محاولة لجعْل العالَم أفضل قليلاً

news image

 
 

أحمد فرحات* 

كثيرون هُم الأدباء الغربيّون الذين أتعبتهم بلادهم فكانوا يغادرونها إلى الخارج ليرتاحوا ويتأمّلوا، ولو إلى حين؛ ومن بين هؤلاء الروائيّ الألمانيّ "غونتر غراس" (1927 - 2015) الحائز على جائزة نوبل للآداب عن ثلاثيّته الروائيّة المعروفة بـ "ثلاثيّة داينتسيغ" في العام 1999، والذي كان يَعشق الهند ويتردّد عليها أكثر من مرّة في السنة، إذ كان يرى فيها البلاد التي تُعيد إليه الكثير من حيويّته وتوازن ذاته المضْطربة.

وغونتر غراس، إلى جانب كونه روائيّاً فذّاً، هو أيضاً شاعر ونحّات ومسرحيّ يُحسب له حساب في ألمانيا وأوروبا بعامّة؛ فهو أوّل مَن بَشَّر بانتهاء عصر الشخصيّة في الرواية، وأَدخل "ترسانة السورياليّة" إلى أدبه بغنائيّةٍ غاضبة تُناسب تمرّده وانخلاعه على الجهات.. ولقد وصفه الشاعر والناقد الفرنسي ميشال دوغي "بأنّه سيّد الرواية الجديدة أو الأعمال المُعادية للرواية في أوروبا والعالَم".

في زيارةٍ شخصيّة لي إلى مدينة دوسلدورف الألمانيّة منذ ما يزيد على عقود ثلاثة، التقيتُ بشعراء ومثقّفين ألمان قدّمني إليهم أحد الأصدقاء اللّبنانيّين المُقيمين في ألمانيا.. ودارَ بيننا حديثٌ مطوّل حول الشعر والأدب والفلسفة في بلاد "غوته"؛ وبمجرّد أن تفوّهتُ أمامهم باسم غونتر غراس، حتّى بادرني أحدهم و"بإنكليزيّة شبه هتلريّة": "تقصد "بورنو غراس".. وأردف: "آه، إنّه كاتب جيّد، لكنّه منعزل وحادّ الطبع".

ومن دون أن أستفسره عمّا يقصد "ببورنو غراس"، استطردَ قائلاً: "لا تَرْتَب أيّها الصديق الجديد.. أنا أعني ما أقول، فهو كاتبٌ إباحيّ ومُنخلع في إباحيّته. هو مثل نورمان ميلر في الولايات المتّحدة، جريء وقاطع، إيثاريّ وحاسِم، حتّى لتحسبه واحداً من ضبّاط الجيش الذين يقطّبون جباههم في لحظة نفير جديّة".

على أنّ غونتر غراس على "حديديّته الفرديّة"، يظلّ أيضاً ينتقل من العزلة إلى العلاقة، ومن التجاوُز إلى الاندغام، لكنّ ذلك كلّه من ضمن نظرة كيانيّة شموليّة تُحذِّر من سقوط العالَم وفراغه القاتل، لا بل إنّه استشرفَ هذا الفراغ الأصفر القاتل من خلال ما حكاه في إحدى رواياته عن الفأرة التي تَرِث الجنس البشري على الأرض بعد دمارها بكوارث نوويّة متحقّقة.

ومثل هذا التدمير النووي يُحذّر منه كلّ إنسان سويّ، عاقل ومحبّ للسلام يحرص على وطننا الأمّ جميعاً كبَشر: "الأرض". إنّ هذه مهمّة عظيمة يتجنّد لها غونتر غراس.. هذا الكاتب العظيم المُدرِك في العُمق لمعضلة تدمير الإنسان لنفسه ولغيره، وعجْز هذا الإنسان في الوقت نفسه عن الإقلاع عن مزاولات لعبة التدمير هذه، والتي، ولا شكّ، وَقَفَ وراءها في السابق، وسيَقف لاحقاً، نفرٌ من حكّام ساديّين مرضى بالسياسات الديكتاتوريّة المنحرفة في غير مكانٍ من هذا العالَم.

روايات غونتر غراس تدلّنا دائماً على خصوصيّات رغبتنا فيها، وهي عبارة عن خليطٍ متوازن من قوّة التعبير الدلالي و"الكلام الصامت" المندمج في تطهيريّة مُستغرقة تنال من قارئها تماماً.. ويَعرف غراس في النتيجة كيف لا يَجعل من مضمون كتابته تعبيراً عن معنىً أوّل.

كما أسلفنا، يُغادر غونتر غراس بلده إلى الهند أكثر من مرّة في السنة، وذلك بهدف الراحة والتأمّل؛ فالهند بما فيها من أجواءٍ أسطوريّة وخرافيّة وبدئيّات تعويذاتيّة، تُجدِّد خيالَ الكاتب الأوروبي المُصادَر بالمنطق والتنظيم البارد؛ كما تُبعد عن لغته ضبابَ السأم والتبرُّم بالعالَم، فيستحيل موقفه في الحياة، وفي النصّ الأدبيّ، حالةً تنفجر بمحمولاتها إلى خارجها بدلاً من أن تظلّ حبيسة نفسها في دورانٍ حلزونيّ لا طائل منه.

يصنع غراس روايته من جحيم حياته وتشنّجاته وانقلاباته الخاطفة، وتلك البعيدة الحاذقة.. على الأقلّ هذا ما توحي به بعض أعماله التي قرأناها مترجمةً إلى العربيّة مثل "طبل الصفيح"، "القطّ والفأر" و"مخدِّر موضعي".

ففي هذه الروايات يقطع غونتر غراس مع الحقيقة البشريّة التعسّفيّة بحقّ نفسها وحقّ العالَم أجمع، ويظلّ صارماً على الدوام ضدّ السياسات التي تُفاقِم من أورام العصر وتناقضاته الفاقدة من خلال أصحابها لأيّ وعيٍ يقدّمه الدرس التاريخي المتناوب.. في الغرب خصوصاً، علاوة على بعض جوانب الحياة الحديثة المُفضية إلى إدراكٍ مشتّت في الفرد نفسه، ومن ثمّ في الجماعة لاحقاً، سواء بسواء. "ذلك أنّ حياتنا هي نَهْبٌ للمصادفات البحتة التي تظلّ تتدفّق علينا من كلّ صوب يوميّاً" حسبما يقول.

وهو أيضاً ضدّ نفسه عندما تُظهر الشكوى أمام مَنْ لا يرحمها. وأحياناً إذا ما أحسّ أنّ الصمت لديه، هو صمت صاغر ومذلّ بإزاء أيّ سلطة استبداديّة مناوئة، فسرعان ما يسعى، وبجهدٍ فوريّ موصول، إلى إقامة ضجيج مُناوىء لهذا الصمت المذلّ، عاملاً على قهْره وطرْده من عقله وذاكرته وضميره دفعةً واحدة.

إنّه كاتب مسؤول بدرجةٍ عالية ونافِذة.. يُدرِك أنّ المستقبل، مثل التاريخ، يبقى أساساً للفهم السببيّ للوقائع جميعها.

وربّما لأجل ذلك، يظلّ غونتر غراس كاتباً صلباً بموقفه، مهزوماً بقلبه.. وعلى خشية دائمة من أن تُسرَق منه نفسه في درجةٍ مفاجئة من العنف المجنون، والذي تتنكّبه، كما العادة، حفنةٌ مشوَّهة من السياسيّين المُرتبطين بجماعات الاحتكارات الماليّة الضخمة على مستوىً عالميّ، والتي يُحرّكها الشره وعمى الأنانيّة والتنافُس الضيّق على كلّ شيء.

وأستطرد فأقول إنّ غراس هو روائي الأسئلة السياسيّة الحارقة التي تظلّ تطرق رؤوسنا كلّ لحظة وبحرارة لا يُخطئها الحسّ لديه.

كان غونتر غراس مُحبّاً للعرب ومُناصراً لقضاياهم، وخصوصاً في فلسطين والجزائر، وكان مناوئاً شرساً للمشروع النووي الإسرائيلي، ولكيان إسرائيل الدخيل على المنطقة، كما قال بذلك الألماني أندرياس نوربرت كوهلر، صديق صديقي اللّبناني ميخائيل جوزيف خطّار المُقيم في ألمانيا منذ أكثر من 57 عاماً.

وأَردف كوهلر، بحسب خطّار، يقول إنّه جالَسَ مراراً غونتر غراس في واحدة من مقاهي مدينة دوسلدورف التي كان يحبّ التردُّد عليها، وحادَثَه في أمور كثيرة.. سياسيّة وثقافيّة، بخاصّة في ما يتّصل منها بأوروبا ومصيرها، وخصوصاً بعد قيام كيان الاتّحاد الأوروبي، وإنّه كان على الضدّ جملةً وتفصيلاً من التبعيّة الأوروبيّة المُذلّة للولايات المتّحدة الأميركيّة وفي كلّ أمر سياسي وحتّى ثقافي استراتيجي عامّ... وعلى العكس من ذلك (والكلام لكوهلر) كان على أوروبا، في رأي غونتر غراس، أن تقود هي أميركا وتعقلها في كلّ شيء آنيّ ومستقبليّ، أوّلاً، لأنّ العقل الأوروبي السياسي هو الأهدأ والأعمق من العقل السياسي الأميركي المحكوم دوماً بمنطق القوّة والمُكابَرة والتنطّع... وثانياً لأنّ الدول الأوروبيّة لم تَزل تتمتّع باحترامٍ وافر من معظم شعوب العالَم، بعكس ما تُبديه هذه الشعوب من نفورٍ تجاه الولايات المتّحدة وجبروتها مهما أبدت هذه الأخيرة عكس ما هو مروَّج عنها.

وفهمتُ من الصديق اللّبناني ميخائيل خطّار بَعد، وعلى لسان صديقه الألماني المذكور، أنّ هذه الوضعيّة الأميركيّة يجب أن يتبصّرها الاتّحاد الأوروبي على الدوام، وحتّى قَبل غيره من دول العالَم كافّة، وعلى مختلف الصعد والمستويات.

وكفى في رأيه "لهذه الأوروبا الخبيرة والعظيمة بطبقاتها السياسيّة والفكريّة والإبداعيّة الرائدة.. كفى لها أن تظلّ هكذا مقودة للولايات المتّحدة وبكلّ شيء تقريباً... نعم، إنّه أمر لا يليق بالاتّحاد الأوروبي أن يظلّ يَظهر لنا، ولغيرنا في العالَم، على هيئة جسمٍ عملاق ديموغرافيّاً وجغرافيّاً ولكن برأسٍ سياسي في منتهى الصغر".

على ما تقدّم، لا يُمكن للعالَم، وبرأي كثير من المفكّرين التنويريّين من مختلف الشعوب، أن يُقاد إلّا بالتعاون الجدّي الخلّاق بين الجميع.. جميع القادرين من الدول، ودائماً بالفكر والعِلم والمعرفة والثقافة والإبداع، وليس عبر "مفاهيم" الشركات الكبرى والتروستات الماليّة والاحتكاريّة على أنواعها.

ألا من سيضْطلع بهذه المهمّة الإنسانيّة الحضاريّة التاريخيّة الفاصلة، في غرب العالَم وشرقه، في شماله وجنوبه، في محاولةٍ منه لجعْل هذا العالَم المُنهَك والمتآكل أفضل قليلاً؟!


*مؤسّسة الفكر العربيّ

 

 

🕊️تعليق

في زمن تتبدّلُ فيه موازين القوى وتتلاشى فيه قيم الحوار، يظلّ أدبُ غونتر غراس ورؤيةُ فرحات أنموذجَيْن للمسؤولية الفكرية: دعوةٌ صامدة لربط الوعي بالإبداع، وللتحرّر من تروس العنف عبر صوغ بدائل حضارية تقود إلى عالم أفضل، ولو “قليلاً”.