ما نكتب إنّما نفتّش عن أنفسنا. فإنْ فتَّشنا عن الله فلنجد أنفسنا في الله. وإن سعينا وراء الجمال فإنّما نسعى وراء أنفسنا في الجمال. وإنْ طلبنا الفضيلة فلا نطلب إلّا أنفسنا في الفضيلة (...) فكلّ ما يأتيه الإنسان إنّما يدور حول محورٍ واحد، هو الإنسان. حول هذا المحور تدور علومه وفلسفته وصناعته وتجارته وفنونه. وحول هذا المحور تدور آدابه" (الغربال ص25).

لكن، لئن كان كلّ ما يقوم به الإنسان من أفعالٍ وأعمالٍ وكلّ ما يأتيه من علومٍ وفنون تدور حول معرفة ذاته، فإنّ نعيمة يرى في الآداب خصّيصة لا تتوافر في العلوم والفنون الأخرى، فالآداب أقرب إلى نَفْسِ الإنسان وأشدّها التصاقاً به وأعمقها غوصاً في ذاته، لذلك اعتبر نعيمة الأدب رسولاً بين نَفَسِ الكاتب وأَنفسِ قرّائه؛ فما يكتبه الأديب يؤثِّر بعمق في نَفس القارئ ويُحدِث فيها تحوّلاتٍ جذريّة، فتغيِّر مجرى حياته: "فربّ قصيدة أثارت فيه عاصفة من العواطف ومقالة تفجّرت لها في نفسه ينابيع من القوى الكامنة، أو كلمة رفعت عن عَيْنَيْه نقاباً كثيفاً، أو رواية قلبت إلحاده إلى إيمان، ويأسه إلى رجاء، وخموله إلى عزيمة، ورذيلته إلى فضيلة. تلك مزيّة قد خصَّ بها الأدب. وتلك هي مَملكة الأدب لا ينازعه عليها مُنازع. وما سلطان الأدب إلّا في أنّه أبداً يجول في أقطار النَّفس باحثاً عن مَسالكها، مُستطلعاً آثارها. وما شرف الأديب إلاّ أنّه أبداً يُشاطر العالَم اكتشافاته في عوالم نفسه (...) إذن فالأدب الذي هو أدب، ليس إلّا رسولاً بين نفس الكاتب ونفس سواه. والأديب الذي يستحقّ أن يُدعى أديباً هو مَن يزوِّد رسوله من قلبه ولبّه" (الغربال ص 27).

3- الأدب مَنبعه القلب وأجنحته المَشاعر والخيال الخلّاق

ليس كلّ ما حبّره أديب أدباً، وليس كلّ ما نَظمه شاعرٌ شعراً، لأنّ الأدب الراقي، نثراً وشعراً، هو ذلك الذي يظلّ حيّاً على الرّغم من تبدّل الزمان والمكان والقارئ، أمّا ما سواه من الأدب نثراً وشعراً فيُنسى ويموت لأنّ عمره قصير، وقد رأينا أعلاه أنّ الأدب الحقّ والخالد هو ذاك الذي يتّخذ الإنسانَ المركزَ والمحورَ والهدف، ويجعل الفكرَ الغاية الأسمى وسدرة المنتهى، والأشكال أدوات توظَّف في خدمته: "قصارى الكلام يا سادتي، أنّ القصدَ من الأدب هو الإفصاح عن عوامل الحياة كلّها كما تنتابنا من أفكار وعواطف، وأنّ اللّغة ليست سوى وسيلة من وسائل كثيرة اهتدت إليها البشريّة للإفصاح عن أفكارها وعواطفها، وأنّ للأفكار والعواطف كياناً مستقلّاً ليس للّغة. فهي أوّلاً واللّغة ثانياً" (الغربال ص 105)، ويقول في القصد نفسه: "فلا الأوزان ولا القوافي من ضرورة الشعر كما أنّ المعابد والطقوس ليست من ضرورة الصلاة والعبادة. فربّ عبارة منثورة، جميلة التنسيق، موسيقيّة الرنّة كان فيها من الشعر أكثر ممّا في قصيدةٍ من مائة بَيت بمائة قافية" (الغربال ص 116). لقد سلّط ميخائيل نعيمة غرباله على أدب عصره فلم يرق في الغربال من الأدب الجليل إلّا النزرُ القليل، فأمّا الكثرة المُطلقة منه فقد سقطت بكلّ يسر من الثقاب، لأنّها لم تكُن نابعة من قلب الإنسان، ولا هي وليدة المشاعر والأحاسيس بعد مخاضٍ عسير عانَته النَّفس البشريّة ساعة الخلق أو الولادة.

إنّ الأدب عند نعيمة هو الإبداع الناشئ عن "قلب يُخبّر وعقلٍ يفكّر وقلم يسطّر" (الغربال ص 244). والملاحظ في هذا القول أنّ القلب والمشاعر يمثّلان روح الأدب، شعره ونثره، فالأدب الحقّ هو ذاك الذي يُعبّر بعمق عمّا يختلج في أعماق النَّفس البشريّة إزاء أشياء الوجود وكائناته من دون تقليدٍ للقديم ومن دون تكلّف في اللّغة والعبارة والأسلوب، وقد كان "غربال" نعيمة كثير الدقّة في فصْلِ الدقيق من النخالة، يتبيّن ذلك من خلال جميع المقالات التي احتواها "الغربال"، ونَقَدَها المؤلّف، فرأى في بعضها دقيقاً طعّاماً لذيذاً للنَّفس، ورأى في أكثرها نخالةً غير جديرة بالاهتمام. لقد قرأ صاحب "الغربال" كِتاب "الفصول" للعقاّد فتبيّن فيه القلب المخبّر والعقل المفكّر والقلم المسطّر، وألفاه "من الكُتب التي تَشارَك في تأليفها قلبٌ شاعرٌ واعٍ وفكرٌ مُتنبّهٌ ممحّص، وقلبٌ عربيٌّ صميم، سهل القياد في أكثر مَسالكه، فتيّ الروح، مستقلّ النزعة، وما أندر القلوب الواعية والأفكار المتنبّهة، والأرواح الفتيّة والنّزعات المستقلّة في آدابنا العربيّة" (الغربال ص 246). وقرأ "عواصف" جبران خليل جبران فوجَد فيها ما لم يعثر عليه في ما كتبه أدباء لبنان، يقول نعيمة: "عبثا أضعْتُ وقتي باحثاً عن أثر لذلك (= يقصد هَيبة لبنان وأنفته وعزمه ونقاءه وموسيقى غدرانه وعطر رياحينه) في قصائد لا تُحصى جادت به أدمغة بعض أبناء لبنان (...) غير أنّي ما عثرتُ على قصيدةٍ قطّ تنمّ عن روح لبنان. أمّا في كتابات جبران فقد لمستُ بروحي أشواق لبنان، وشاهدتُ هَيبة ذلك الجبل وأنفته، وشعرت بعزمه، وسمعتُ موسيقى غدرانه، وتنشّقت عطر رياحينه. في منثورات جبران ومنظوماته سمعتُ أنباض لبنان، وسمعتُ خفقان قلبه" (الغربال ص 225).

لقد كان نعيمة مُعجباً بأدب العقّاد وبمنثور جبران وشعره لأنّ إبداعهما كان نابعاً من القلب ومُعبّراً عن مشاعر الإنسان وما يختلج في نفسه من عواطف وعواصف ومن سعادة وشقاء ومن أفراح وأتراح. وكان أدب جبران خاصّة يتدفّق خيالاً ويرشح رموزاً، ويُولد على غير مثال، وكان جبران ثائراً على كلّ شيء، وقد أتت ثورته على الأخضر واليابس حتّى أنّه صار غريباً في وطنه وبين قومه، "كان أوّل لسان نَطَقَ به لسان جبران خليل جبران. فهل من غرابة إذ ذاك إذا سمعنا هذا الشاعر يخاطبنا بلغةٍ ما تعوّدناها من قبل، ويرسم لنا رسوماً ما ألفتها منّا العَين، ويكلّمنا بما نحسبه ألغازاً وما هو بالألغاز؟ وهل يُمكن النهر الذي تجمّعت فيه سواقٍ كثيرة أن يحصر مياهه بين ضفّتَيْ ساقية من تلك السواقي؟ بل كيف لمَن في روحه خمرة جديدة أن يسكبها في زقاقٍ عتيقة؟ لم يتقيّد جبران بالقوانين والسنن التي أذعن لها شعراؤنا وكتّابنا منذ أجيال لأنّه وَجَدَ نفسَه أوسع منها. وعندما شَعَرَ بحاجة إلى البيان عمّا في نفسه الهائجة أبى أن يلجأ إلى الأساليب البيانيّة المطروقة فأعرض عنها، ثمّ ثار عليها" (الغربال ص 226).

إنّ لبنان البلد الجميل سيظلّ شامخاً أبداً بطبيعته الغنّاء الفاتنة وبحضارته الموغلة في التاريخ وبأدبائه ومفكّريه السبّاقين إلى الإبداع والتجديد والانفتاح على العالَم.

قال إيليا أبو ماضي في قصيدةٍ له في ديوان "الخمائل" بعنوان " لبنان":

إثنــــان أعْيــــا الدّهــــر أن يبليهمــــا

لبنــان والأمـــل الــذي لذويــــه

نشتاقـــهُ والصّيـــــف فوق هضــــابــه

ونحبّــــــه والثلـــج في واديـــــــــه

... وطني ستبقى الأرض عندي كلّهـا

- حتّى أعود إليه - أرض التّيه ...

*باحث من تونس - مؤسسة الفكر العربي