جورج قرم وتشخيص الغرب والشرق

news image


 

د. زهير توفيق*

شغلتْ مشكلات المشرق العربيّ وعلاقته بأوروبا أو الغرب، حيّزاً كبيراً من مشروع جورج قرم الفكريّ الكبير والمتنوّع، من قضايا التنمية والاقتصاد السياسيّ، والهويّة، وطبيعة الغرب، وأسطورة الهيْمَنة والتطوّرات السياسيّة المُعاصِرة، وأزمة العراق ولبنان وفلسطين، إلى قضايا الدّين والتطرّف الدّينيّ في المنطقة. وفي هذه المقالة سأسلّط ضوءاً خاطفاً على قضيّتَيْن حسّاستَيْن عالجهما المفكّر الراحل في أكثر من كتاب، وما زالت لهما الأهميّة القصوى والرّاهنة، بل وأقول زادت حدّة مشكلة القضيّتَيْن بالتطوّرات السياسيّة والفكريّة القائمة، وأقصد بالمشكلتَيْن حالة الوهن والضعف المتأصّل في الحالة العربيّة التي يُطلِق عليها د. قرم "الانحطاط العربيّ".

أمّا المشكلة الثانية، فهي "رمزيّة إسرائيل".. قيامها ووجودها واستمرارها في المخيال الغربي على مستوى الوجدان أو العقل الشعوري، ثمّ العقل المعرفي الغربي؛ وذلك بغضّ النّظر عن التبايُن أو التناقُض بين دول الغرب وحكومات إسرائيل، بخاصّة اليمينيّة في لحظةٍ ما، فكلّ ذلك لا يعني شيئاً في أجندة الغرب الملتزم أخلاقيّاً وسياسيّاً وفكريّاً وعسكريّاً بوجود إسرائيل وأمنها واستقرارها على حساب العرب والفلسطينيّين.. بغضّ النظر عمّا يجري من تناقض بين حكومات الغرب وحكومة تلّ أبيب اليمينيّة.

يعتقد جورج قرم أنّ أهل المشرق العربي ودّعوا نهاية القرن العشرين كما استقبلوا بدايته بحالةٍ يُرثى لها من الانحطاط المُتواصل وعلى جميع المستويات: سياسيّاً، ما زالت الأنظمة التسلّطيّة والقمعيّة قائمة، بل وتزداد شراسةً بمزيدٍ من الاستبداد والتبعيّة للغرب والانكسار أمام العدوّ الإسرائيلي.. واقتصاديّاً وتنمويّاً، ما زال الرَّيْع أبرز ملامح الاقتصاد العربي البعيد عن الإنتاج والتصنيع الحقيقي.. وثقافيّاً وحضاريّاً ما زالت المُجتمعات العربيّة ترزح تحت سلطة القوى المحافظة وحركات التطرّف الدّيني الراديكاليّة في أكثر من بلدٍ عربي. أمّا النّخب العربيّة، فما زالت دون الاستقلال الذاتي والتاريخي، وتَعتمد في تصوّراتها وبدائلها النموذج الغربي؛ وللأسف كما يعتقد مفكّرنا الراحل، لم يعُد في الغرب ما يغري ويجذب حول التنوير والديمقراطيّة واللّيبراليّة كما كان الأمر في السابق (أي قبل القرن التّاسع عشر)، خصوصاً بعد عودة أوروبا والغرب المعاصر - في مرحلة ما بعد الحداثة - نحو الدّين والجنوح المُتواصل نحو اليمين والفاشيّة والتخلّي عن مقولات الغرب الكبرى المُلهمة لمثقّف العالَم الثالث بشكلٍ عامّ، والعربيّ في المشرق بشكلٍ خاصّ.

ولّد الانحطاط المتواصل حالة الكساح التامّ أو العجز، حيث لا فعل ولا ردّ فعل؛ وثمّة علاقة جدليّة مُتبادَلة بين هذا العجز والانحطاط، بحيث تفاعلتِ العوامل الداخليّة والخارجيّة وعملت على تأبيد هذه الحالة المركّبة من العاملين في تأبيد الحالة العربيّة.. ولم يعُد في المشرق العربي القوّة الذاتيّة القادرة على كسْر هذه الحلقة واستئناف النهضة، فقد استنفَدت دولُ المشرق ومجتمعاتها طاقتَها على التحدّي والنهوض؛ وشكَّل المشرق في المفهوم الجيوبوليتيكي بؤرةَ صراعٍ في العالَم بين القوى الكبرى العالميّة والإقليميّة لملء الفراغ المُتواصل حتّى اللّحظة في المنطقة.

يَعتمد جورج قرم في كتاباته مَنهجاً نقديّاً مركّباً، فيه الجدل والتفكيك والمُقارنات بين أطروحاتٍ فكريّة عدّة، واستقراء النصوص المختارة بعناية، والحفْر المعرفي فيها للوصول إلى أصولها التاريخيّة ومعناها الأوّليّ. وهو يحرص جدّاً على التوثيق والإحالات والاقتباسات المطوّلة من المراجع والمصادر ذات الصلة، ولا يتردّد في إيراد اقتباساتٍ تغطّي صفحةً كاملة وأكثر لإعطاء وجهة نظر الآخر، قيْد الدرس والتحليل، الفرصةَ الكاملة للتعبير عن ذاتها أوّلاً، وإعطاء المتلقّي فكرةً وافية عمّا يقول النصّ، حتّى لا يسيء التأويل وفهْم مقاصد الباحث، وتسويغ الردّ والنتائج التي يريد الوصول إليها. وهو دائم النباهة واليقظة المعرفيّة، فلا يستسلم للشائع والمشهور من المقولات التي تروِّج لها قوىً محليّة ودوليّة في الصحافة والميديا لحلّ مشكلات المشرق العربي. فقد رفضَ منذ وقت مبكّر اتّفاقيّات أوسلو، وبيَّن تناقضاتها وقصورها.. ورفضَ الحلول التنمويّة لبناء المنطقة، والتي شاعت في تلك الحقبة ببناء شرق أوسط جديد من خلال المُزاوَجة بين العِلم والتكنولوجيا الإسرائيليّة من جهة، والأيدي العاملة ورؤوس الأموال العربيّة من جهة ثانية؛ ومثلها الخصْخَصة الاعتباطيّة والمُغرضة في الدول العربيّة التي باعت مقدّراتها وأصولها في القطاع العامّ للرأسماليّين الطفيليّين والمتنفّذين والمُستثمِرين الأجانب، وطَرَحَ حلّاً يتمثّل في ما يشبه الخصْخَصة الشعبيّة؛ أي التحوُّل وبيْع تلك القطاعات لرأس المال المحلّي ولشركاتٍ شعبيّة مُساهِمة من أفراد الشعب. كما رفضَ كلّ أشكال الاستعانة بالأجنبي لحماية الأنظمة والدول. وعلى مستوى الصراع العربي - الإسرائيلي طَرَحَ جورج قرم - قَبل أوسلو وبعده - حلّاً توافقيّاً، وهو دولة ثنائيّة القوميّة، وتدويل القدس لتكون مدينة مفتوحة لكلّ الديانات ولكلّ الناس.

أمّا المُراهنة على الغرب المُعاصِر لنصرة القضايا العربيّة في الصراع العربي - الإسرائيلي فعمليّة غير مُجدية، وفكرة خالية من المعنى مع الغرب المعاصر، الذي خان التنوير وفكر النهضة الأوروبيّة التي شكّلت بداية حداثته وأُفق تفكيره، وأعادته إلى أُسسه الحقيقيّة، وأكّدت على قواعده الحضاريّة والثقافيّة المؤسِّسة له، وأقصد بذلك التراث اليوناني والروماني، فجنحَ اليوم إلى اليمين والفاشيّة وكراهية العرب والمسلمين، وأخطر التحوّلات هو التحوّل في قواعده الثقافيّة والحضاريّة من التراث اليوناني والروماني إلى التراث اليهودي المسيحي الذي جَعَلَ إسرائيل أنموذجاً واقعيّاً لهذا التحوّل، ونقطةَ ارتكازٍ للغرب في الشرق، والوسيط بين الغرب المسيحي والشرق المسلم.

تشخيصه قَبل 20 سنة

لم تَفقد بصيرة جورج قرم أهميّتها عندما شخَّص قَبل عشرين سنة طبيعة المشرق العربي في تلك المرحلة، بخاصّة بعد الكوارث التي ألمّت به.. من حرب الخليج الأولى والثانية إلى اجتياح لبنان في العام 1982، واتّفاقيّات العرب مع إسرائيل، والتطرّف الدّيني والاستبداد السياسي، والحروب الأهليّة والثورات والانتفاضات الفاشلة والمشروعات الاقتصاديّة والتنمويّة الأكثر فَشَلاً، بأنّه في حالة تفجُّر: "المشرق العربي هو اليوم أكثر من أيّ وقت مضى في وضعٍ متفجّر ومتشظٍّ وخاضعٍ لسياسات تسلّط عقيمة، فالتة من عقالها؛ غير أنّه لم يعُد ممكناً معرفة ما سيتفتّق عنه هذا الوضع من عوامل جديدة في زعْزعة الاستقرار والتركيبات الجديدة... ألم يحن الوقت بعد لإدخال نوع من صحّة العقل إلى الشرق الأوسط، وإلغاء هذا العازل بين ما هو افتراضي وما هو واقعي، وأن يتمّ التصدّي لجنون التعابير والذاكرات التاريخيّة الهجوميّة؟ إنّ في ذلك الشرط الأوّلي للتمكّن من التفكير بدروب استقرار إقليمي بطريقة متبصّرة، وللتمكّن من التصدّي بفاعليّة لمختلف أشكال العنف والإرهاب الواقعيّة أو الفكريّة التي يسقط كلّ يوم في المشرق العربي ضحايا لها بأعدادٍ كبيرة للغاية. المشرق العربي أكثر من أيّ وقت مضى متفجّر، خاضع لسياسات القوى الخارجيّة العقيمة والتي لا ضابط لها. مع ذلك فمن السابق لأوانه معرفة أيّ عوامل جديدة ستُبنى مستقبلاً لتؤسِّس في ظلّها حالةَ استقرارٍ إيجابيّة، أو معرفة بذور إعادة التشكيل المقبلة التي قد تنجم عن هذا الوضع" (انفجار المشرق العربي من تأميم قناة سويس إلى غزو العراق 1956 - 2006، ترجمة محمّد علي مقلّد، تحقيق نسيب عون ط1، بيروت، دار الفارابي، 2006، ص702).

أمّا القضيّة الثانية التي شغلت جورج قرم وتردَّد صداها في جلّ كَتبه، فهي تفكيك علاقة الغرب الحديث مع اليهوديّة ومسؤوليّته عن تحوّلاتها من القوميّة الصهيونيّة إلى الهولوكست وشعور الغرب المعاصر، بخاصّة بعد أهوال الحرب العالميّة الثانية تجاه قيام إسرائيل واستمرارها؛ فقد نظر الغرب لإسرائيل كما يقول جورج قرم وكأنّه تأكيد على سَيْرِ التاريخ نحو التقدّم والكمال، وما الموقف العربي الرافض لوجود إسرائيل إلّا تعبير عن رفض العرب لمنطق التاريخ، ونظرة غير عقلانيّة من التقدّم التاريخي العامّ، وأخيراً هو التعبير الأمثل عن طبيعة الإسلام (دين الأغلبيّة) المتجوهر بالعنف ورفض الآخر. أمّا في الوعي الغربي نفسه فأصبحت إسرائيل القويّة القادرة على الدّفاع عن نفسها ضرورةً سياسيّة وأخلاقيّة، والاعتراض على إسرائيل، وشعب إسرائيل الخارج من المحرقة هو اعتراض على الله!

وما زال الغرب يشعر بالروابط القويّة مع إسرائيل مع تحوّل كينونته وجذوره الثقافيّة من التراث اليوناني الروماني إلى التراث العبري الذي دشّنته البروتستانتيّة، والتي جعلتْ أميركا أقرب من أوروبا الآن لإسرائيل، فهي (أميركا) تجد في إسرائيل أنموذجها المُلهم بالاكتشاف وإعمار الأرض والاستيطان وانبعاث الأمّة.

وعن القواسم المُشترَكة بين الصهيونيّة والغرب، يرى د. جورج قرم جذور القوميّات الأوروبيّة وفكرة الشعب في التراث العبري "بلا وعي ستنهل القوميّة الحديثة من الأنموذج النمطي التوراتي القديم... لهذا السبب تحتفظ كلمة شعب حتّى اليوم بشحنة انفعاليّة شديدة موروثة من الأنموذج التوراتي القديم الذي لم تغلبه حقّاً العلمانيّة الحديثة، إنّما نقلته إلى سجلٍّ علمانيّ مع تبنّيها الشعور بوجود مطلقيّة تقضي على أيّ نَوع من التساهل والتسامح، كما هو الحال في الوحي الدّيني، وبمفهوم الشعب المختار لنشْر رسالة مقدّسة كما هو وارد في العهد القديم" (المسألة الدينيّة في القرن الواحد والعشرين، ترجمة خليل أحمد خليل، مراجعة المؤلّف ونسيب عون، ط1، بيروت، دار الفارابي، 2009، ص106).

لم تكُن الصهيونيّة أوّلاً، ولا حتّى المحرقة تالياً، إلّا نتاج التفكير القومي الغربي. وببراعة الباحث الفذّ يستقصي د. قرم تاريخ الفكر الغربي ومرجعيّاته الكبرى في الأدب والسياسة ليستنتج مسؤوليّة الفكر القومي (الفولكيش)، وهي نظرة صوفيّة مثاليّة ورومانسيّة للفولك (شعب) الفلّاح وعلاقته الصوفيّة المقدّسة بالأرض في ألمانيا وباقي أوروبا، "لن يطول الأمر بهذه الظاهرة المسمّاة (فولكيش) حتّى تأخذ في ألمانيا شكلاً ذرويّاً فتنجب النازيّة... وقد لقي اليهود الإدانة في كلّ الأدب الذي أملاه الفولكيش" (تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب، تر. رلى ذبيان، مراجعة وتدقيق المؤلِّف، ط1، بيروت، دار الفارابي 2011، ص300). وجاءت الصهيونيّة على سبيل المثال كردّة فعل على العقلانيّة والعلمنة والتنوير الذي حرّر اليهود، وتساوقت مع الفكر القومي الغربي، فما دام اليهود في نظر أنفسهم "شعب مختار" فلهم الحقّ بالتحرُّر القومي، وصوغ فكرهم الصهيوني القومي والعودة إلى أرض الميعاد. ولهذا السبب لا يرى جورج قرم في التراكيب المفهوميّة بين الصهيونيّة والعلمانيّة أو العقلانيّة أيّ منطق أو اتّساق، وهي الحركة التي وظّفت الأسطورة والمخيال التوراتي الجامح لتحقيق انبعاث فكرة الشعب اليهودي وعودته إلى أرض الميعاد. وكان لفشل العلمنة والتنوير أو اللّيبرالية أوّلاً، والحلّ الاشتراكي لاحقاً - ما يعني فشل الاندماج اليهودي وعودة اللّاساميّة - أهمّ عوامل نجاح الحركة الصهيونيّة في استقطاب اليهود.

*كاتب وأكاديمي من الأردن
أفق - مؤسّسة الفكر العربيّ