أوروبا و شبح الحرب l تقريرخاص

news image




مروة شاهين - بيروت - بث:

ست و سبعون عاما من السلام عاشتها القارة الأوروبية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي حولتها إلى كتلة لا متناهية من الدمار، حيث لم تفوت القارة العجوز بعد انتهاء هذه الحرب فرصة للقيام ب اي خطوة تبعد عنها شبح حرب جديدة، من اتفاقيات التعاون الاقتصادي و حرية الحركة التي اولدت فيما بعد كيانا عُرف بالاتحاد الأوروبي إلى الاتفاقيات السياسية و العسكرية وصولا إلى حلف شمال الأطلسي او ما يعرف بالناتو، إضافة إلى ما تبذله من جهود لتقريب الشعوب الأوروبية من بعضها و محاربة كافة أشكال العنصرية و التعصب الديني او العرقي بهدف تفادي التنابذ الديني و العرقي الذي كلّف القارة الأوروبية دماءً و مآسٍ لا تعد و لا تحصى على مر العصور.

جهودٌ غير كافية

فعبارة الخطر الآتي من الشرق، ربما تكون العبارة الأصلح لوصف الأخطار التي تواجهها القارة الأوروبية و العالم الغربي ، فعلى الرغم من كون ما يعرف ب أوروبا الغربية واحة للاستقرار السياسي و الأمني ألا ان الشرق الأوروبي لا زال يلوح بتهديداته تجاه القارة العجوز،و هنا نتحدث بالتأكيد عن الأزمة الروسية – الاوكرانية.

مقدمات الأزمة

اذا ما أردنا الغوص في أعماق التاريخ، سنجد دائماً ارتباطا وثيقا بين شعوب أوكرانيا و روسيا بحكم التجاور الجغرافي و تقارب اللغة و الدين و العادات والتقاليد، أما في التاريخ الحديث ف إن جمهوريه أوكرانيا الاشتراكية (١٩٢٢) تعتبر من الجمهوريات المؤسسة للإتحاد السوفيتي الذي خلَف روسيا القيصرية، و بعد انهيار الاتحاد السوفيتي و تفككه في نهايات القرن الماضي، أصبحت أوكرانيا جمهورية مستقلة عام ١٩٩١ و جارة لدولة روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفيتي السابق.

ربما تعطي هذه اللمحة التاريخية فكرة عن اسباب الأزمة، إذ أن جمهورية روسيا الاتحادية، التي تمتلك قدرات عسكرية و سياسية هائلة، لا تتوقف عن محاولة استعادة امجادها القديمة، و تبرز هذه السياسات التوسعية للجمهورية الروسية من خلال محاولاتها لتقوية و استعادة نفوذها في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق و لا سيما دول أوروبا الشرقية و آسيا الوسطى.

كيف بدأت الأزمة الروسية – الاوكرانية ؟

في عام ٢٠١٣ و بعد أن واجهت أوكرانيا أزمة اقتصادية ادت فيما بعد إلى اندلاع احتجاجات شعبية ادت الى الاطاحة ب حكومة الرئيس فيكتور يانغوفيتش المقرب من الروس، و هذا ما اعتبرته روسيا محاولة لاحداث تغييرات سياسية في أوكرانيا التي تمتلك حدودا طويلة مع روسيا الاتحادية و بالتالي تمهد إلى ضم أوكرانيا فيما بعد إلى الاتحاد الأوروبي و بعدها إلى حلف شمال الأطلسي ، و بالتالي تجد روسيا الاتحادية حلف شمال الأطلسي على حدود الأراضي الروسية و ” على أبواب موسكو”، ما اعتبرته الحكومة الروسية انذاك تهديدا مباشرا للامن القومي الروسي و ردت على هذه المحاولات بأن قامت بغزو شبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤و ضمها إلى جمهورية روسيا الاتحادية مما دفع الغرب إلى تطبيق عقوبات اقتصادية عالية المستوى على روسيا و أحدث توترا في العلاقات الدولية خصوصا بين روسيا و الغرب، عدا عن قيام روسيا بدعم جماعات انفصالية موالية لها في أوكرانيا و تحديدا في دونباس على الحدود الروسية الاوكرانية و اعلان هذه الجماعات المسلحة انفصال إقليمي “لوغانتسك” و “دونيتسك” عن أوكرانيا ، ما أدى إلى حدوث حرب محدودة في دونباس شرقي أوكرانيا بين القوات الحكومية الاوكرانية و بين مسلحين انفصاليين مدعومين من روسيا ،وقعت بعدها جمهورية روسيا الاتحادية تحت وطأة عقوبات اقتصادية قاسية إضافة لاستبعادها من مجموعة الثمانية الكبار المعروفة ب (ج ٨).

تطور الأزمة و معالمها

تواردت خلال الأشهر القليلة السابقة العديد من التقارير و المعلومات التي تتحدث عن حشد روسيا لجيوشها على الحدود الشرقية لاوكرانيا اي على الحدود الروسية الاوكرانية ، و وصلت تقديرات الحشود الروسية إلى ما يقارب ال ١٠٠ الف جندي إضافة إلى المعدات العسكرية و التقنية، ما اعتبرته أوكرانيا و الغرب تحضيرا روسيا لغزوٍ وشيك للأراضي الاوكرانية، بينما صرح الرئيس الاوكراني الحالي فلاديمير زيلينسكي عن وجود تقارير استخباراتبة تفيد بأن روسيا تحضر لهجوم عسكري على أوكرانيا في أواخر شهر يناير كانون الثاني اي الشهر الأول من عام ٢٠٢٢، إضافة إلى تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الامريكية الذي رفع تصنيف أزمة حدوث اعتداء روسي على الأراضي الاوكرانية من “أزمة محتملة” إلى “أزمة حتمية “..

سيناريوهات محتملة

على الرغم من التصريحات المتتالية لمسؤولين روس بأن مزاعم وجود اية نية روسية لغزو أوكرانيا هي مجرد ادعاءات لا اساس لها من الصحة، إلا أن أوكرانيا و حلفائها في الغرب يرون عكس ذلك، و بالفعل بدأ النقاش و الحديث عن كيفية تصرف الحلفاء الغربيين في حال تعرض أوكرانيا لغزو روسي و تتعارض الآراء و وجهات النظر حول استعداد حلف شمال الأطلسي للدخول في غمار حرب مع روسيا للدفاع عن أوكرانيا، إضافة إلى الاختلاف حول الأهمية التي تمثلها أوكرانيا بالنسبة للحلفاء الغربيين ،إذ يرى الدبلوماسي الأمريكي جون هربست و الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة الأمريكية في أوكرانيا لمدة ثلاث سنوات “ان روسيا بقيادة بوتين تشكل خطرا على حلفاء الولايات المتحدة الاوروبيين و ان أوكرانيا في الوقت الحالي هي أفضل ساحة لمواجهة الروس”..

أما عن أهمية أوكرانيا لروسيا فإن الجمهورية الاوكرانية هي سوق مهم لروسيا الاتحادية، إضافة لكونها معبرا لخطوط الغاز الروسي الذي يوصل الغاز الروسي إلى أوروبا، فضلا عن الاعتبارات الجغرافية و كون أوكرانيا جارة لروسيا، فإن ما يجعل أوكرانيا أخطر جار لروسيا من ناحية الاعتبارات الجيوسياسية، هو أن الحدود الروسية الاوكرانية تمتد على طول سهول و تضاريس سهلة لا موانع طبيعية فيها، مما يجعل غزو روسيا من جهة الحدود الاوكرانية هو من أسهل و أقرب الطرق للوصول إلى موسكو، و هذا ما تعتبره روسيا تهديدا خطيرا لامنها السياسي و العسكري و بالتالي فإن السياسة الروسية تجاه أوكرانيا تقوم على عدم السماح باي تقارب أوكراني – غربي، لما يمثل ذلك من خطر على الأمن الروسي، و بالتالي فإن زيادة التقارب الاوكراني الغربي الذي شهدته الفترة الماضية قد يكون السبب الأساسي لأي محاولة روسية لغزو أوكرانيا..

الغرب أمام خياران

عقوبات اقتصادية على روسيا او تدخل عسكري ضدها، خياران لا ثالث لهما امام الغرب في حال حدوث اعتداء روسي على الأراضي الاوكرانية ، إذ أن الخيار الأول اي العقوبات، لن يكون موثرا بشكل كاف ليثني روسيا عن ممارساتها تجاه أوكرانيا ، تماما كما لم يثنيها عن غزو شبه جزيرة القرم و دعم الانفصاليين الموالين لها في أوكرانيا عام ٢٠١٤، كما يتخوف الغرب من أن الاكتفاء بالعقوبات دون تدخل رادع للروس، قد يشجع روسيا على الاستمرار في ممارساتها لغزو دول أخرى في أوروبا و آسيا الوسطى و قد يكون غزوها أسهل بكثير على الروس من غزو الجارة الاوكرانية، كدول البلطيق مثلا (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) و بالتالي قد يكون عدم الرد عسكريا على روسيا بمثابة تشجيع أوربي لروسيا لاستكمال سياسياتها التوسعية في أوروبا، على حساب المصالح الغربية، كما أنه يمكن أن يشجع دولا أخرى على تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها الغرب في العالم، و خصوصا في ما يتعلق ب بحر الصين الجنوبي و جزيرة تايوان، كما أن الخيار الآخر ألا و هو الرد العسكري، أيضا قد يكون آخر ما يتمناه الغرب، اي ان الخيارين أحلاهما مرُّ، و بالتالي فإن الرد العسكري سيكون خيارا لم يرد الغرب يوما الخوض فيه من جديد، خصوصا ان الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى التخلص من آفات حروبها الأخيرة في الشرق الاوسط و خصوصا بعد انسحابها من أفغانستان، و ان القارة الأوروبية غير مستعدة للتضحية من جديد بامنها و استقرارها السياسي و الاقتصادي الذي بنته بعد الحرب العالمية الثانية، و بالتالي تفرط بكل الجهود التي بذلتها منذ ١٩٤٥ إلى يومنا هذا بهدف “إبعاد شبح الحرب”..