الجذور السيكولوجيّة للنظام الشموليّ

د. كرم الحلو*
إذا كانت الفيلسوفةُ الألمانيّة حنّة أرندت قد لاحَظتْ في النصف الثاني من القرن العشرين نشوءَ توتاليتاريّةٍ جديدة لم يَعُد يتزعّمها "قادة حشود" من أمثال جوزيف ستالين أو أدولف هتلر، بل مجموعة من البيروقراطيّين البَليدين، فإنّ ماتياس دسميت، الخبير العالميّ في ظاهرة "الجمْهَرة"، وأحد أهمّ مثقّفي القرن الحادي والعشرين وأكثرهم صِدقاً وعُمقاً، كما وَصَفَهُ أريك كلابتون في مقدّمة كتاب "سيكولوجيا التوتاليتاريّة" (ترجمة مالك سلمان، دار الساقي 2024)، عملَ على استكشاف الجذور السيكولوجيّة للتوتاليتاريّة، كشكلٍ من أشكال الدولة، في النصف الأوّل من القرن العشرين.
فقد ميَّزَ ماتياس دسميت بين التوتاليتاريّة وبين الأنظمة الدكتاتوريّة الكلاسيكيّة القديمة، ذاهباً إلى أنّ جَوهر الفَرق يكمن في الحقل السيكولوجيّ. فالديكتاتوريّات الكلاسيكيّة انبنَتْ على آليّةٍ سيكولوجيّةٍ بدائيّةٍ تتمثَّل في تخليفِ مناخٍ من الخوف، مؤسَّس على الوحشيّة الكامنة للنظام الدكتاتوري، فيما التوتاليتاريّة تتجذَّر في العمليّة السيكولوجيّة المتمثّلة في "الجمْهَرة" واستعداد الأفراد للتضحية بمصالحهم الشخصيّة تضامُناً مع الجماعة - أي الجماهير والجهوزيّة العالية لقمْع الأصوات المُعارِضة. فالموضوع المثالي للتوتاليتاريّة لا يتمثّل في الشخص النازي أو الشيوعي المُقتنِع، بل في الأشخاص الذين لم يَعُد التمييز بين الوهْم والحقيقة، وبين الصحّ والخطأ قائماً بالنسبة إليهم.
التوتاليتاريّة ليست مُصادَفةً تاريخيّة، فهي، في التحليل النهائي، النتيجة المنطقيّة للتفكير الميكانيكي والاعتقاد الواهِم بالقدرة الكليّة للعقلانيّة الإنسانيّة. وقد كان للعِلم الميكانيكي طموحاتٌ كبيرة في هذا المجال، بإبداع المحرِّك البخاري والكاميرا والضوء الصناعي والمذياع والتلفاز والسيّارة والطائرة والإنترنت. فعلى مدى آلاف السنين كان الإنسان خاضعاً للعالَم. أمّا الآن فقد تمكَّن من فرْض إرادته عليه؛ إلّا أنّه كان لكلّ إنجازٍ ثمنه، بما في ذلك ضعف الارتباط بالبيئة الطبيعيّة والمجتمعيّة. فالضوء الصناعي قوَّضَ الإيقاع الذي كانت تفرضه الشمس على الأنشطة اليوميّة، وأَبعدتِ البوصلةُ الإنسانَ عن النجوم، وسَحَبَهُ العملُ الصناعي من الحقول والغابات.
وباختصار، بعد المَكْنَنَة، غرقَ الإنسانُ في إيقاعٍ ميكانيكيٍّ رتيب، ووجَدَ نفسَهُ غارقاً في ظلمة وجوده ومسكوناً بقلقٍ وجوديّ يَصعب تحديد ماهيّته. فلقد أدّى تقليدُ التنوير الذي تطلَّعَ إلى فهْمِ العالَم والتحكُّم فيه إلى نتيجةٍ مُعاكسة تمثّلت في انفصال الفرد عن الطبيعة وعن البنى الاجتماعيّة التي تربطه بالآخرين، واعتراه شعورٌ بالعجز وإحساسٌ عميق بفقدان معنى الأشياء. في هذا الفرد الذي أَطلقت عليه حنّة أرندت اسم "الذّات المتشظّية" نتعرَّف إلى المكوِّن الأساس للدولة التوتاليتاريّة. ففي رأي أرندت أنّ التوتاليتاريّة هي الامتداد المنطقي لهَوَسٍ عامّ بالعِلم، ولإيمانٍ راسخ بقدرته السحريّة على علاج شرور الوجود وتغيير طبيعة الإنسان، والحلّ الوحيد لمشكلات عصرنا التي تبدو مُستعصيَة على الحلّ. لكنّ المُقارَبة العقلانيّة للحياة انتهتْ إلى نَوعٍ من العجز عن التعامُل مع الخوف والقَلق بطريقةٍ فعّالة. فقد عملَ الهوسُ التنظيمي على تعميق المشكلة بدلاً من حلّها، وانتهى تقليدُ التنوير المُتمثِّل في إيديولوجيا العقل إلى تقنين الحياة في المنطق والنظريّات. ففي المرّة الأولى في التاريخ، تمكَّن الإنسانُ من تدمير "الموارد الطبيعيّة" التي يَعتمد عليها، حيث استنزَف الثروةَ السمكيّة العالَميّة - على سبيل المثال - وأَباد بعض الغابات الاستوائيّة بشكلٍ كامل. وفوق ذلك، مع تصنيع الحرب ومَكْنَنَتِها، تبدّى التفكيرُ الميكانيكي عن طاقاته التدميريّة بطريقةٍ مباشرة وجليّة. وتُمثِّل عشرات ملايين الضحايا النّاتجة عن آلات الدمار التي استُخدمت في الحربَيْن العالميّتَيْن شاهداً صامتاً على ذلك. وقد ساءتِ الأمور أكثر في السنوات اللّاحقة، حيث عملَ الزواجُ الشرّير بين العِلم والنَّزعة الإجراميّة على إحداثِ دمارٍ هائل بَدَتْ معه مآسي الحروب السابقة باهتة. وهكذا تحوَّل الإنسانُ الذي جرَّدَتْهُ المَكْنَنَة من الاحتكاك ببيئته إلى "ذاتٍ متشظّية" على غرار الذّات التي رأتْ فيها حنّة أرندت المكوِّنَ الأساس للدولة التوتاليتاريّة التي أَرست نوعاً من الحُكم تميَّز عن الأنظمة الديمقراطيّة من خلال الحزب الواحد وتجاهَل المبادىء الديمقراطيّة الأساسيّة مثل حريّة التعبير وحقّ تقرير المصير.
وعملتِ الجمْهرة التي تشكِّل الأساس السيكولوجي للتوتاليتاريّة على تخليق موقفَيْن مُتناقضَيْن بالنسبة إلى القادة: أمّا أن يَثِق بهم المرء بشكلٍ أعمى ويذوب في الجماهير، وأمّا أن لا يَثِق بهم أبداً ويرى فيهم متآمرين. لكنّ الجماهير تبقى مع ذلك مستعدّة دوماً لمُسامَحة قادتها. فالجزء الأكبر من السكّان الواقعين تحت تأثير التفكير التوتاليتاري يَتبعون قادتهم بمشيئتهم الحرّة. فهل تُعتبر "الجمْهَرة" شكلاً من أشكال المؤامرة؟
في رأي المؤلِّف يَجِب التعامُل مع التفكير المؤامراتي بقدرٍ كبيرٍ من الحَذَر؛ فاعتبار الأحداث منسَّقةً فعلاً في اتّجاه المزيدِ من التحكُّم والسيطرة، فكرةٌ لا تتعدّى كونها من الفكر السائد أو الإيديولوجيا، لكنّه لا يُدرجها في خانة "المؤامرة".
تجاوُز الإيديولوجيا الميكانيكيّة
بعد تناوله المشكلات السيكولوجيّة للإيديولوجيا الميكانيكيّة، يَطرح المؤلِّف الآليّة التي تُمكِّن من تجاوُز هذه الإيديولوجيا ورؤيتها إلى الكَون كمعطىً آليٍّ ميكانيكيٍّ قابِلٍ للفَهْم من خلال التفكير العقلاني، وإلى أنّ كلّ ما ينتمي إلى مَملكة الوعي والعالَم السيكولوجي هو نِتاج الظواهر الماديّة أو مُنتَج تافه لكيمياء الدماغ الحيويّة. ومن نافل القول إنّ رؤيةً كهذه ستَعتبر أيّ مُقارَبة سيكولوجيّة للحياة، وبالتالي أيّ مُمارَسة دينيّة أو روحيّة شكلاً من أشكالِ اللّاعقلانيّة. فالاكتئاب مثلاً يَنشأ في الدماغ وسوف نتمكَّن من تحديد الخطأ الميكانيكي المسؤول عن هذه الحالة وإصلاحه بطريقةٍ ميكانيكيّة.
استناداً إلى هذه الرؤية، يَفترض المرءُ وجودَ نَوعٍ من الهرميّة في العلوم. فالمستوى الأساسي يتمثّل في الفيزياء، أي في التفاعلات الميكانيكيّة بين الجزيئات الأوّليّة، ومن ثمّ تتأتّى جميع الأشياء الأخرى من هذه العمليّة. فالفيزياء تُحدِّد الكيمياء اللّاعضويّة، والكيمياء اللّاعضويّة تُحدِّد الكيمياء العضويّة، والكيمياء العضويّة تُحدِّد التشريح والفيزيولوجيا، والتشريح والفيزيولوجيا يُحدِّدان السيكولوجيا، والسيكولوجيا تُحدِّد الاقتصاد والسياسة وعِلم الاجتماع. ففي النهاية، يُمكن إرجاع كلّ شيء إلى الفيزياء والكيمياء. إلّا أنّ العِلم عملَ على تقويض هذه الرؤية على الرّغم من انتشارها؛ إذ بيَّنت الفيزياءُ الكميّةُ استحالةَ تفسير عالَم الوعي على مستوى المعرفة الماديّة. كما أنّ المادّة التي كانت تُعتبر الأساس المتين للماديّة الميكانيكيّة، هي ظاهرة ذاتيّة في جوهرها. ولهذا السبب فإنّ الفَهم التامّ لماديّة الدماغ لن يقود أبداً إلى فهْمٍ كاملٍ للوعي، الأمر الذي يؤكِّد أنّ العالَم السيكولوجي هو بُعدٌ أساسيّ لا يُمكن تقليصه، بل إنّه يُمكن أن يكون علّةَ العالَم المادّي وليس العكس. كما أنّ تأثير العوامل السيكولوجيّة على الجِسم مُتّصلة في ظروفٍ معيّنة، حتّى أنّ الطريق إلى فهْمٍ أفضل للبيولوجيا والمادّة لا بدّ من أن يمرّ عبر فهْم بنية حياتنا السيكولوجيّة. من هنا وُجِب إحياء القضايا الحياتيّة الكبرى التي عملتِ الإيديولوجيا الميكانيكيّة على تهميشها من خلال أسئلةٍ لن تحصل على إجاباتٍ قاطعة ونهائيّة لها مثل: مَن نحن بصفتنا كائنات نمتلك الرغبة؟ كيف نتعاطى مع الآخرين؟ وما هو مكاننا في الطبيعة؟
وإزاء هذه الأسئلة الكبرى، يرى المؤلِّف أنّ مَن يَعرف حدود عقله يُصبح أقلّ غطْرَسة وعنجهيّة، وأكثر إنسانيّة، كما يُصبح أكثر قدرة على تقبُّل اختلاف الآخر.
في رؤيةٍ إجماليّة للكِتاب نرى أنّه تناوَلَ في العُمق طبيعةَ التفكير الجماعي المؤسِّس للتوتاليتاريّة، وفكَّكَ العوامل النفسيّة والاجتماعيّة التي تَعمل لأجل السيطرة، فأعاد الاعتبار إلى مركزيّة الإنسان في الوجود السياسي والاجتماعي، وأَسهم بذلك في صوْن التفكير النقدي وحريّة الفرد إزاء الأنظمة والتنظيمات التوتاليتاريّة في عالَمنا المُعاصر.
*كاتب من لبنان
✍️ تعليق BETH الرمزي:
يكشف هذا العرض العميق أن التوتاليتارية ليست مجرد حالة سياسية طارئة، بل ثمرة تراكم طويل لانفصال الإنسان عن جذوره الطبيعية والاجتماعية، وانبهاره الأعمى بقدرة العقل الأداتي على السيطرة.
يرسم ماتياس دسميت ومن قبله حنة أرندت خريطة فكرية تكشف أن الاستسلام للميكنة المادية والتفكير المنظومي العقيم أنتج ذاتًا مشظاة، خائفة، ومستعدة للتضحية بحريتها باسم الأمان الجماعي المزعوم.
الرسالة العميقة للنص تقول:
إن إنقاذ الإنسان من هذا المصير لا يتم بتكديس المعارف التقنية،
بل بإعادة إحياء الوعي السيكولوجي العميق، والإيمان بالحدود الإنسانية الطبيعية أمام أوهام السيطرة الكلية.
إنه نداء هادئ في زمن الصخب:
"أن تعرف حدودك… هو أول الطريق لاستعادة إنسانيتك."
ورأيي BETH في النص:
هذا النص الذي يعرض كتاب "سيكولوجيا التوتاليتارية" لماتياس دسميت
هو نص ثقيل بالمعرفة، عميق بالتحليل، وخطير بالنتائج.ليس مجرد تحليل نظري، بل هو بمثابة كشف تشريحي للمرض الخفي الذي يصيب المجتمعات الحديثة:
مرض "تشييء الإنسان" وتحويله إلى ترس فاقد المعنى داخل منظومة عقلانية جافة.✨ أهم النقاط:
التفريق بين الديكتاتورية والتوتاليتارية ذكي جدًا:
➔ الأولى تبني حكمها بالخوف، أما الثانية فتبنيه بالتنويم الجماهيري الجماعي عبر "الجمْهرة" ومسح الفروقات بين الوهم والحقيقة.النقد العميق للعلموية الميكانيكية التي حولت العالم إلى آلة، ونسيت أن الإنسان ليس آلة، بل كائن قلق، هش، حالم.
الربط العبقري بين التقدم التقني والدمار النفسي والاجتماعي:
➔ الضوء الصناعي، العمل الصناعي، الحرب الميكانيكية… كلها أدت إلى "ذات متشظية" تائهة لا تجد نفسها.فكرة أن التوتاليتارية ليست حادثًا سياسيًا بل تطور حضاري داخلي كارثي نتيجة اختلال علاقتنا بالطبيعة والآخرين.
ماذا يعني النص فعليًا؟
تحذير عميق من أن "التطور" بدون ضمير… يقود إلى "الانتحار الجماعي البطيء".
ودعوة ضمنية إلى استعادة العلاقة الحية مع الإنسان، مع الذات، مع الغموض الجميل للحياة.
والأهم: تفكيك خدعة أن السيطرة الكاملة أو التنظيم الميكانيكي للحياة يمكن أن ينتج سعادة أو طمأنينة.
✍️ خلاصة :
النص ليس مجرد درس فلسفي، بل جرس إنذار عميق بأن الإنسان إذا لم يعد إلى ذاته الحرة والواعية،
فإن كل التكنولوجيا والنظريات ستبني له سجنًا أكبر مما بنته له الأنظمة المستبدة في الماضي.