الاضمحلال

news image

 

حنّا عبّود*

لا أحد من فلاسفة الإغريق حظيَ بالشهرة في القرن التّاسع عشر، بعد سيادة المنطق الديالكتيكيّ، مثلما حظيَ بها هيراقليط، الفيلسوف المُتشائم، ولذا سمّي بالباكي، وتعود شهرته إلى نظرته الجدليّة، التي دفعته إلى الاعتقاد بأنّ العالَم ذاهب إلى الاضمحلال بسبب التغيّرات الدائمة والعاصفة التي تَحدث فيه.

التقط هيغل طريقته الديالكتيكيّة، بيد أنّه توصَّل إلى نتيجةٍ مخالفة، وهي أنّ "جدليّة العقل والعالَم" ستؤدّي إلى حالةٍ من الانسجام والطمأنينة والسلام، وليس إلى اضمحلال العالَم. والتقطَ إنغلز الطريقة الهيغليّة، لكنّه ذهبَ إلى أنّ الاضمحلال سيصيب الدولة، بعدما تكون قد أدّت كامل وظيفتها، ونَقلت مهمّاتها إلى التنظيمات الشعبيّة، وبذلك تدخل البشريّة عهد السلام الدائم.

لكنْ عقب وفاة هيغل بقليل، ومن غير ضجيج، كتبَ إدوارد جيبون كتابه الضخم "إضمحلال الإمبراطوريّة الرومانيّة وسقوطها" فأَحرز الكتابُ شهرةً عريضة جدّاً بسبب ابتعاد مؤلّفه عن الأديان. فقد جرَّب الرجل الكاثوليكيّة، ثمّ عادَ إلى الأنغليكانيّة، ولكنّه انكبّ على التأليف بعيداً من جدليّة هيغل التي جَمعت الله والعالَم، لاعتقاده أنّ الأحداثَ تقع من الأفراد والجماعات، وفقاً لمصالحهم وأهوائهم وعقائدهم. وعلى الرّغم من إعلان إيمانه، اتّهمه مُعاصروه المؤمنون بمروقه من الدّين، وأطلقوا عليه لقب "الزنديق الأحمق"، لكنّهم أنعموا على مؤلِّفه بألقابٍ تعظيميّة عدّة، على عكس ما فعل المؤمنون العرب بمفكّريهم كابن الورّاق وابن الراوندي وسواهما، فقد نُبذوا ونُبذت كُتبهم.

في ديالكتيك هيراقليط، أو هيغل، أو تشخيص جيبون، أو حتّى الرجل العاديّ، ثمّة ما يُشير إلى أنّ عدم القيام بعملٍ مُحدَّد، له مردودٌ بنائيّ، يعني الاستسلام للاضمحلال، وهو الفناء التدريجي. وفي اختصار: حين يَضيع الهدف في العمل البشريّ، أو حين تتضارب الأهداف الداخليّة، أو حين لا ترى العيون العطالة الذاتيّة التي تُسبِّبها هذه المَوجة أو تلك، أو التشويش الذي يُحدثه هذا التيّار أو ذاك، فإنّ العثّ غير المرئي يَفعل فعلَهُ ويَبدأ الانحلال.

إذا كان كلّ شيء يضمحلّ، فإنّ نظريّة هيراقليط صادقة، وإن كان كلّ شيء يهدف إلى التطابق مع العقل الكلّي، فإنّ نظريّة هيغل صادقة، وإن كانت الأفعال البشريّة محكومة بالعقائد المفكّكة، فإنّ نظريّة جيبون صادقة. وسنكتفي بسرد الأمثلة الأكثر بروزاً على الانحلال.

من روما العظيمة إلى روما المقدَّسة

لا نَحتاج إلى تفاصيل، بل يَكفي أن ننظر كيف كانت روما عظيمة تستهوي القلوبَ حتّى أيّام أغسطس قيصر وما بعده بقليل، ثمّ ننظر كيف صارت روما مقدَّسة، ولكنّها غير عظيمة، بعد سيادة الفكر الدّيني. التقديس معنوي يكون في النفوس، ولا يَظهر في الكيانات، على عكس العظمة التي تراها بأمّ العَيْن، فالتقديس ذكرى والعظمة واقع منظور. وعلى مرّ التاريخ كان تغلُّب التقديس على العظمة يعني الانحلالَ والاضمحلال.

لا نظنّ أنّ هناك حضارة قدَّمت للبشر ما قدّمته روما. قدَّمت السكن والصحّة والنظافة... إلى جانب كثير من المفرزات الحضاريّة... يكفي أن نَذكر المحراث الروماني حتّى نُدرك الخدمةَ التي قدّمتها روما للفلّاحين في العالَم أجمع. ويكفي أن نَذكر الحمّامات والأقنية حتّى نَعرف كم اهتمّت بالوجود البشري. ويكفي أن نَذكر القمح الروماني في الشرق الأوسط حتّى نعرف كيف كانت تدرك أنّ الاهتمام بالمعدة أقرب السبل إلى الهدوء والاستقرار، أو "السلم الروماني". إنّ الحضارة الرومانيّة أوّل حضارة اهتمّت بالإنسان عالَميّاً، وأَدركت الطرق العمليّة لتحقيق "سِلْمِها".

فقدان روما لعظمتها وضياع دولتها يعود لأسبابٍ كثيرة جاءت في كتاب المؤرّخ الإنكليزي إدوارد جيبون "اضمحلال الإمبراطوريّة الرومانيّة وسقوطها"، ولكنّنا نزعم أنّ أهمّ عامل أودى بالعظمة يكمن في تسرُّب الأديان الشرقيّة إلى روما، وهي أديان تقوم على الذكرى، غريبة كلّ الغرابة عن منحى روما، التي كانت متسامحة مع الأديان الوافدة، لاعتقادها أنّها مثل أديانها الوثنيّة القديمة، عبارة عن تشخيصٍ لقوى الطبيعة، وأنّ كلّ آلهتها ورجال دينها "أبناء الأمّ الكبرى، الأرض" سوف تُساعدها على البقاء والنماء. فلمّا شَعرتْ بخطرها، عجزتْ عن قمْعِها، وبَدأ الانهيار، أو الاضمحلال، أو التهافُت الإداري... ولم يستطع الأباطرةُ الأنطونيّون، على الرّغم من خصالهم النبيلة، حتّى أنّه كان يُضرب المَثل بعدالة هادريان، أن يوقِفوا تسرُّب الأديان الشرقيّة، وبخاصّة المثريّة والمسيحيّة. لم يكُن ضعفاً من الأباطرة، بل كان تشتُّت الهدف الروماني، واستقواء عثّ الذكرى على واقع العظمة. وعندما يعتلق العثّ ثَوباً، فإنّ مآبر الرفّائين تعجز أن تُعيد له الرونق. ولا نظنّ أنّ الأباطرة المتأخّرين كانوا ضعفاء، أو مُتخاذلين. إنّ روما العظيمة صارت روما المقدَّسة، روما المُتخيَّلة، روما التي تَخضع لوحي السماء، بأفواه رجال الدّين، فقد صار القدّيسون أكثر من قادة الدولة وجنودِها، بل تكاد بعض القرارات تكون في أيديهم، حتّى قُبيل السقوط بزمنٍ غير قصير.

صراع في السلطة المقدَّسة

لم يَعُد المواطن الروماني عالَميّاً بالمعنى الذي كان عليه في زمن روما العظيمة، بدأت تَظهر الانقسامات الدّينيّة في كلّ القارّة الأوروبيّة تقريباً، وتحوَّلت معابد الأديان القديمة، التي كانت عماد روما العظيمة، إلى كنائس غدت مِثل الثآليل في الوجه الصبوح. يكفي أن نَذكر صكوكَ الغفران حتّى نكشف الغطاءَ عن العداء الحقيقي بين الذكرى والعَظَمة. فقد احتكرَ الرئيسُ الدّيني في روما بوّابةَ العالَم السماوي، وطفقَ يبيع قطعاً من السماء، "ضامناً" للمُشتري، بقناعةٍ راسخة، مَوقعاً له في الفردوس. وما مُعارَضة رجال الدّين لهذه الصكوك سوى اعتراض على الاحتكار وحسب، فما زال رجال الدّين يبيعون الصكوك حتّى اليوم، في كلّ جنازة، كما كان كَهَنَةُ أمون يفعلون في مراسم جنّاز الراحلين، وإعدادهم لمَحكمة أوزيريس.

حتّى في العالَم الحديث، الولايات المتّحدة الأميركيّة، بدأ الصراعُ حول التراث السماوي، وسيْطَر المُتشدّدون، بحيث كادت المَحاكِم الدّينيّة تَبتلع المَحاكم المدنيّة، ربّما حتّى أواخر القرن التّاسع عشر. وقدَّمت لنا رواية "الحَرف القرمزي" مثالاً ساطعاً عمّا كان يَحدث في العالَم "الجديد". كما أنّ حادثة "ساحرات سالم" المتأخّرة جدّاً أَثبتت ما قدّمه الأدب الروائي من قَبل.

ما جرى في روما المقدَّسة جرى في عالَم اليوم، ولكن بطريقةٍ أخرى. فقد تزايَد بَيع الكنائس، بسبب عزوف المُصلّين عن ارتياد "بيوت الربّ" حتّى صارَ في مقدوركَ أن تُشاهِد مسرحيّة حديثة في مسرح "الكريستال كاتدرال" الذي كان في الأصل بيتاً للربّ.

كما في السماء كذلك على الأرض

على أنّ الأمر لا يقتصر على العقيدة السماويّة، فهناك عقائد أرضيّة، أقصد بها تلك العقائد التي لا تأبه لأوامر السماء، حتّى لو لم تُعلن ذلك. فعلى سبيل المثال انتقلتِ السلطةُ في روسيا من القيصريّة إلى الشيوعيّة، من حُكمٍ شبه ديني، إلى حُكمٍ أرضي، لا يعير اهتماماً إلّا للمصالح الماديّة، ولا يؤمن إلّا بعدالة الأرض. وظلّتِ السلطةُ قابضةً على الأمر ما دامَ هناك مُناهَضةٌ ضدّها، من حروب وفِتن وثورات، ولكن ما كادت تهدأ، حتّى بدأ التخلْخل في بنية السلطة إلى أن انتهت قَبل عقدٍ من نهاية القرن العشرين. وتُبيِّن هذه التجربة أنّه عندما تكون هناك تهديداتٌ حقيقيّة قد تَنجح السلطة في البقاء والاستمرار، لأنّها تخوض معركةً وجوديّة، فأنصارها يُدافعون عنها كأنّما يُدافعون عن وجودهم. ولكن عندما تزول التهديدات، ويَنظر الشعب في ظروفه، فإنّ مُتطلّباته، التي كان يسكت عنها، تأخذ بالظهور بكاملِ أبعادها، ويَبدأ العثّ بالعمل. معركة تهديد الوجود انتهت، وبدأتْ معركةٌ أخرى من تهديد الوجود، ولكن هذه المرّة تجلّت في طريقة الحياة، وفي الواجبات التي على السلطة أن تقدّمها. الآن هو يوم آخر. وهكذا انتهتِ السلطة التي كان لها امتدادُها العالَمي الذي يشمل القارّات الخمس، وتبخّرت كما يتبخّر دخانُ قاطرةٍ قديمة مُتهالِكة. وبالطبع تبخَّر معها دينُها، أو قلَّت عقيدتها التي كانت أفعل من الدّين في بعض البلدان. كما كانت أسرع من الدّين في الانسحاب من التعامل. وما جرى في روسيا يُمكن أن يَجري في كثيرٍ من أقطار العالَم. أحياناً يلقون اللّائمة على خروتشوف، وأحياناً على غورباتشوف، وأحياناً يتّهمون الغرب بالتآمر على عقيدتهم، وأحياناً يضعون اللّوم على التشدُّد العقائدي... والواقع أنّ السلطة سقطت لعدم فهْم الوظائف الجديدة، أو قلَّ فشلها في ملاحظة التيّارات النّاعمة التي تبدو تافهة، فإذا هي قبضة شمشون المدمّرة.

حتّى في أركاديا

هناك لوحة موحية، عبارة عن ضريحٍ كُتِب على رخامته "حتّى في أركاديا أنا موجود" والإمضاء تحت هذه الكلمة هو "الموت"، بمعنى أنّه حتّى في بلاد الجنّة الأرضيّة، جنّة السعادة والمسرّة والفرح يأتي الموت زائراً.

كذلك الأمر في الأدب، الذي يقال إنّه يقوم على عناصر ثابتة، وأنّه بَعيد كلّ البُعد عن التغيُّرات الشديدة. ولكن عندما تتغيّر الظروف، ويُطلب من الأدب تلبية حاجاتٍ جديدة، ويَفشل الأديب في فهْمِ ذلك، في فَهْمِ ما يجيش في الأعماق، قَبل أن يَظهر على السطوح، ويظلّ يعزف على ربابته الأنغام القديمة ذاتها، فإنّ الناس تملّه، وأبواب السلطنة تغلق في وجهه. ومن بديع الشعر الذي يُصوِّر حالةَ الشاعر الجوّال الذي كان يطوف المُدن والقرى، مُردِّداً أناشيد الحبّ والفروسيّة، ما قاله والتر سكوت في هذا الشاعر المسكين الذي لم يلتقط صوت العصر، ولا اهتمّ بميول الناس الجديدة:

فها هو على قيثارته يَعزف ويغنّي

ويسأل الخبز من بيتٍ إلى بيت

إنّ من كان يَصنع المسرّة والمتعة

كلّما شَدّ وَتَرَ القيثارة،

صارَ مُحتقَراً منبوذاً،

ومَن كان يصغي له الملوك

لم يعُد أحد يصغي إليه في هذه الأيّام.

ولو تأمّلنا تاريخ السيف، وكيف كان مُرتبطاً بالمَجد والعزّ والشرف والمنعة... لهالَنا ما نلمسه من عبادة الناس له، كأنّما يخطّ لهم حظوظهم، ويَضمن لهم وسائل عيشهم، ويأتيهم بالسعادة الغامرة، ويبقى الخوف منه من حظّ الضعفاء والجبناء. وكان الناسُ يتَسمّون به من سيف بن ذي يزن إلى سيف الله، إلى سيف الدّين، إلى سيف الحقّ... بل هناك في كلّ قطرٍ عربي تقريباً عائلات بكاملها من آل السيوفي، لاحترافها هذه الصناعة. ولكن بعد الأسلحة الحديثة لم يعُد أحد يُطلِق هذا الاسم على ابن من أبنائه.

وما عصر الفروسيّة، في الشرق والغرب، سوى عصر السيف، عصر البطولات الفرديّة، أمثال الزير سالم عندنا وأخيل عند اليونان، حتّى لو كانت المعارك تدور بين الجماعات الكبرى.

والعقيدة، بكلّ صنوفها، دينيّة أم دنيويّة، مثل السيف، تظلّ برّاقة لامعة حتّى تنتفي الحاجةُ إليها، فتبهت وتزول، وتصبح مذمّة بعدما كانت زينة، كما زال السيف بعدما كان زينة يعلّق في صدر البيت.

الرصد والاستشعار

ما أحوجنا في هذه الأيّام إلى غوّاصة ذريّة حديثة جدّاً، تَكشف الأعماق، وتَرصد الأمواج، وكما تقيس الأعماق، تُقدِّر ارتفاع الموج وشدّة عُنفه، ومدى تدميره، وتَربط بين ما نراه على السطح، وبين ما يدور في الأعماق، فما تراه ربّما لا يكون ابن وقته، ولا ابن مكانه، فقد تتشكّل المَوجةُ العاتية في مكانٍ بعيد، أبعد من أعماق المُحيط، وقَبل زمنٍ طويل، أطول من عُمر ميتوشالح، ونحن عنها غافلون... فإذا المقدَّس مدنَّس، وإذا عنترة مسخرة.

*كاتب وناقد من سوريا