التلوّث الكهرمغناطيسيّ يَغمرنا.. ولا نَستشعره!

news image

د. أحمد شعلان*

حين تَرفع قضيباً معدنيّاً موصلاً للكهرباء، فإنّه يغدو بمثابة أنتين (هوائيّ) تخترقه مئات المَوجات من البثّ الراديويّ والخليويّ التي وصلتْ إليه من كلّ المحطّات الإذاعيّة والتلفزيونيّة والأقمار الصناعيّة ومَراكز إرسال الهواتف الخلويّة، وما أكثرها في أيّامنا هذه. وأجسامنا، كونها موصلة جيّدة للكهرباء، هي كذلك هوائيّات مُنتصبة فوق الأرض، وهي عرضة لمثل تلك المَوجات الكهرمغناطيسيّة، تَسري في جلدنا كتيّاراتٍ كهربائيّة قليلة القوّة، بكلّ تردُّداتها وأشكال تموّجاتها..

ويوماً بعد يوم، ترفدنا المصانع بمُستحدثاتِ التكنولوجيا واختراعاتها بكميّاتٍ هائلة وأنواعٍ لا تُعَدّ، تعمل معظمها بالكهرباء، وتُصبح واقعاً، بل حاجةً لا بدّ منها في حياتنا اليوميّة. ويترافق تشغيلُ تلك الأجهزة مع إطلاقِ موجاتِ الإشعاع الكهرمغناطيسي، المُختلفة القوّة والتردُّدات، فتُحيط بنا من كلّ صَوب، بل تغمرنا بصمت، وتلوِّث فضاءنا، كما الهواء الملوَّث، إنّما من دون رائحة ولا لَون ولا صوت..

تلوّثٌ آخر من دون لَونٍ ولا رائحة!

التلوُّث الكهرمغناطيسي (Electro-Magnetic Pollution -"emp") يَنتج إذاً من المَوجات الكهرمغناطيسيّة التي تَنطلق من كلّ المصادر الطبيعيّة، وتلك التي تبثّها محطّات الإرسال الأرضيّة والفضائيّة والمَصادر الكهربائيّة الأخرى، كالكابلات التي تَنقل التيّار الكهربائي، وأجهزة إرسال الراديو والتلفزيون، والهواتف المحمولة، ومحطّات الإرسال الأساسيّة، وخطوط التوتُّر العالي، والأجهزة المنزليّة التي أَشركتها التكنولوجيا المُعاصرة بالحقول الكهرمغناطيسيّة (مثل أفران الميكرويف وأجهزة التحكُّم عن بُعد وغيرها)، بالإضافة إلى الريح الشمسيّة وما يتسلَّل إلى الأرض عبر نافذة الغلاف الجوّي من مَوجاتٍ راديويّة كونيّة آتية من النجوم البعيدة... حتّى أنّ غذاءنا يحتوي دائماً على نظائر مُشعِّة تضربنا في عُمق أعضائنا دون أن نعي دَورَها وأخطارَها...

ومنذ التطوُّر الصناعي الذي عَرفه البشر، باتت بيئتُنا الأرضيّة تنوءُ بأشكالِ الملوِّثات المُختلفة التي تُهدِّد رفاهَنا وحياتَنا بشكلٍ مُتزايد، من تلوُّث الهواء بالغبار والغازات الضارّة، إلى تلوُّث الماء بالموادّ الدخيلة، إلى تلوُّث الغذاء بالسموم الاصطناعيّة، إلى تلوُّث الضوء بالأنوار القويّة غير المُجدية... وبات على البَشر تركيب مصافٍ لتنقية الهواء، وأخرى لتصفية المياه، ونظّارات خاصّة للحماية من الأشعّة فوق البنفسجيّة، وزيوت طبيّة لحماية الجِلد، وتجنُّب الألغام الهرمونيّة المدسوسة في اللّحوم، والسموم المُستعمَلة في المُبيدات الحشريّة وفي طريقة إنبات الخضار في غير مَوعدها الطبيعي، وتلك المُستعمَلة في حفْظِ المأكولات المجلَّدة والمُعلَّبة...

لكنّ التلوُّث الكهرمغناطيسي باتَ أمراً حتميّاً ولا يُمكن تجنُّبُه، إذ تَخترق الموجات الراديويّة جدرانَنا المُحصَّنة لتحلّ إشاراتها ليس في أجهزتنا اللّاقطة فحسب، بل في أنسجتنا الحيّة كذلك.

والحقول الكهرمغناطيسيّة ليست دائماً بلا أَثَرٍ على صحّة الأجسام الحيّة ووظائفها البيولوجيّة. ويبدو أنّ موجاتِها المُختلفة التي باتت أمراً مُعتاداً في حياة البشر، قد بَدأت تُلحِق الأذى بمزاجهم العصبي إضافة إلى صحّتهم وسلامتهم... إنّه تلوّثٌ من نَوعٍ آخر بَدأ يُفاقِم أخطاراً إضافيّة في بيئة الأرض وطبيعة البشر.


الأشعّة الكهرمغناطيسيّة: أنواعٌ وأخطار

يُصنَّف الإشعاع الكهرمغناطيسي، من حيث تفاعُله مع الخلايا والأنسجة الحيّة، ضمن مجموعتَيْن: الإشعاع المؤيِّن والإشعاع غير المؤيِّن. يتعلّق الأمر بمقدار الطّاقة في فوتون هذا الإشعاع، أي بقيمة التردُّد المَوجي المُنْسَب لهذا الفوتون. والمعروف أنّ حزمة الأشعاع الكهرمغناطيسي التي تُبَثّ من مَصدرٍ ما، تَنطلق كمليارات المليارات من جُسيــماتٍ متماوجة أوّليّة (يُدعى واحدها "فوتون")، ويتميّز كلّ فوتون بطاقته التي تزداد طرديّاً مع تردُّده المَوجي (تذبذبه) وعكسيّاً مع طوله الموجي.

وللمُقارَنة، فالضوء المَرئي للعَين البشريّة يتراوح طَيفُه بين الأحمر بطولٍ مَوجي يبلغ حوالى 700 نانومتر وطاقة فوتون أقلّ من 2 إلكترون - فولت، والبنفسجي بطولٍ مَوجي يُقارب 400 نانومتر وطاقة فوتون تَصل الى 3 إلكترون - فولت. (الإلكترون - فولت e.v وحدة طاقة على المستوى الذرّي، بحيث يُعادِل الواط الواحد طاقةَ 6.25 تريليون إلكترون - فولت في الثانية الواحدة. والتريليون = مليار مليار). أمّا أشعّة إكس (الأشعّة السينيّة)، فلا يزيد طولها الموجي على بضعة أجزاء مئويّة من النانومتر، وتُقدَّر طاقة الفوتون الواحد منها ببضعِ مئات، بل آلاف من الإلكترون - فولت.

الأشعّة المؤيِّنة تسرطن الأنسجة الحيّة!

حين تصل طاقةُ الفوتون الواحد من الأشعّة الكهرمغناطيسيّة إلى أكثر من 10 إلكترون - فولت، أي بدءاً من الأشعّة فوق البنفسجيّة من فئة "سي" إلى الأشعّة السينيّة، وصولاً إلى أشعّة غاما النوويّة الأشدّ خطورة، فإنّ الخلايا الحيّة التي تُصاب بهذه الأشعّة سوف ينالها التشوُّه بسبب تأيين ذرّاتها، أي انفصال عددٍ من إلكتروناتها عن جِسم الذرّات، وبالتالي سوف تتغيّر وظائفها، وقد تتطوَّر نحو سرطانٍ خبيث. فطاقةُ فوتونٍ واحدٍ من أشعّة غاما تبلغ ملايين الإلكترون - فولت (ميغا إلكترون - فولت)، وهي قادرة على اختراقِ الأنسجة الحيّة وإتلافها، وهي بالمناسبة قادرة أيضاً على اختراق المعادن حتّى سماكةٍ معيّنة تتناسب وطاقتها. لذلك يتمّ تحصين الملاجىء النوويّة بسماكة 20 سنتيمتراً من مَعدن الرصاص للحمايةِ منها. أمّا الأشعّة السينيّة (أشعّة إكس)، فتبلغ طاقة الفوتون الواحد منها مئات بل آلاف الإلكترون - فولت، وهي قادرة على اختراق الأنسجة اللّحميّة بينما توقفها العظام لاحتوائها معادن ثقيلة، ولهذا السبب تُستخدَم هذه الأشعّة في التصوير الإشعاعي للكسور في العظام. وهناك جسيمات "ألفا" و"بيتّا" أيضاً، جسيمات نوويّة مشحونة كهربائيّاً وذات طاقةٍ حركيّة كبيرة تَصل إلى آلاف الإلكترون - فولت، وهي تَنطلق في أثناء تشظّي النظائر المُشِعّة. والمعروف أنّ الكثير من العناصر الكيميائيّة التي تدخل في أنسجتِنا وعظامِنا وغذائِنا تحتوي على نسبةٍ من النظائر المُشعّة، إنّما قليلة جدّاً. فعنصر الكربون مثلاً، وهو أساس الموادّ العضويّة التي تُشكِّل الخلايا الحيّة، نتنشّـقه مع الهواء ونأكله بكثرة مع الغذاء، وهو يحتوي على النظير المُشعّ الشهير "C14" الذي يُعتمد عليه لتحديد عُمر الجيف والعظام والخشب القديم في المُخلّفات الأثريّة المُكتشَفة في طبقات الأرض. لكـــنّ هذا الكــربون المُشِعّ يوجد بنسبةِ ذرّةٍ واحدة إلى 4 تريليونات ذرّة من الكربون السليم "C12" غير المُشِعّ.

والأشعّة فوق البنفسجيّة القويّة، من فئة (UVC)، (طاقتها فوق 10 إلكترون - فولت) هي أيضاً أشعّة مؤيّنة تُطلقها الشمس وتَحمينا منها طبقة الأوزون في الغلاف الجوّي للأرض.


هل نأمن باقي أنواع الأشعّة غير المؤيّنة؟

في صنف الأشعّة غير المؤيّنة التي تقلّ طاقة فوتوناتها عن 10 إلكترون - فولت، نَجد الأشعّة فوق - البنفسجيّة من فئة "أ" أو "ب" (UVA & UVB)، والأشعّة المرئيّة، والأشعّة دون - الحمراء، والأشعّة الميكرويّة، ومَوجات الراديو والتلفزة والرادارات والهواتف الخلويّة وأدوات التحكُّم عن بُعد (ريموت كنترول)، وكذلك موجات التردُّد المُنخفِض الصادرة عن خطوط نقْل الطّاقة الكهربائيّة.

والأشعّة غير المؤيّنة لا تشكِّل خطراً يُذكر على الأنسجة الحيّة بشكلٍ عامّ، إلّا إذا كُثِّفت رزمتها الإشعاعيّة على مساحةٍ ضيّقة من الجسم المُستقبِل؛ وهذا الأمر لا يَحدث تلقائيّاً؛ فجهاز فرن المايكرويف مثلاً يقوم بتكثيف الأمواج الكهرمغناطيسيّة الميكرويّة الضعيفة المُسالِمة على بقعةٍ ضيّقة من الطعام الرطب على بُعد سنتيمتراتٍ قليلة تحت مصدر البثّ، الأمر الذي يؤدّي الى هياج جزيئات الماء في الطعام ويُسخّنه بقوّة. كما أنّ أشعّة اللّايزر، مثلاً، هي أشعّة مرئيّة مُسالِمة حمراء أو زرقاء، أو ذات لونٍ مرئيٍّ آخر لا تزيد طاقة فوتونه الواحد عن 3 إلكترون- فولت، إنّما يُمكن أن تُصبح أشعّة حارقة لأنّ جهاز اللّايزر يُرسِل حزمةً ضيّقة، إنّما مكثّفة بالميلّليمتر المربّع الواحد من فوتونات الضوء المرئي.

وكذلك إذا كنّا نَلمس أنتينَ بثٍّ إذاعي أو تلفزيوني قوي، أو نَقف في جواره، فسوف يتعرَّض كامل جسمنا لحقلٍ كهربائي قوي قد يؤذي جِلدنا وأنسجتنا الحيّة.

وماذا عن مَوجات الهواتف الخلويّة؟

التردّدات التي تعمل عليها الهواتف الخلويّة، بحسب البروتوكول الدولي المُعتمَد، تتراوح بين 1.6 جيغاهرتز و2.3 جيغاهرتز (أي موجات ميكرويّة مُسالِمة تتراوح أطوالها الموجيّة بين 187.5 ملّم و130.4 ملّم، أي أنّ طاقة فوتوناتها تكون بحدود الجزء من ألف من إلكترون - فولت (milli e.v)). ومن حيث التأثير البيولوجي لهذه المَوجات الخلويّة، فهي لا تولِّـد في الأنسجة الحيّة سوى تيّاراتٍ كهربائيّة خفيفة جدّاً تؤدّي بدَورها إلى حرارةٍ خفيفة تنتشر على مساحة رأس المُستخدِم، وقد تزيد في حرارة جلد الرأس أقلّ من درجة واحدة في حال الاستخدام المُفرط للهاتف الخلوي، وتقوم الدورة الدمويّة في الرأس بتفريغِ هذه الحرارة وتبديدها بسرعة. في المُقابل، يرى بعض الباحثين أنّ الاستخدام المُفرط قد يترافق مع ازديادٍ طفيف في التوتُّر العصبي.

أمّا منظّمة الصحّة العالميّة، فهي لم تُحذِّر من أيّة مفاعيل جانبيّة صحيّة ناتجة عن استخدام الخليوي، لكنّها نَصحت بالحَذَرِ وأَخْذ الحيطة، مُشكِّكَةً باحتمال أثرٍ سرطاني لها، بخاصّة عند الأطفال.

لكنّ الوكالة العالميّة للأبحاث السرطانيّة (آيارك)، ترى أنّ الاستعمال المفرط والمكثَّف للهواتف الخلويّة قد يتسبّب بزيادة نسبة سرطان الدماغ، ولذلك أوصت بتوخّي الحَذَر ووجوب الوقاية. وكان باحثٌ إيطالي قد وَجَدَ، في العام 2002، علاقة بين لوكيميا الأطفال وعَيشهم بالقرب من إرسال إذاعة الفاتيكان.

واليوم تتوجَّه الأنظار إلى الجيل الخامس من التقنيّة الخلويّة، 5G، التي تمَّ نشْرها للمرّة الأولى على نطاقٍ واسع في العام 2019. في هذا الجيل من الخلوي تَعتمد الأجهزة على موجاتٍ ميكرويّة أقصر بكثير من المَوجات السائدة، أي أنّ طاقة الفوتون منها أقوى من تلك المُعتمَدة سابقاً، ورُزَمُها المُرسَلة أشدّ كثافة من ذي قَبل.

ماذا عن المَوجات الميكرويّة الأخرى؟

الأشعّة الميكرويّة هي بعيدة جدّاً عن أن تكون مؤيِّـنة، وهي بذلك ليست مُسرطِنة كأشعّة إكس أو غاما أو جسيمات ألفا أو بيتّا، إنّما بحسب الكثير من العلميّين، فإنّ التعرُّض الطويل الأمد لأشعّةٍ ميكرويّة مركَّزة وكثيفة، قد يكون له انعكاساتٌ غير حميدة على صحّة الأنسجة الحيّة. تتراوح الأطوال الموجيّة الميكرويّة بين حوالى المتر الواحد إلى حوالى الميلّليمتر الواحد، أي بتردّداتٍ تتراوح بين 300 ميغاهرتز و300 جيغاهرتز، أي بطاقة فوتون تُقدَّر بالـميكرو - إلكترون - فولت. وتتضمَّن تطبيقاتُها، إلى الهواتف الخلويّة، أجهزةَ المسح في المطارات، أفران المايكرويف، مَوجات محاكاة الأقمار الاصطناعيّة المُختلفة، الرادارات ووسائل التواصل الراديوي واللّاسلكي، أجهزة التحكُّم عن بُعد وغيرها...

وبما أنّ المُتَّهم الأوّل من فريق المَوجات الميكرويّة هي الأفران الميكرويّة (المعروفة بأجهزة المايكرويف)، فقد خَضعــت هذه الأجهزة لأبحاثٍ عديدة، وأُخضعت لتجارب متنوّعة، وأُجريت دراساتٌ مطوَّلة على موجاتها ذات التردُّد 2.45 جيغاهرتز (بحدود 122.5 ملّم) وبكثافةٍ عالية جدّاً تتخطّى بآلاف المرّات ما يُمكن لأيّ فرن أن يُسرِّبه، ولم تَجِد الدراسات أيّ سبب لاتّهام المايكـــرويف بعلاقته بالسرطان، فموجاته يتمّ تكثيفها بين ملفّ البثّ الكهرمغناطيسي والطعام المُراد تسخينه داخل الجهاز المُقفَل والمُحصَّن أمام المُستخدِم.

خطوط نَقْل الكهرباء وخطرها على البشر

تشكِّل خطوطُ نقل الكهرباء، وبخاصّة خطوط نقْل التوتُّر العالي، مَصادرَ لإرسال المَوجات الكهرمغناطيسيّة المُنخفضة التردُّد (50 هرتزاً في كلّ العالَم، عدا الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث يكون التردُّد الكهربائي 60 هرتزاً). مثل هذه المَوجات تولِّد في الأجسام الحيّة المُستقبِلة تيّارات كهربائيّة ضعيفة جدّاً، بحيث يقتصر مفعولها البيولوجي على التسخين الخفيف للجلد والأنسجة الحيّة الأخرى، إذا ما تعرَّضت لها بشكلٍ مكثّف ومطوَّل. فالوقوف بجانب هوائيّ بثّ (أنتين) عالي القوّة لفترةٍ طويلة قد يتسبَّب بحروقٍ أو تسخينٍ في البشرة. هذا التسخين يختلف بحسب التردُّد وقوّة الإرسال.

إلّا أنّ أدمغتنا وأجهزتنا العصبيّة تعتمد على تفاعُلاتٍ كهربائيّة- كيميائيّة معقّدة، ومن المنطقي التفكير بأن تتأثّر تلك التفاعُلات الوظائفيّة في الجسم بالحقول الكهربائيّة والمغناطيسيّة الخارجيّة الملتَـقطة. وما زالت دراسة الآثار السلبيّة للمَوجات الكهرمغناطيسيّة غير- المؤيّنة على صحّة الإنسان تتمّ على نطاقٍ واسع، وقد أَثمرت عن بروتوكولاتٍ لقياس المجالات الكهرومغناطيسيّة، وباتت هناك معايير وحدود دوليّة لتأثيرات الإشعاع الكهرومغناطيسي على صحّة الإنسان؛ وقد أُنشئت اللّجنة الدوليّة للحماية من الإشعاع غير المؤيّن (ICNIRP) كمنظّمة غير حكوميّة تَضع قيَماً حدّيّة لتأثير الحقول الكهرمغناطيسيّة على البيولوجيا البشريّة. لكنّ الدراسات والأبحاث العلميّة في هذا الشأن لم تَصل بَعد إلى الوضوح الحاسِم، وقد اتَّجهت بمعظمُها إلى دراسة آثار هذه الحقول على ازدياد نسبة الإصابة بمرض السرطان، وبخاصّة عند الأطفال.

وكان المعهد البريطاني للأبحاث السرطانيّة قد وَجَدَ في العام 2005 زيادةً بنسبة 70% في لوكيميا الأطفال الذين يسكنون على بُعدٍ أقلّ من 200 متر من خطوط النقل الكهربائيّة ذات التوتُّر العالي (حيث تَصل قيمة الحقل المغناطيسي إلى 0.4 ميكروتيسلا للخطوط التي تحمل 150 كيلو فولت أو أكثر)، وزيادة بـ 23% للّذين يقطنون بين 200 و600 متر، حيث قيمة الحقل أقلّ بكثير من 0.4 ميكروتسلا، وكانت جامعة بريستول في إنكلترا قد نَشرت دراسةً جاء فيها أنّ خطوط نقل الطّاقة تَجمع في جوارها رذاذَ الملوّثات في الهواء.

لكنْ.. لا مفرّ منها!

لا شكّ أنّ عالَم الاتّصالات اللّاسلكيّة والحواسيب الشخصيّة والهواتف الخلويّة الذكيّة، وكلّ ما يتعلّق بشبكة الإنترنت العالَميّة قد شكَّل في الأزمنة الحديثة قفزةً نوعيّةً في مستوى حياة البشر ورفاهها. ومع هذه القفزة، بتنا غاطسين في بحرٍ من المَوجات الكهرمغناطيسيّة تَصلنا من كلّ صَوب من مراكز البثّ الأرضيّة والفضائيّة، بل من أجهزتنا البَيتيّة وهواتفنا الشخصيّة المحمولة... لقد باتَ التلوُّث الكهرمغناطيسي يغمرنا تماماً من دون أن نستشعره، وهو على ما يبدو شرٌّ مُسيطِر لا بدّ منه في حضارة الرفاه التكنولوجي المُعاصرة، ومَن يدري أيّ أثمانٍ قد تدفعها أجسادُنا في غمرة التطوُّر المُستمرّ للتكنولوجيا وإنجازاتها المستمرّة القادمة؟!


*ممثّل لبنان في الاتّحاد الفلكيّ الدوليّ - مؤسسة الفكر العربي