تحمير الجمهور: عصر الانطباع والإعلام المحروق

✍️ عبدالله العميره
✦ المقدمة:
لم يعد الإعلام كما عرفناه.
ففي زحمة القنوات والمنصات، وسط صراخ العناوين وسرعة النشر،
انزلقت المهنة من علياء "السلطة الرابعة" إلى سوق مفتوح…
تُشترى فيه الانطباعات، وتُباع فيه الأكاذيب، وتُكتم فيه الحقائق.
فهل نحن فعلًا نعيش عصر الإعلام؟
أم أننا وقعنا في فخ عصر الانطباع، حيث الأهم ليس ما حدث، بل كيف يشعر المتلقي؟
أولًا: الإعلام كمهنة… كيف تدهور إلى تجارة سوداء؟
قبل سنوات، كانت “المعلومة الموثقة” هي تاج المهنة…
اليوم، أصبح “الترند” هو المعيار، و"السبق" مقدمًا على “الصحة”.
وسائل إعلام عالمية كبرى أصبحت متهمة بانحيازات فاضحة:
CNN توصف بأنها ذراع إعلامي لحزب سياسي.
Fox News تبني “واقعًا موازيًا” لجمهورها المحافظ.
قنوات ناطقة بالعربية تمولها جهات أجنبية، تركز على تقسيم المجتمعات لا توعيتها.
مواقع إلكترونية تُنتج آلاف الأخبار المزيفة يوميًا، وتوزعها مثل الطُعم لجذب التفاعل.
ثانيًا: من صناعة الخبر… إلى صناعة الانطباع
لم يعد مطلوبًا من الإعلامي أن ينقل الحدث… بل أن "يشعر المتلقي بأنه حدث".
وهنا، تنتقل المهنة من الحقيقة إلى الإيحاء.
صورة باكية تغني عن مئة وثيقة.
موسيقى حزينة تكفي لصناعة رأي عام حتى لو لم تكن هناك كارثة.
فيديو مشوش بعنوان “شاهد قبل الحذف”… أقوى من تحليل أكاديمي عميق.
لقد أصبحنا في زمن فيه:
الأكثر انتشارًا = الأكثر إثارة، لا الأكثر مصداقية.
القصة السريعة = أهم من القصة الحقيقية.
والشخص الذي يُجيد "فن الإثارة" قد يُقدَّم على من يُجيد فن التحقق.
ثالثًا: لمَ هذا الميل إلى الدراما السوداء؟
تفتح نشرة الأخبار، وتبدأ: دمار، دماء، تحريض، مصائب…
أين المشاريع التي أنقذت قرى؟ أين المبادرات التي غيّرت حياة؟
أين قصة الطفل الذي تعلّم، والمرأة التي صمدت، والشاب الذي ابتكر؟
أين الأخبار التي "تُبهر" لا "تُرعب"؟
السبب بسيط:
لأن الكارثة تُلتقط… أما القصة الملهمة فيجب اكتشافها.
الصحفي الكسول يبحث عن الانفجار…
أما الصحفي الحقيقي، فيبحث عن الشرارة التي أضاءت غرفة مظلمة.
من التجربة الصحفية:
"الخبر السيئ يلتقطه أي شخص يمر في الشارع،
أما الخبر الجيد فلا يراه إلا من يملك عينًا حساسة ومدرّبة، وقلبًا مفتوحًا، وخبرة صحفية حقيقية."
💡 ومضة
نحن لا ندعو لإعلام يُجمّل الواقع،
بل لإعلام ينقل الحقيقة كاملة:
بوجعها… وأملها.
بدموعها… وابتسامتها.
لكن بأسلوب راقٍ…
الطرح فيه عبقري،
والإشارة إلى الحلول… بعبقرية أكبر.
العالم لا يحتاج إلى المزيد من الصراخ،
بل إلى منصات تثق فيها العقول… قبل أن تُسحر بها العيون.
بين بحر الكوارث، وصوت الانفجارات… لا بد من إعلام يُذكّرنا أن هذه الأرض، ما زالت تنبت خيرًا.
فقط… لو وجد من يراه، ويحكيه، ويُبهر به.
هل دخلنا عصر “تحمير الجمهور”؟ أم نعيش آخره؟
في الثقافة الشعبية، “التحمير” يعني الطهي حتى النضج… أو حتى الاحتراق.
وفي بعض البيئات… يستخدم المصطلح للدلالة على الضحك على العقول، أو إدارة الناس بالوهم.
وعندما ننظر إلى واقع الإعلام الموجّه اليوم،
نجد أن الدراما السوداء، التهويل، واللعب بالعواطف ليست مجرد أدوات لنقل الخبر،
بل أدوات تُستخدم في "تحمير الجمهور"، أي:
تحويله إلى متلقٍ سلبي، متوتر، عاجز عن التمييز بين الحقيقة والتأثير
حرق أعصابه بمشاهد الكوارث، حتى لا يطالب بشيء سوى الصمت
تضليله بعناوين مستفزة، حتى ينسى أن يتساءل: من؟ لماذا؟ وما المصدر؟
الإعلام الذي يحترق… لا يُنير
الإعلام الذي يستثمر في الجهل، ويصنع الانفعال بدلًا من الوعي،
لا يصنع تقدمًا… بل يُعيد الجمهور إلى حالة نضج كاذب.
نضج ظاهري… لكنه هش، متعب، قابل للاشتعال دائمًا.
وهنا يُطرح السؤال:
هل وظيفة الإعلام أن "يحمّر" جمهوره؟ أي يطبخهم نفسيًا على نار منخفضة من التهويل… ويتعامل معهم كما لو أنهم لا يفقهون، بل يُقادون كما تقاد الحمير؟
(مع كامل الاحترام للمتلقي الذكي الذي يعرف أنه ليس المقصود… بل المقصود من يستخف به)