مستقبل الاقتصاد العالميّ بعد هجمة ترامب

د. محمّد دياب*
الحرب التجاريّة الشاملة التي أَطلق الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب عنانها ترخي بظلالها القاتمة على الاقتصاد العالَميّ، وتَضع على المحكّ مصير النظام الاقتصاديّ العالميّ الذي نَشأ عقب الحرب العالميّة الثانية وتطوَّر في ظلّ هيْمَنةٍ غربيّة، أميركيّة في الدرجة الأولى، على مُختلف مفاصله. هذه الحرب التجاريّة وتداعياتها المُحتمَلة تَجعل من الملحّ محاولة استشراف مستقبل هذا النظام في ظلّ التحوّلات العميقة التي يشهدها العالَم في الآونة الأخيرة.
ففيما تشتدّ وتيرة العقوبات التي تتحوّل أكثر فأكثر إلى أداةٍ تكاد تكون رئيسة في الصراع المُتصاعد على الساحتَيْن الجيوسياسيّة والاقتصاديّة، والذي يأخذ أشكالاً عدوانيّة في العديد من الأحيان، وفي ظلّ تراجُع مكانة الاقتصاد الغربي، يَفقد الغرب بالتدريج احتكارَه لمحرّكات النموّ الاقتصادي العالَمي. وأَخذت تَظهر (وإن بوتائر لا تزال بطيئة حتّى الآن) بوادر بدائل للنظام المصرفي العالَمي المُهيْمَن عليه أميركيّاً، ولتكنولوجيا المدفوعات الدوليّة، وللدولار بوصفه عملةَ الاحتياط العالميّة الأساسيّة. ويتعزَّز في هذا السياق دَور البلدان سريعة النموّ من خارج نادي المنظومة الغربيّة، والتي بدأت تعمل في إطار مجموعة "البريكس" على إنشاء قاعدتها البديلة للنموّ والتوسُّع الاقتصادي على أُسسٍ تكنولوجيّة حديثة.
سنحاول في هذه المقالة التمعنّ في بعض جوانب فقدان الغرب التدريجي لاحتكاره روافع النموّ الاقتصادي وخلفيّاته، وتَبعات هذا التحوّل على المستوى الدولي.
نشوء الأحاديّة القطبيّة الاقتصاديّة
نَشأ وتطوَّرَ عقب الحرب العالميّة الثانية نظامٌ سياسي واقتصادي عالمي، مُتمحوِر على الهيْمَنة الأميركيّة. فمقابل الدمار الهائل والخسائر البشريّة والماديّة الفادحة التي أَصابت الاتّحاد السوفياتي السابق والدول الأوروبيّة وقوَّضت قدراتها الاقتصاديّة وأوْهَنت بناها السياسيّة، خرجتِ الولايات المتّحدة من هذه الحرب بأقلّ الخسائر (البشريّة والاقتصاديّة)، لا بل حقَّقت أرباحاً صافية من مبيعات الأسلحة. وكان للتفوُّق التكنولوجي والنموّ الذي حقَّقه الاقتصادُ الأميركي بفضل العقود العسكريّة وتعاظُم الصادرات نتائجهما الباهرة، حيث جرى استثمارها على نحوٍ طاغٍ على المستوى الجيوسياسي العالَمي. فجرتْ عمليّةُ إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي في أوروبا في حقبة ما بعد الحرب ربطاً بالاقتصاد الأميركي، وذلك من خلال تنفيذ "خطّة مارشال". وعُقد "مؤتمر بريتون وودز" الذي أُنشئت على قاعدته المؤسّسات الدوليّة الثلاث التي كَرَّست الهيْمَنة الأميركيّة: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإعمار والتنمية، والاتّفاقيّة العامّة للتعريفات والتجارة (أصبحت منظّمة التجارة العالميّة لاحقاً). وتمثَّلت درّة تاج الهيْمَنة الأميركيّة في تنصيب الدولار كعملةِ احتياطٍ عالميّة. على هذا النحو أَنشأ الأميركيّون نظاماً عالميّاً يتمحور اقتصاديّاً وسياسيّاً على الولايات المتّحدة.
وتتمثّل أبرز أدوات الهيْمَنة الأميركيّة على الاقتصاد العالمي في التالي:
الدولار والمنظومة الماليّة العالميّة: تفيد مُعطيات صندوق النقد الدولي بأنّ حصّة الدولار في العمليّات التجاريّة الدوليّة تزيد اليوم على 80%، وهو يمثّل 60% من احتياطيّات العملات في العالَم. وتضْطلع بنوكُ المراسلة الأميركيّة بالدور الرئيس في المدفوعات الدوليّة.
الاستثمارات الماليّة: تمثِّل المؤسّساتُ الماليّة العالميّة (أبرزها صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ) الخاضعة للهيْمَنة الأميركيّة مَصدراً أساسيّاً للقروض والاستثمارات طويلة الأمد التي تُمنَح للعديد من البلدان؛ إذ تُعلن هذه المؤسّسات أنّها تُقدِّم الموارد الضروريّة الهادفة إلى تنفيذ المشروعات الاستراتيجيّة طويلة الأمد، وإجراء الإصلاحات البنيويّة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي في أوقات الأزمات في البلدان المَعنيّة.
الإنفاق على التكنولوجيا فائقة الدقّة وعلى الأبحاث والابتكار: من بَين الشركات العالميّة الكبرى من حيث مستوى الرسملة، العاملة في ميادين التكنولوجيا فائقة الدقّة، والبالغ عددها 30 شركة، ثمّة 25 شركة أميركيّة. وتبلغ حصّة الولايات المتّحدة ربع الإنفاق العالمي على الأبحاث والابتكار (3،6% من إجمالي الناتج المحلّي الأميركي سنويّاً).
التجارة الدوليّة وخطوط الإمداد: سيطرتِ الولايات المتّحدة في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية على العديد من طُرق الإمداد والطرق اللّوجيستيّة الرئيسة في العالَم، وذلك بهدفٍ مُعلَن هو "تأمين حريّة الملاحة العالميّة". فضلاً عن ذلك، تُسهِم الولايات المتّحدة ﺑ11% من ميزانيّة منظّمة التجارة العالميّة، وتستفيد في المقابل من "تسهيلات غير مُعلَنة" تَمنحها المنظّمةُ (86% من دعاوى التحكيم التي كانت الولايات المتّحدة طَرفاً فيها، والتي نَظَرَتْ فيها المنظّمة، جاءت لمصلحة واشنطن).
التعاملات بالعملات الوطنيّة: أَعلن الرئيس الروسي في اللّقاء الأخير لمجموعة "البريكس" الذي عُقد في قازان أنّ 95% من مجمل التجارة الخارجيّة لروسيا تتمّ بالعملات الوطنيّة. أمّا على صعيد بلدان "البريكس" ككلّ فتبلغ هذه النسبة 65%. وبدأتْ تتردّد في أوساط المجموعة فكرةُ إنشاء عملة موحَّدة. وعلى الرّغم من أنّ هذه الفكرة لا تزال ضبابيّة وتبقى حتّى الآن في إطار "التفكير بصوت عال" حول سُبل كسْرِ هيْمَنةِ الدولار الأميركي، إلّا أنّ مجرّد طرْحِها والمُناقشات الدائرة بشأنها في أوساط الخبراء في الدول المَعنيّة، تُشير إلى مسارٍ قد يَصل إلى نتائج ملموسة في المستقبل، تبعاً لتطوُّر التنافُس على المستوى الدولي.
البنية التحتيّة الماليّة الجديدة: تتطلَّب مسألةُ استمراريّة المدفوعات الدوليّة بالعملات الوطنيّة وسلاستها إنشاءَ بنية تحتيّة متينة ومستقلّة لعمليّات المدفوعات والمُبادلات والاستثمار والتدفّقات النقديّة والتأمين وإعادة التأمين. في هذا الإطار تَعمل المصارف المركزيّة في بلدان "البريكس" على إنشاء منصّة للمدفوعات بالعملات الوطنيّة. ويُتيح نظام المدفوعات البديل هذا إجراء العمليّات الاقتصاديّة بصورةٍ مستقلّة عن هيْمنة الغرب الذي قرَّر استخدام الدولار كسلاحٍ في حربه الاقتصاديّة والسياسيّة. كما أنّ انتقال القطاع المصرفي في بلدان "البريكس" إلى استخدام العملات الرقميّة في المدفوعات المُتبادَلة يُسهِم، بحسب بعض التقديرات، في توفير 81 مليار دولار سنويّاً. وقد اقترحتْ روسيا في اجتماع دول "البريكس" الأخير انشاء منصّة استثماريّة لمنح القروض لبلدان الجنوب العالمي، وكذلك إنشاء بورصة للحبوب من شأنها حماية الأسواق الوطنيّة من التدخُّل الخارجي والمُضاربات وخلْق عجْزٍ مُفتعَل في هذه المادّة الغذائيّة ذات الأهميّة المُطلَقة.
تحقيق السيادة التكنولوجيّة: إنّ العقوباتِ الاقتصاديّة والقيود متعدّدة الأشكال على انتقال التكنولوجيا الحديثة بصورةٍ خاصّة، التي فرضتها الولايات المتّحدة وحلفاؤها على العديد من البلدان، وفي مقدّمتها دولٌ كبرى كالصين وروسيا، دفعت تلك الدولَ إلى بذْلِ جهودٍ استثنائيّة للتحرُّر من التبعيّة التكنولوجيّة؛ فحقَّق بعضُها تقدُّماً يُعتدّ به في هذا المجال. فتُظهِر الشركات الصينيّة نجاحاتٍ باهرة في عددٍ من القطاعات الحديثة، وتحديداً في الاقتصاد المبنيّ على المعرفة والابتكار والتكنولوجيا فائقة الدقّة. وفي روسيا أَسهمتِ العقوبات في تحفيز اتّجاهات انعتاق الاقتصاد وتحرُّره من الاعتماد على الاستيراد، أي العمل على تحويل الأزمة إلى فرصة لتحقيق السيادة التكنولوجيّة. وثمّة محاولاتٌ مماثلة في دول أخرى، وإن كانت لا تزال أقلّ شموليّة.
لم يؤدِّ النظام الاقتصاديّ الذي نَشأ عقب الحرب العالميّة الثانية إلى إزالة، أو خفْض "التبعيّة الكولونياليّة" التي خضعت لها بلدانُ ما سُمّي "العالَم الثالث"، أو الأصحّ لم تكُن تلك هي وظيفته. فواصَلتِ الشركاتُ الغربيّة الكبرى استغلالَ ثروات آسيا وأفريقيا، وعملتْ على استحداث بنىً إنتاجيّة فيها مرتبطةٍ ارتباطاً كليّاً بالمركز الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، سعتِ المؤسّساتُ الماليّة العالميّة إلى فرْضِ إجراءِ "تحوّلات بنيويّة" في اقتصادات البلدان النامية، كشرطٍ إلزاميّ لمَنْحِها "امتيازات" أو تسهيلات معيّنة وقروض جديدة وإعادة هيْكَلة القروض القديمة. وبَدأت في ثمانينيّات القرن المنصرم عمليّات خصْخصة واسعة للمؤسّسات العامّة في تلك البلدان، لعبتِ الشركاتُ الأميركيّة والأوروبيّة دَوراً أساسيّاً فيها. وفي سياق هذه السياسة، فُرِض على تلك البلدان اتّباع سياسة "لَبْرَلَة" أسواق العمل والاستثمار، والتخلّي عن السياسة الحمائيّة؛ أي بناء أنموذجٍ للنموّ الاقتصاديّ قائم على تصدير السلع. فأدّت تلك التدابير في غالب الأحيان إلى تفاقم التضخّم، وإلى انخفاض قيمة العملة المحليّة (ما أسهم في تعزيز مواقع المؤسّسات العاملة على التصدير، التي هي في الواقع في غالبيّتها حلقة تابعة منه ضمن منظومة الشركات العابرة للقوميّات)، وبالتالي إلى انخفاض الأجور وتآكل القدرة الشرائيّة للمواطنين. وبالتدريج اتّسعت الهوّة بين إسهام البلدان النامية في الاقتصاد فوق القومي، وبين نصيبها الفعلي المُتحصِّل من توزيع نِتاج هذا الاقتصاد.
وهكذا، أصبحت الولايات المتّحدة في نهاية القرن العشرين الدولةَ العظمى المُهيْمِنة من دونِ مُنافِس. بيد أنّ سنَن الطبيعة والتاريخ والتطوُّر الاقتصادي والاجتماعي تؤكِّد أنّ ما من هيْمَنَةٍ تبقى قائمة إلى الأبد. فالأكلاف تتعاظَم، وتتبلَّد النُّخب السياسيّة الحاكمة في الدولة المُهَيْمِنة، وتتبدَّل الظروف الخارجيّة، وتَبرز قوىً ناشئة تسعى إلى كسْرِ حلقة الهيْمَنة. فيَأخذ البناءُ المتشكِّل على مدى عقود بالخَلْخَلة والتآكُل، تحت وطأة المتغيّرات الحتميّة على المستويَيْن الداخلي والدولي.
في هذا السياق، سياق تخلْخُل النظام الاقتصادي العالَمي القائم، يُمكن وضْع القرارات التي اتَّخذها الرئيسُ الأميركي دونالد ترامب في مطلع شهر نيسان/ أبريل الفائت، والتي قَضتْ بفَرْضِ رسومٍ جمركيّة عالية على غالبيّة دول العالَم، بما فيها تلك الحليفة للولايات المتّحدة. فكان الأمر بمثابة إطلاق حرب تجاريّة عالميّة لم يسبق لها مثيل. لقد كانت تلك الإجراءات بمثابة المسمار الأخير في نعْشِ البناء الاقتصادي العالمي الذي تحدّثنا عنه، وستكون لها في حال استمرارها والإصرار عليها من قِبَل الإدارة الأميركيّة، تداعياتٌ اقتصاديّة وجيوساسيّة، بعيدة المدى. وستكون العَوْلَمة الاقتصاديّة التي كانت الولايات المتّحدة نفسها عرّابتها، أولى ضحاياها. فهذه العوْلَمة التي قامتْ على أساس مبادئ حريّة التجارة وتخفيض الرسوم الجمركيّة، بما يَسمح بإزالة العوائق أمام انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال والاستثمارات وانسيابها بحريّةٍ شبه مُطلَقة، تتعرّض اليوم لنكوصٍ خطير مع العودة إلى السياسات الحمائيّة، بما يُشبه الارتداد إلى السياسة الماركينتيليّة التي عفا عليها الزمن. ولسوف تطال التداعياتُ السلبيّة الاقتصادَ العالمي برمّته واقتصادات كلّ دولة على حدة، بما في ذلك الاقتصاد الأميركي نفسه، وكذلك العلاقات الاقتصاديّة الدوليّة. كما سيَطال الخَلل أيضاً بنية العلاقات التحالفيّة في النظام السياسي العالَمي.
نحو التعدّديّة القطبيّة الاقتصاديّة
ثمّة العديد من المؤشّرات التي تبدو كإرهاصاتٍ أو مقدّماتٍ تمهِّد الطريق نحو التعدّديّة القطبيّة على الصعيد الاقتصادي، أبرزها وأكثرها فاعليّة ظهور وتعزُّز مجموعة "البريكس" المؤلَّفة من بلدانٍ ذات اقتصاداتٍ سريعة التطوُّر تملك مقدّراتٍ وثرواتٍ طائلة. لقد ترافَق السير نحو التعدّديّة القطبيّة مع النهوض الاقتصادي الباهر للصين، التي تبعتها على الخطى نفسها الهند والبرازيل، ومن ثمّ روسيا التي نجحتْ إلى حدٍّ كبيرٍ في تجاوُز تداعيات العقوبات الاقتصاديّة الهائلة التي فُرضت عليها، وفي تحقيق "السيادة الاقتصاديّة" بنسبةٍ كبيرة. فالصين تتصدّر اليوم دولَ العالَم، من حيث حجْم إجمالي النّاتج المحلّي المُحتسَب على أساس مُماثَلاتِ القدرة الشرائيّة (34,6 تريليون دولار) تليها الولايات المتّحدة (27,4 تريليون دولار).
وعلى حدّ قول أحد الباحثين: "خَلف رأس المال، يأتي العَلَم، أي السياسة". أي أنّ تَعزُّز موقع المجموعة الاقتصاديّة يليه حتماً توسُّع دورها السياسي. هذا ما حدثَ للاتّحاد الأوروبي، وما سيَحدث بالطبع بالنسبة إلى مجموعة "البريكس". وما يُشير إلى ذلك أنّ دول المجموعة لا تكتفي اليوم بتناوُل مسائل التعاون الاقتصادي في ما بينها ومُعالجته، بل وتَبحث في قضايا ذاتَ طابعٍ سياسي، كالأمن الإقليمي والعلاقات السياسيّة بين الدول والتكتّلات الإقليميّة. إنّ ما يُميّز "البريكس" أنّها نشأت، بحسب قول رئيس وزراء الهند، "ليس كحلفٍ مُعادٍ للغرب، بل كملتقىً غير غربي". أي أنّها بطبيعتها تكوينٌ ليس ذا طابعٍ عدائي لأحد، بل هي عبارة عن تجمُّعٍ تعاونيّ بين دولٍ مختلفة، لا بل متباينة من حيث بناها وأنظمتها السياسيّة وخصائصها الدّينيّة والحضاريّة. إنّ ما يَجمعها هو هدف الوصول إلى عالَمٍ متعدّد الأقطاب يسوده التفاهُم واحترام خصوصيّات كلّ بلد.
يبلغ مجموع عدد سكّان البلدان المنضوية في "البريكس" نحو 3,24 مليار نسمة، أي أكثر من 40% من سكّان المعمورة. ومع نهاية العام الماضي شكَّل إجمالي النّاتج المحلّي لبلدان المجموعة 35,7% من إجمالي النّاتج المحلّي العالَمي المُحتسَب بناءً على القدرة الشرائيّة، مقابل 29% لبلدان "مجموعة السبعة". وبحسب بعض التقديرات يُتوقّع أن ترتفع حصّة "البريكس" إلى 50% وفق هذا المؤشّر في الأعوام القليلة المقبلة، وخصوصاً بعد انضمام دولٍ جديدة إليها.
كان للعقوبات الاقتصاديّة التي فرضَتْها الدولُ الغربيّة على بلدانٍ عديدة، والتي لم توفِّر حتّى دولاً كبرى فاعلة كالصين وروسيا، دَورٌ محفِّز في الدّفع نحو تشكُّل نظامٍ عالمي جديد متعدّد القطبيّة. فقد حفَّزت هذه العقوبات البلدان الني طالتها للعمل على تطوير بناها الاقتصاديّة الذاتيّة، وكذلك لخلْق الشروط الضروريّة للتحرُّر من الهيْمَنة الاقتصاديّة والماليّة الغربيّة، ودافعاً للمضيّ مُجتمعةً في إنشاء تجمُّعٍ اقتصادي كخطوةٍ عمليّة نحو إقامة تعدّديّة اقتصاديّة تقوم على ابتكار سُبُلٍ بديلة للمُبادلات والمدفوعات الدوليّة، وبنىً مصرفيّة ونقديّة جديدة قادرة على تقديم الخدمات الماليّة والاستثماريّة والإنمائيّة لأطرافِ هذا التجمّع الجديد.
مَعالِم الواقع الاقتصاديّ الجديد
يَفترضُ ظهورُ مراكز نموّ جديدة مستقلّة عن النفوذ الغربي استحداث مؤسّساتٍ دوليّة جديدة. وقد بدأت مجموعة "البريكس" رسْمَ معالِم الواقع الاقتصادي الجديدة في العالَم. وعلى الرّغم من أنّ هذه العمليّة لا تزال في بدايتها، ولم تَأخذ أشكالها النهائيّة بعد، يُمكن رسْم هذه المعالِم على النحو التالي:
وعموماً، نحن الآن أمام عمليّةٍ حثيثة لتفكيك الأحاديّة القطبيّة الاقتصاديّة ولنشوء نظامٍ اقتصادي عالَمي جديد تَظهر معالِمُه في الأُفق. وهي عمليّة صعبة وعسيرة تتخلّلها حالات تقدُّم وتراجُع، وصراعات وصدامات، تأخذ في جانب منها أشكالاً عنفيّة، غير اقتصاديّة. فالغرب لن يتخلّى بسهولة عن هيْمَنَتِهِ، وسيَعمل بكلّ الوسائل والقدرات المُتاحة لمنْع انتقال مركز الثقل الاقتصادي إلى مكانٍ آخر. والتجربة التاريخيّة تُظهر أنّ الإمبراطوريّات، عندما تتراءى بدايات مؤشّرات أفولها، تُصبح أكثر عدوانيّة وشراسة في الدّفاع عن هيْمَنَتِها!
*باحث في الشؤون الاقتصاديّة - لبنان