محتوياتُها تمِسُّ الأمن القومي.. تسريبُ وثائِق الاستخباراتِ الأميركية.. قراءةٌ في الأسبابِ و التّداعيات

news image

تقرير - مروة شاهين - بث:
ضجّت وسائل الإعلام و التواصل في الأيام الأخيرة بأنباء الوثائق الاستخباراتية السرية التي تم تسريبها من الولايات المتحدة الأمريكية، نظراً لأهمية هذا الحدث على مستوى كشفه لمدى كون أجهزة الاستخبارات الأمريكية مخترقةً من قبل الخصوم، إضافة إلى أهمية المعلومات و التفاصيل الأمنية و العسكرية التي كشفتها الوثائق المسربة، فضلاً عن تأثيرات هذه التسريبات على النشاط السياسي و العسكري للولايات المتحدة و علاقاتها مع حلفائها و خصومها على حدّ سواء. 
ووفق بيان نشرته وزارة العدل الأمريكية، فقد بدأت فتح تحقيقات موسعة بشأن الوثائق الأمريكية المسربة على مواقع التواصل الاجتماعي، وقال المتحدث باسم الوزارة إنه يتم التواصل مع وزارة الدفاع فيما يتعلق بتلك القضية.
وأضاف المتحدث باسم الوزارة الامتناع عن الإدلاء بأي تعليقات حول هذه القضية، خاصة أنها تتضمن أجزاء تتعلق بالحرب الأوكرانية منذ شهر واحد فقط، بالإضافة إلى أسرار خاصة بالأمن القومي الأمريكي متعلقة بالصين ومنطقة الشرق، فضلا عن بدء وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» فتح تحقيقات عن تسريب الوثائق المتعلقة بالهجوم الأوكراني خلال الأسابيع المقبلة، ونشرها على موقعي تويتر وتليجرام.
ووفق ما نشر بموقع نيويورك تايمز فإن البنتاجون يقوم حاليًا بتقييم الاختراق الأمني، فيما يعمل البيت الأبيض على حذفها من مواقع التواصل الاجتماعي.

 

الوثائق تفضَحُ معلوماتٍ استخباريةٍ حساّسة تتعلّق بالتنسيق العسكري الأمريكي مع الحلفاء:


و تضمنت الوثائق الأمريكية المسربة على مواقع التواصل الاجتماعي معلومات حساسة، بداية من خطط الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «الناتو» لدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، وما يزيد من حجم المشكلة هي أن تلك الوثائق حديثه لا يتعدي عمرها 5 أسابيع، وأخرها مؤرخ في مطلع مارس الماضي.
وتلك الوثائق كشفت عن تريب 12 لواء قتاليًا أوكرانيا، منهم 9 تم تدريبهم من قبل الولايات المتحدة وحلف الناتو، بالإضافة إلى الأسلحة التي سيتم استخدامها في الهجوم ومنها 250 دبابة وأكثر من 350 عربة ميكانيكية، و480 مركبة وغيرها.
كما كشفت الوثائق عن معدل الانفاق على الذخيرة التي تسيطر عليها أوكرانيا عسكريا بما قيها راجمات الصواريخ «هيمارس»، وأنظمة صواريخ المدفعية الأمريكية الصنع التي أثبتت فعاليتها العالية ضد القوات الروسية.
وتدعي الوثائق المسربة أن روسيا تكبدت خسائر في القوات تتراوح بين 16000 و17500 بينما بلغت الخسائر الأوكرانية نحو 71500، وهو فرق مذهل يتعارض مع رواية النصر التي توقعتها كييف.


الولايات المتحدة و روسيا.. الصّراعُ و تبادلُ الاتهامات:


إذ اتهم مسئولون أمريكيون روسيا بالمسئولية عن تسريب الوثائق،  و رداً على ذلك، أكد الكرملين ( الرئاسة الروسية) أن الوثائق كشفت تورط واشنطن في الحرب في أوكرانيا.
أما الرئاسة الأوكرانية، فقد أوضحت أن الوثائق الأمريكية المسربة تعد حملة تضليل روسية، وذكرت جريدة نيويورك تايمز الأمريكية أن عدد الوثائق بلغ ١٠٠ وثيقة تتعلق بأوكرانيا والصين والشرق الأوسط، كما تتضمن الوثائق معلومات عن الأسلحة والخطط العسكرية، لافتة إلى أن هناك ٩ ألوية تدربها الولايات المتحدة الأمريكية في أوكرانيا.
ويعود عمر تلك الوثائق المسربة إلى ٥ أسابيع ماضية، ما يعد انتهاكًا للاستخبارات الأمريكية والجهود المبذولة في مساعدة أوكرانيا.

 

الوثائقُ المُسرّبة تُعكّر علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها:


إذ أعلن مسؤول في القصر الرئاسي بكوريا الجنوبية، أن سيئول على علم بالتقارير الإعلامية المتعلقة بتسريب العديد من الوثائق العسكرية الأمريكية السرية، وتعتزم مناقشة الولايات المتحدة في القضايا التي أثارتها التسريبات.
وأحجم المسؤول الرئاسي الكوري الجنوبي عن الرد على أسئلة الصحافيين حول تجسس الولايات المتحدة على البلاد أو تأكيد أي تفاصيل وردت في الوثائق المسربة.
و تقول التحليلات ان الوثائق التي تم تسريبها تتضمن تجسس الولايات المتحدة الأمريكية على حلفائها فيما يتعلق بعلاقاتهم مع خصوم الولايات المتحدة كروسيا و الصين، بالإضافة إلى إجبار حلفائها على تقديم الدعم الدبلوماسي و العسكري و الاقتصادي لأوكرانيا على الرغم من تعارض هذا الأمر مع المصالح الخاصة ببعض الدول الحليفة للولايات المتحدة الاميركية. 
وتتحدث الوثائق، من بين مواضيع أخرى، عن دفاعات كييف الجوية الحاسمة لمواجهة الضربات الروسية، وعن المساعدات الدولية للقوات الأوكرانية.
ويبدو أن قسما من هذه الوثائق يشير أيضا إلى أن الولايات المتحدة تتجسس على بعض حلفائها، فإحدى هذه الوثائق -مثلا- تقول إن قادة في جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) يدافعون عن التظاهرات ضد الإصلاح المثير للجدل للنظام القضائي.
وقال البنتاغون إن مسؤولين أميركيين تواصلوا مع حلفاء واشنطن بشأن هذا الأمر، كما تم إطلاع اللجان البرلمانية ذات الصلة.

 

ضربةٌ قاسِيةٌ للهيكل الاستخباراتي الأميركي:


إذ قال المسؤولون الأميركيون إنه على الرغم من أن الوثائق تقدم تلميحات حول الأساليب الأميركية لجمع المعلومات حول الخطط الروسية، إلا أن وكالات الاستخبارات الأمريكية لا تعرف بعد ما إذا كان سيتم قطع أي من مصادر معلوماتها نتيجة للتسريب.
لكن التسريب لديه القدرة على إلحاق ضرر حقيقي بالمجهود الحربي الأوكراني من خلال الكشف عن الوكالات الروسية التي تعرف الولايات المتحدة أكثر شيء عنها، مما يمنح موسكو فرصة محتملة لقطع مصادر المعلومات.
بعد مراجعة الوثائق، قال مسؤول استخباراتي غربي كبير إن الإفراج عن المواد كان "ضربة مؤلمة" وأشار إلى أنه يمكن أن يحد من تبادل المعلومات الاستخباراتية. وقال المسؤول إن قيام الوكالات الاستخباراتية المختلفة بتوفير المواد لبعضها البعض يتطلب ثقة وتأكيدات بأن بعض المعلومات الحساسة ستبقى سرية.
وقد تضر الوثائق أيضا بالعلاقات الدبلوماسية بطرق أخرى، إذ توضح الوثائق الاستخباراتية التي تم الكشف عنها حديثا أن الولايات المتحدة لا تتجسس على روسيا فحسب، بل على حلفائها أيضا. 
و في حين أن هذا لن يفاجئ المسؤولين، فإن نشر مثل هذا التنصت على الملأ يعيق دائما العلاقات مع الشركاء الرئيسيين، مثل كوريا الجنوبية، التي تحتاج أميركا إلى مساعدتها لتزويد أوكرانيا بالأسلحة.
و يذكر أن التقارير أفادت بأن الوثائق السرية كشفت أيضا عن جهود الولايات المتحدة للتجسس على كبار القادة السياسيين والعسكريين في أوكرانيا، والخطة الموضوعة مع الناتو لمساعدة أوكرانيا في شن هجوم مضاد.
و أحد التسريبات يتضمن "خطة سرية لإعداد وتجهيز تسعة ألوية من القوات المسلحة الأوكرانية من قبل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لهجوم الربيع"، حسبما جاء في حساب على تيليغرام نشر وثائق.
وتسريب مثل هذه الوثائق الحساسة أمر غير معتاد، ومن شأنه أن يؤدي تلقائيا إلى إجراء تحقيق، وقالت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية “نحن على علم بالتقارير التي تشير إلى المنشورات والوزارة تراجع الأمر”.
وقال متحدث باسم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في بيان إن الوكالة على علم أيضا بالمنشورات وتبحث المسألة.

 

السُلطات الأميركية تستنفِرُ لمَعرِفةِ مَصدَر الاختراق.. و روسيا المتهم الأول:


إذ باشرت الأجهزة المعنية في أميركا تقييم المخاطر التي قد تترتب على تسريب وثائق سرية أميركية حول الحرب في أوكرانيا وعدد من الدول الحليفة لواشنطن، في وقت علقت فيه موسكو  على هذه التسريبات.
وقالت المتحدثة باسم البنتاغون سابرينا سينغ "بدأت مباشرة التعاون بين الوكالات لتقييم تأثير تسريب هذه الوثائق المصورة على الأمن القومي وعلى حلفائنا وشركائنا".
وأوضح البنتاغون أن الوثائق الاستخباراتية المسربة نشرت بنفس الشكل المستخدم لتقديم إفادات لكبار القادة.
ولفت إلى أن بعض الصور المنشورة ضمن الوثائق الاستخباراتية المسربة تم تعديلها على ما يبدو.
وكشف أنه تم إطلاع وزير الدفاع الأميركي لأول مرة على تسريب الوثائق الاستخباراتية يوم 6 أبريل/نيسان الجاري.
وقال "لن نخوض في صحة الوثائق المنشورة على الإنترنت لكن بعضها يبدو أنه يحتوي على مواد حساسة وسرية للغاية.
وجاء في بيان للبنتاغون "صور الوثائق المزعومة المنشورة على الإنترنت تبدو جزءا من كشف غير مصرح به لمواد سرية".
وحسب تحليل وسائل إعلام أميركية، قد تكون هذه التسريبات مفيدة لموسكو، إذ إن هذه الوثائق تظهر مدى اختراق أجهزة الاستخبارات الأميركية أجزاء معينة من الجهاز العسكري الروسي.
وتحاول وزارة العدل الأميركية تحديد مصدر التسريبات، وما زالت تدرس مدى صحة الوثائق التي تم نشرها.
ونقلت صحيفة "واشنطن بوست" (The Washington Post) عن مسؤولين أميركيين أن هذه الوثائق تم تزوير بعضها، لكن معظمها أصلية وتتوافق مع تقارير لوكالة الاستخبارات المركزية متداولة في البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية، وفق المصدر نفسه.
ويقول بعض خبراء الأمن القومي ومسؤولون أميركيون إنهم يشتبهون في أن يكون المسرّب أميركيا، نظرا لاتساع الموضوعات التي تغطيها الوثائق، لكنهم لا يستبعدون ضلوع عناصر مؤيدة لروسيا.
وقال ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CAI) إنه من المرجح للغاية أن تكون موسكو هي التي دبّرت التسريب لبث الارتباك والفرقة المحتملة بين واشنطن وحلفائها.
ومن جانبه، قال الكرملين  إن هناك اتجاها عاما لتحميل روسيا مسؤولية كل شيء، ردا على سؤال حول اتهامات باحتمال ضلوع موسكو في تسريب وثائق للمخابرات الأميركية.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف "لا يمكنني التعليق على هذا على أي نحو. أنا وأنتم نعلم أن هناك في الواقع اتجاها دائما لتحميل روسيا مسؤولية كل شيء. هذا، في العموم، مرض".
ووصف بيسكوف التسريبات بأنها "مثيرة جدا للاهتمام". وفي رد على سؤال عن احتمال تجسس واشنطن على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قال بيسكوف إن هذا غير مستبعد.
وأضاف "تكررت كثيرا حقيقة أن الولايات المتحدة كانت تتجسس على عدد من رؤساء الدول، خاصة في العواصم الأوروبية، منذ فترة طويلة، وتسبب هذا في مواقف فاضحة عديدة".

 

أسباب التسريب: السيناريوهات و النتائج:


من المعروف أن العلاقات بين خصمين كروسيا و الولايات المتحدة هي حالة حربٍ دائمة حتى و إن لم يظهر ذلك للعلن، و إنه ليس بالضرورة أن تعتمد الحرب على الآلة العسكرية في جميع الأحيان، فالحرب الصامتة هي التي تسود الموقف عندما تكون الآلات العسكرية للخصوم صامتة، و عندها تكون أجهزة الاستخبارات و وكالات التجسس هي الفاعل الأساسي في الحرب الصامتة التي تسيطر على علاقات الولايات المتحدة مع خصومها. 
و بالنتيجة فإن تجسس روسيا و الولايـات المتحـدة على بعضهما البعض هو حالة قائمة حتى قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، و لا بد أن الروس كانو يمتلكون دائماً من مصادرهم الاستخباراتية وثائقاً هامّة عن الشؤون الأمريكية و كذلك الأمر بالنسبة الأميركيين على حدّ سواء، و ليس هذا بالأمر الغريب، و لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو عن ماهيّة أهداف روسيا من القيام بنشر الوثائق السرية الأمريكية – التي حصلت عليها من مصادرها الخاصة- في هذا التوقيت تحديداً؟ و لماذا لم تحتفظ روسيا بهذه الوثائق بشكل سري و تستفيد من المعلومات الحساسة التي تحتويها هذه الوثائق دون إعلام الولايات المتحدة بشأن وقوع تلك المعلومات بيد الاستخبارات الروسية؟
ببساطة، إن هدف روسيا من القيام بتسريب الوثائق الأمريكية لا تعني اهتمام روسيا بنشر المعلومات التي تحتويها هذه الوثائق بقدر ما تريد روسيا هز صورة الولايات المتحدة الأمريكية أمام الرأي العام العالمي و خصوصاً الغربي، من خلال تبيان مدى قدرة روسيا على اختراق وكالات الاستخبارات الأميركية التي تعتبر من اقوى وكالات الاستخبارات على المستوى العالمي لا سيما وكالة الاستخبارات المركزية سي اي ايه و وكالة الأمن القومي إن اس أي، و بالتالي فقد يكون الهدف من هذه الخطوات إهانة واشنطن لا أكثر.
و بالإضافة إلى مسألة إظهار القوة الاستخباراتية لروسيا، فقد تهدف روسيا من تسريب هذه الوثائق إلى هدفٍ آخر، و هو خلط الأوراق، من خلال تشتيت الولايات المتحدة الأمريكية و ثنيها عن متابعة التخطيط لدعم القوات الأوكرانية بشكل سلس كما كان يحصل من ذي قبل، فالآن و بعد أن تأكدت الولايات المتحدة من كونها محترقةً من قبل روسيا على الصعيد المخابراتي، فإنها بالتأكيد ستلجأ إلى تغيير مصادر استخباراتها و معلوماتها بالإضافة إلى تغيير كافة الوسائل و الخطط و الاستراتيجيات التي كانت قد وضعتها في السابق لمواجهة الروس في اوكرانيا، نظراً لأن جميع هذه الخطط و الاستراتيجيات أصبحت مكشوفة لدى الروس و بالتالي فلا بد من اعتماد خطط و إستراتيجات بديلةٍ على وجه السرعة.
و إضافة إلى هذا كله، فإن تسريب مثل هذه الوثائق التي تحتوي معلومات سرية عن حلفاء الولايات المتحدة سيؤدي إلى تعمير صفو العلاقات مع الحلفاء، لا سيما العلاقات و التعاون على المستوى الاستخباري و سيؤدي هذا بالنتيجة إلى امتناع حلفاء الولايات المتحدة في الكثير من الأحيان عن تزويد الولايات المتحدة بالمعلومات الحساسة التي تخص الأمن القومي او الأوضاع الأمنية و العسكرية لهذه الدول، نظراً لكون هذه المعلومات تحت خطر التسريب اذا أصبحت في يد الاستخبارات الأميركية التي بات يراها بعض الحلفاء على إنها مخترقة من قبل الروس و ليست مؤهلة للإئتمان على معلومات حساسة أو ذات سرية عالية على المستوى الوطني، و هذا ما سيؤثر سلباً على التعاون الاستخباراتي بين الولايات المتحدة و حلفائها و بالتالي يُفقد الولايات المتحدة الأمريكية العديد من المصادر الهامة للمعلومات و يؤدي بالتالي إلى إحداث حالة من الشلل المؤقت في النشاط المخابراتي للولايات المتحدة، و هذا ليس بالأمر السهل نظراً لكون وكالات الاستخبارات بمثابة العين التي يرى بها صانع القرار في الدولة، و بالتالي فإن أي خلل في عمل هذه الأجهزة سيؤدي إلى إحداث حالة من العمى لدى صانع القرار، و بطبيعة الحال فإن قيادةً عمياء لأي دولةٍ في العالم  سواء كانت الولايات المتحدة الأمريكية أم غيرها لن تأخذها سوى نحو المشاكل و المهالك..