الإعلام : إستذكاء الأغبياء .. واستغباء الأذكياء

✍️ عبدالله العميره
مقدمة
في فضاء الإعلام المعاصر تتجاذب حملتان متناقضتان: “استغباء الأذكياء” حيث يُقحم المحتوى الذكي في سرد مبسط مخلّ يفقده عمقه، و”استذكاء الأغبياء” حيث يُقدّم المحتوى السطحي وكأنه ثروة فكرية. يكمن السؤال الرئيس: أيّهما أشدُّ ضرراً على الرأي العام؟ وكيف يفهم الجمهور الإعلام في ظلِّ هذا التراكب المفاهيمي؟
تعريف المفهومين
استغباء الأذكياء: نقل الموضوعات المعقدة أو التحليلات العميقة بلغة مبسَّطة إلى درجةٍ تفقدها جوهرها وأبعادها، فيُحرم المتلقّي من التفاعل الذهني الواعي.
استذكاء الأغبياء: تقديم محتوى سطحيٍّ أو معادَ تدويره بأسلوبٍ يوحي بأنه جديد واستثنائي، فيخرج الجمهور بمعلومات لا قيمة لها ولا جدوى.
تأثير استغباء الأذكياء
تفتيت النقد: حين يُفرط الإعلام في التبسيط، يفقد الجمهور القدرة على فهم التعقيدات، فيتصاعد انعدام الثقة ويعمّ الفهم السطحي.
تدني المستوى الحوار: تتحوّل النقاشات العامة إلى شعارات وقوالب جاهزة، ما يعيق المواطن عن الإسهام الفعّال في صناعة القرار.
تزوير الوعي: يُشبه استغباء الأذكياء تقديم خرائطٍ مبتورة لمسار الحدث، فيُظنّ المتلقّي أن الصورة مكتملة.
تأثير استذكاء الأغبياء
تشجيع السذاجة: عندما يُقدّم المحتوى التافه وكأنه ثمينٌ، ينشط شعور الجمهور بالرضا عن معرفتهم السطحية، فتضعف الرغبة في التعلّم والتعمّق.
انتشار التضليل: المحتوى البسيط الزائف يكتسب انتشاراً واسعاً، لأن الجمهور لا يميّز بين الجديد والمكرر أو بين الصحيح والخاطئ.
إلهاء القضايا الجوهرية: تُغطي ضوضاء “المعرفة الكاذبة” على القضايا الحقيقية والمهمة، فيخسر الرأي العام فرصة الانشغال بما يفيده فعلاً.
أيّهما أشدّ سوءاً؟
رغم اختلافهما، ينشأ الخطر الأكبر عندما يلتقي الاستغباء بالاستذكاء:
دمج الخطيئة المزدوجة يقضي على الوعي النقدي ويغرق الجمهور في تيارٍ من المعلومات المغلوطة أو المبتورة.
يظل استغباء الأذكياء أخطر، لأنه يفسد المحتوى الأصيل ويُخطره في انعدام المصداقية، فيما يُعالج استذكاء الأغبياء عبر رفع سقف الثقافة التلقائية.
كيف يفهم الجمهور الإعلام؟
التصفّح السريع: باتت عادات القراءة تتجه نحو القفز على العناوين والمقدمات فقط.
المصداقية المطلوبة: الجمهور اليوم يُطالب بالمصدر والتحقق ويعتبر “العلامة الزرقاء” أو “التحري الجاد” معيار ثقة أساسي.
التفاعل والتحكيم: يُقيّم الجمهور المحتوى عبر تعليقات وتفاعلات شبكية، وهو بذلك صار “محكم” على الإعلام بقدر ما الإعلام يُرصد سلوكه.
السياسة والإعلام: علاقة تبادلية
الإعلام في السياسة: يُشكّل الرأي العام، ويخلق سلطة تحقق بقاء الزعماء أو إسقاطهم عبر اختيار “قضايا اليوم”.
السياسة في الإعلام: تستثمر الخطاب الإعلامي لتدعيم أجنداتها، فتتحكم في الرسالة عبر الأكاذيب أو التحييز.
تبقى الرسالة الإعلامية هي الحلقة المركزية التي تصهر السياسة في إعلام يُعدّ سلاحاً، والإعلام في السياسة كجنديٍّ يؤدي الأوامر الإعلامية.
آليات التأثير الإعلامي
تحديد الأولويات (Agenda Setting): ما يُعرض أو يُهمل في خبرٍ واحد يغير وزن الحدث في وعي الجمهور.
إطار المعالجة (Framing): اختيار الزاوية اللغوية يجعل المتلقى ينظر للحدث بمنظارٍ محدّد.
التكرار (Repetition): لا شيء مثل التكرار لترسيخ الفكرة، سواء أكانت صحيحة أو خاطئة.
استدعاء العواطف: الغضب، الخوف، الفرح… مفاتيحٌ أساسية لتحريك الجمهور نحو موقفٍ ما.
مطالب الجمهور للإعلام
“عزيزي الإعلام، احترم ذكائي. انقل الحدث كما هو وفسره كما هي الحقيقة.”
الشفافية: كشف المصادر وطريقة جمع المعلومات.
الحياد: التزام التوازن في نقل وجهات النظر.
الوضوح: عرض الحقائق بلا تلاعبٍ لغوي أو إيهامٍ عاطفي.
التقصّي: استثمار الوقت في التحقيق بدل التداول السطحي.
هل لا بدّ للإعلام أن يعرض الحقائق كما هي؟
يُمثّل هذا السؤال صلب المأزق الأخلاقي للصحافة:
المثاليّة المطلقة غير قابلة للتطبيق تماماً، لأن اختيار الخبر نفسه هو عملية فَرْض نوعٍ من الواقع.
لكن الالتزام بالمصداقية والحياد المجتهد هما ضرورة أخلاقية:
تقديم قراءة شفافة تضع الأحداث في سياقها التاريخي والاجتماعي.
تمييز الواقع عن الرأي بعلامات واضحة داخل النص الإعلامي.
خاتمة
في عصر تتزاحم فيه الأصوات وتتداخل الرسائل، يظل احترام ذكاء الجمهور الرافعة الأساسية لبقاء الإعلام المؤثر. يتعيّن على الصحفيين والمحتوى الإعلامي أن يتجنّبا فتنتَي “استغباء الأذكياء” و”استذكاء الأغبياء”، وأن يخلقا مساحةً للوعي النقدي عن طريق عرض الحقائق كاملةً وتفسيرها بوضوحٍ وأمانة. فحينما يمنح الإعلام جمهوره حقَّه في المعرفة الحقيقية، يُزهر خطاب متزن قادر على دعم الديمقراطية وصناعة القرار الصائب.