الإنفاق العسكريّ ومعضلة بقاء الإنسان

عدنان كريمة*
مع ارتفاع حدّة "حرب التجارة العالميّة" التي بدأها الرئيس دونالد ترامب في الثاني من نيسان/ أبريل الماضي، بفرْض رسومٍ جمركيّة ضدّ 180 دولة، في مُحاولةٍ منه لتخفيف العجز التجاريّ الأميركيّ الذي استقبل ولايته الثانية في كانون الثاني/ يناير الماضي برقمٍ قياسيّ بَلغ 131.4 مليار دولار في شهرٍ واحد، تبرز أهميّة الإنفاق العسكريّ وتطوُّر صناعة الأسلحة، وازدهار تجارة الدول المُنتِجة، في تمويل الحروب والصراعات الجيوسياسيّة، بما يُسهِم في زيادة صادراتها، وخصوصاً أنّ الدول ذات النفوذ العالميّ، تحتاج إلى جيشٍ قويّ لحماية مصالحها، سواء في قنوات التجارة أم في التعامل مع الطوارئ العالميّة، أم في المُشاركة في مهامّ حفْظ السِّلم العالميّ.
ونظراً لأهميّة "فوائد ميزانيّة الدّفاع"، فهي تمتدّ لتُصبح مَصدراً رئيساً للنموّ الاقتصادي، وخلْق فُرص العمل، وتعزيز النفوذ السياسي والأمني، والسيطرة الاقتصاديّة. وهذا ما تُحقِّقه، وتقطف ثماره الولايات المتّحدة من خلال الدور الذي تؤدّيه "صناعة الأسلحة" في نموّ الاقتصاد الأميركي، حيث تُمثِّل أكثر من 60 في المئة من إجمالي الصناعة الأميركيّة. وهي بالتالي تُسيطر بقبضةٍ من حديد على سوق تجارة الأسلحة في العالَم، بحصّةٍ تَصل إلى 59 في المئة.
تاريخيّاً أسهَمت الصناعة العسكريّة الأميركيّة في هزيمة الفاشيّة والنازيّة في الحرب العالميّة الثانية، وشكَّل ازدهارُها في فترةِ ما بعد الحرب عنصراً أساسيّاً في استراتيجيّة الولايات المتّحدة العالميّة، وذلك انطلاقاً من وجود ترابُط قويّ بين الحروب والتهديدات والصراعات الجيوسياسيّة. وصناعة الدّفاع، وقوّة الولايات المتّحدة وعظمتها. ويَعتبر الخبراء أنّ ضعف "الصناعة العسكريّة"، يعني ضرْبَ العمود الفقري للاقتصاد الوطني، وتقويض قوّة الإمبراطوريّة الاقتصاديّة الأميركيّة. لذا يُراهن الأميركيّون على أن ينعكس النموّ المسجَّل حاليّاً، والنموّ المستقبلي في الصناعة العسكريّة، عنصراً أساسيّاً في منْع الاقتصاد الأميركي من الوقوع في الركود الذي تتخوَّف منه الأسواق الماليّة. مع العِلم أنّ النّاتج المحلّي بَلغ 28.7 تريليون دولار في نهاية العام الماضي، ووصلتْ قيمةُ التجارة الدوليّة للولايات المتّحدة الى 6.2 تريليون دولار.
ويُستدَلّ من تطوُّر الحرب الروسيّة الأوكرانيّة المستمرّة منذ نحو 38 شهراً، وكذلك الحرب الإسرائيليّة في غزّة ولبنان، أنّ الحروب في القرن21، هي حروب مدمِّرة بامتياز، وتُستعمل فيها أسلحةٌ حديثة ومُبتكَرة. فمن جهة لـ "التجربة"، ومن جهةٍ أخرى لتسويقها تجاريّاً، حيث يَبرز الهدفُ الأكثر اهتماماً لهذه الحروب، وهو "إنماء اقتصاد الحرب"، ولاسيّما لدى بعض الدول الكبرى "المُصنِّعة"، في ظلّ مواجهتها تداعيات الركود الاقتصادي والتراجُع المالي والنقدي، فضلاً عن تراكُم الديون وفوائدها المُرتفعة.
وتشتدّ المُنافسة بين الدول المُختلفة نحو تعزيز قدراتها الدفاعيّة والتكتيكيّة، وسط بيئة تتّسم بالاضْطراب وعدم الاستقرار، وخصوصاً أنّ هذا التوجُّه يَعكس التحدّيات الأمنيّة المعقّدة التي تواجهها هذه الدول، ويؤدّي إلى إعادة تقييم استراتيجيّاتها العسكريّة، وتحديث معدّاتها ونُظمها الدفاعيّة بشكلٍ مُستمرّ.
الاستثمار الأميركيّ
يَبرز دَور الولايات المتّحدة كأكبر مموِّل للحروب، وأكبر مُستثمِر في الصناعات العسكريّة. وهي تتصدّر قائمة المُنفقين على صفقات السلاح. وقد وصفَ تقرير"هارفرد بزنيس سكول" ميزانيّة التسلُّح بأنّها "الميزانيّة الشبح" التي تُغذّي الحروبَ في العالَم. ومنذ إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، شهدَ الإنفاقُ العسكري ارتفاعاً مُستمرّاً، عزَّز تمويلَ مُختلف القطاعات العسكريّة والاستخباراتيّة. وأسهَمت الحروبُ الحديثة والمخاوف الأمنيّة العالميّة في استمرار تصاعُد الإنفاق العسكري، ما يَعكس تحوّلاً في الأولويّات الاستراتيجيّة للولايات المتّحدة. ووفق تقرير "المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجيّة"، ومقرّه لندن، ارتفعَ الإنفاقُ العسكري العالمي بنسبة 7.4 في المئة إلى 2.46 تريليون دولار في العام الماضي، مقارنةً بالعام 2023. وكنسبةٍ من النّاتج المحلّي الإجمالي، زاد هذا الإنفاق من متوسّط 1.59 في المئة في العام 2022 إلى 1.80 في المئة في العام2023، ثمّ إلى 1.94 في المئة في العام الماضي.
وبَلغت حصّةُ خمس دول رئيسة 61.6 في المئة، بقيمة 1.516 تريليون دولار. وتتصدّرها الولايات المتّحدة بمبلغ 968 مليار دولار، تليها الصين في المرتبة الثانية ولكنْ بفارقٍ كبير، إذ بلغتْ حصّتها 235 مليار دولار، ثمّ روسيا، المَعنيّة مباشرةً بحرب أوكرانيا، والتي بلغت حصّتها 145.9 مليار دولار، تليها ألمانيا 86 مليار دولار، فالمملكة المتّحدة 81.1 مليار دولار.
وفي سياق الدّعم الأميركي لصناعة الأسلحة، مَنح الرئيس دونالد ترامب في آذار/ مارس الماضي شركة "بوينغ" عقداً بقيمة 20 مليار دولار لتصنيع طائرة "إف 47"، وهي أكثر الطائرات المُقاتلة تطوُّراً. وقد أَنقذ هذا العقدُ الشركةَ من أزمتها الماليّة، بعدما تكبَّدت خسائر سنويّة بنحو 11.8 مليار دولار، وهي الأكبر منذ العام 2020، بسبب مشكلات في وحداتها الرئيسة، مع تداعيات إضرابٍ أَوقف إنتاج معظم طائراتها، ولكنّها بفضل هذه الصفقة ارتفعت أسهمها بنسبة 5 في المئة، بعدما تفوَّقت على شركة "لوكهيد مارتن" التي انخفضت أسهمُها بنسبة 7 في المئة. وتأمل "بوينغ" أن تتلقّى طلبات تُقدَّر بمئات المليارات من الدولارات على مدى عُمر عقْد التصنيع للطائرة الجديدة. مع العِلم أنّ تصميم هذه الطائرة يبقى سرّاً مُحاطاً بالحَذَر، وخصوصاً أنّه يشمل تقنيّات "الشبح" وأجهزة استشعار متقدّمة ومحرّكات متطوّرة.
وفي ظلّ تطوّرات الحروب "والصراعات الجيوسياسيّة"، تَشهد العلاقات الدوليّة تسارُعاً تدريجيّاً في الطلب على الأسلحة. وهناك مجموعة من أكبر خمس شركات أميركيّة، سبقَ أن حصلتْ على عقودٍ من وزارة الدّفاع بقيمةٍ تزيد على 118 مليار دولار.
الاستثمار الأوروبيّ
إذا كانت حصّةُ صادرات الأسلحة الأميركيّة قد بَلغت نحو 40 في المئة من إجمالي صادرات العالَم، فإنّ حصّة أوروبا لا تقلّ عن 33 في المئة. وقد ارتفع الإنفاقُ الإسمي على الدّفاع في أوروبا بنسبة 50 في المئة خلال العقد الماضي. ووفق تقرير "التوازن العسكري لعام 2025" الصادر عن "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجيّة"، كانت موازنة ألمانيا العسكريّة هي الأكبر، متقدّمةً على المَملكة المتّحدة التي كانت تحتلّ المرتبة الأولى. وأشار التقرير إلى أنّه في ظلّ مُعادَلة التضخُّم، تأثّرت زيادة لندن للميزانيّة العسكريّة في العام الماضي، ومحذّراً من أنّ الجهود الجديدة قد لا تكفي لتعويض نقص الاستثمار في صناعاتها العسكريّة.
وتسعى دول الاتّحاد الأوروبي إلى ضخِّ نحو 800 مليار يورو في قطاع الدّفاع خلال السنوات الأربع المُقبلة، وسط ازدياد الشكوك حول التزام واشنطن تجاه حلفائها الأوروبيّين، في أعقاب سياسات الرئيس الأميركي بشأن الحرب في أوكرانيا، ودعوته أوروبا لتحمُّل مسؤوليّة أكبر عن أمنها، حتّى أصبح واضحاً أنّ تَجاهُل هذا القطاع لم يعُد خياراً مطروحاً، ولاسيّما أنّه باتَ أكثر جاذبيّة للمُستثمِرين مع تصاعُد "التوتّرات الجيوسياسيّة ".
وخلافاً للأرقام التي أَعلنها ترامب أمام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، بأنّ الولايات المتّحدة قدَّمت مساعدات بـ 300 مليار دولار لأوكرانيا، حصلت كييف على مدى السنوات الثلاث الماضية (وفق الأرقام والبيانات المُتاحة) على نحو 267 مليار يورو مساعدات إجماليّة من المانحين كافّة، وليس من واشنطن فقط، أي نحو 80 مليار سنويّاً. وهي تشمل 130 مليار يورو للدعم العسكري، و118 مليار للدعم المالي، ونحو 19 مليار يورو للمساعدات الإنسانيّة. ووفق "معهد كيل للاقتصاد العالمي"، بَلغ إجمالي الدّعم المسجَّل من الجانب الأوروبي 132.3 مليار يورو، وذلك منذ 24 كانون الثاني/ يناير 2022 وحتّى نهاية كانون الأوّل/ ديسمبر 2024. أمّا الولايات المتّحدة، فقد قدَّمت في الفترة نفسها 114.2 مليار يورو. وهناك تعهّدات أوروبيّة بتقديم 115 مليار يورو إضافيّة، كما يعمل الاتّحاد الأوروبي على إقرار حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا قيمتها 20 مليار يورو.
وعلى الرّغم من ذلك، تُعتبر هذه المساعدات محدودة جدّاً، حيث لم تتجاوز إسهامات ألمانيا وبريطانيا والولايات المتّحدة نسبة 0.2 في المئة من النّاتج المحلّي الإجمالي السنوي لتلك الدول، كذلك قدَّمت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا 0.1 في المئة من ناتجها المحلّي. ولكن بالمقارنة بين ما قدَّمته الولايات المتّحدة في حرب أوكرانيا وبين المساعدات الماليّة الأميركيّة تاريخيّاً في الحروب، يُلاحظ الفارق الكبير في التقديمات. من ذلك مثلاً، أنّ إسهاماتها خلال الحرب العالميّة الثانية شكّلت نسبة 4.9 في المئة من ناتجها المحلّي الإجمالي، وكذلك تقديمها ما نسبته 2.8 في المئة من ناتجها في الحرب الكوريّة، و1 في المئة خلال حرب فيتنام. علماً أنّ ما قدّمته لأوكرانيا، لم يكُن دعماً لنصرة كييف، وإنّما لتغذية قدرتها على الاستمرار في الحرب، لتصلَ اليوم إلى نقطة اللّاعودة وتضطرّ إلى تقديم تنازلاتٍ مؤلِمة.
حقوق الإنسان والسلام العالَميّ
تُشير بعض الدراسات إلى أنّه يوميّاً، ومع كلّ إشراقة شمس، يصحو العالَم على إنفاق أكثر من ستّة مليارات دولار على السلاح، بينما يتعرَّض للموت أكثر من ثلاثين ألف طفل، بسبب أمراضٍ يُمكن علاجها، أو جوعٍ يُمكن تجنّبه. ومع هذا الاستثمار الكبير في صناعة الأسلحة وتمويل تجارة الحروب، لم يعُد وقف الإنفاق العسكري المُفرط وإعادة توجيه الموارد نحو التنمية والسلام، مجرّد مطلب، بل أصبح ضرورةً لبقاء الإنسان، ولا بدّ من ترسيخ هذه الثقافة، ودعْم الحملات العالميّة المستمرّة ضدّ الإنفاق على التسلُّح العسكري من قِبل جمعيّات المجتمع المدني في البلدان المُنتِجة للسلاح، والتي تُطالِب بنزْع السلاح وتطبيق القانون الدولي الذي يَحرص على حقوق الإنسان في الحياة، وحماية المدنيّين والأبرياء وعمّال الصحّة والإغاثة في مناطق الحروب والنّزاعات.
وفي هذا المجال يُمكن التذكير بما أعلنه الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور في العام 1952، بعد الحرب العالميّة الثانية، وبما حرفيّته: "إنّ كلّ مدفع صُنع، وكلّ بارجة حربيّة أَبحرت، وكلّ صاروخ أُطلق، يعني بالمحصّلة النهائيّة، لصوصيّة وسرقة، من أولئك الجائعين الذين لا يَجدون غذاءهم، وأولئك الذين يَبردون ولا يَجدون الثياب التي تكسوهم. فالعالَم مع السلاح لا يُنفِق المال فحسب، بل إنّه يُنفق عَرَقَ عمّاله، وعبقريّة عُلمائه، وآمالَ أطفاله، وهذه ليست طريقة للحياة بمعناها الحقيقي. فتحْتَ ضباب التهديد بالحرب، تُصلَب الإنسانيّةُ فوق صليبٍ من فولاذ".
*كاتب ومحلّل اقتصادي من لبنان