news image

د. أحمد حلواني*

يُجمِعُ التربويّون الثقاة على أنّ التربية هي مفتاح الحياة اللّازمة للعيش الكريم والتطوُّر العلميّ والحضاريّ؛ وأنّ هذه التربية وفق اليونسكو هي روح النقد والشكّ وتعلـُّم النسبيّة والاستقلال وتضامُن العلوم والمعارف والاختصاصات والمرونة وقيَم الحوار والمسؤوليّة والاعتراف بالرأي الآخر، وتعميم ثقافة الديمقراطيّة وتعظيم القيَم المُضافة الفعّالة لها، لأنّ تعزيز ثقافة نوعيّة من شأنه نشْر الفكر الديمقراطيّ على مستوى القيَم والخيارات والأفعال والتصرّفات وتنظيم العلاقات بين القوى والتنظيمات الاجتماعيّة والسياسيّة بما توفّره من ضوابط وتوضيحات، وفُرص الدَّعم الديمقراطيّ الذّاتي الذي من شأنه تعزيز الثقافة والمعرفة وتعميقهما وفق الأسس الديمقراطيّة والقدرة على استشراف المستقبل.

وعليه فإنّ التربية تشكِّل العمود الفقري لعمليّة التنمية، والاهتمام بها هو اهتمامٌ دائمٌ ومستمرّ ويشكّل ركيزةً استراتيجيّة في العمليّة التنمويّة لأيّ مجتمع من المُجتمعات، بحيث تكون العمليّة التربويّة مواكبة لمختلف التطوّرات والتغيّرات التي يمرّ بها المجتمع والنتائج التي تنجم عنها.

وإذا كانت التربية في الوطن العربي في شكلها الحديث قد تأسّست منذ بدايات القرن العشرين على مؤثّرات المجتمع العربي الإسلامي في تقديم العلوم الحديثة، فإنّ التطوّر العولمي لا بدّ أن يجعل التربية مُواكِبة للعولمة بقيَمها ومفاهيمها الجديدة والمتغيّرة التي يشهدها العالَم والتي أثّرت في الميادين الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة وأوجدت تحوّلاتٍ في مفاهيم وقيَم كثيرة، بما في ذلك الاتّجاهات والأنماط السلوكيّة والقيَم الاجتماعيّة؛ وفي ذلك يقول ألكسندر كينغ: إنّنا وسط مخاضٍ طويل وشاقّ سيؤدّي بشكلٍ أو بآخر إلى ميلادِ مجتمعٍ مُعولَم لا نستطيع أن نتكهّن من الآن بهيكليّته.

إنّ التربية والمؤسّسات التعليميّة المُختلفة هي الميدان الأهمّ في استيعاب هذه الظاهرة العولميّة الجديدة ومواجهتها، فهي الجهة التي تتولّى مسؤوليّة إعداد الجيل لتحمُّل مسؤوليّة التنمية والنموّ والنهوض والتطوُّر، الأمر الذي يتطلّب التجديد في الأفكار وتطويرها في البرامج وتحديثها في المناهج والأساليب في مُواجهة تعوْلُم الأسواق والثقافات والمعلومات.

وعليه أيضاً فإنّ عمليّة التخطيط التربوي لمدّ المُجتمع العربي بمقوّمات المُواجهة وتحقيق التطوُّر التنموي ونشْر الثقافة المعرفيّة والديمقراطيّة ووقاية المجتمع من التشتُّت والتخبّط في التعامل مع العولمة الحديثة، هي الكفيلة بتحقيق القوّة البنيويّة للبناء والتفاعُل الحيّ مع المستجدّات.

وقبل البدء بالحديث عن أُسس التخطيط التربوي المُقترح، لا بدّ من الحديث عن السمات العامّة للتربية العربيّة التي يلخّصها الدكتور عبد الله عبد الدايم، الأستاذ المؤسِّس لكليّة التربية وعلم التربية في جامعة دمشق على النحو التالي ("الرؤى المستقبليّة للتربية في البلاد العربيّة"، مجلّة شؤون عربيّة، القاهرة، العدد 101، آذار/ مارس2000).

اقتصار الجهود التربويّة أو توجيه معظمها نحو التربية النظاميّة المؤسّساتيّة، وإهمال برامج التربية غير النظاميّة وعائدها الإنمائي.
أحاديّة التوجُّه الكمّي أو إتباع استراتيجيّة النموّ الكمّي للتعليم على حساب نوعيّته.
اقتصار التعليم على العمل المدرسي المعزول عن حياة المجتمع وواقعه.
إتباع مناهج رسميّة ومركزيّة جادّة، مع التركيز على استخدام الكُتب المقرَّرة نفسها في جميع المدارس، وعدم توفير المرونة للمُعلِّم في اختيار ما هو ملائم لقدرات الطلبة واحتياجاتهم واهتماماتهم.
مُعاناة التربية من إشكاليّة إعادة إنتاج عنصر الأزمة التي يعاني منها الفكر العربي والثقافة العربيّة بسبب الافتقار إلى الفلسفة التربويّة، وضعف التحصيل الدراسي لدى الطلبة.
تركّز معظم الأنظمة التربويّة في الوطن العربي على تعليم الطلبة النظامَ والطاعة المطلقة، ثمّ القراءة والكتابة عن طريق التعليم وتعليم الطلبة ضرورة المحافظة على قيم ومعايير المجتمع التي من شأنها ترسيخ الوضع القائم.
تقوم فلسفة التربية في معظم البلدان العربيّة على أساس أنّ التعليم يجب أن يخدم التنمية، بمعنى أن يكون هناك ربطٌ بين مخرجات التعليم وسدّ حاجات المجتمع من الموارد البشريّة، ولذلك يُصبح هدف التعليم الأساسي هو توفير الكوادر للقيام بالوظائف والمِهن التي يحتاجها المجتمع، وبالتالي فإنّ ذلك ينعكس على إهمال التربية لقضيّة الربط بين التعليم والثقافة والمعرفة والفكر ومتطلّبات عمليّة التغيير الاجتماعي.
ما زالت التربية العربيّة بعيدة عن الوظائف الأساسيّة للتربية، وهي الإسهام في التغيير والتجديد النَّوعي، ونشْر قيَم الديمقراطيّة والعدالة والحريّة والمُساواة والتفكير المستقلّ وحريّة الرأي والتغيير، إذ إنّ التربية العربيّة تسعى إلى التركيز على الطاعة المُطلقة، والمحافظة على ما هو قائم مع قليلٍ من التغيير. ويضيف د. عبد الدائم في وصف حالة التربية العربيّة قائلاً: وفي ظلّ هذه الظروف تتحوّل المدرسة إلى مجتمعٍ أبويّ يشبه إلى حدٍّ كبير مجتمع العائلة التقليدي، حيث يسود احترام السلطة الهرميّة، الأمر الذي يؤدّي إلى تفشّي أخلاق الطاعة والخضوع، وإيثار التقليد على التجديد ويؤدّي إلى إصابة المجتمع بالعجز عن دخول الثورة العلميّة والمُشاركة الخلاّقة فيها.
ويُفصّل د. عبد الدايم عناصر امتلاك الاستعداد للتعامل مع المستقبل بالشكل الآتي:

التركيز على التعليم الذاتي، كونه أبرز عنصر من عناصر تربية المستقبل، وفي هذا السياق لا بدّ من التأكيد على ضرورة أن يكون الإنسان قابلاً لأن يتعلّم لا إنساناً متعلّماً فحسب، يجب أن يتمّ إعداد إنسان يملك الأدوات والمعارف والمهارات اللّازمة كي يزداد علماً وقدرة على مواجهة كلّ جديد، وخصوصاً بعد انتشار الحاسوب والإنترنت وسائر وسائل المعرفة والإعلام والاتّصال.
الاهتمام بموضوع التربية المستمرّة الدائمة طوال الحياة، حيث إنّها عنصر مهمّ من عناصر التربية المستقبليّة، وهو مرتبط بعنصر التعليم الذاتي ويكمّله، وهنا يجب ذكر ما وَرَدَ في الحديث الشريف «يظلّ المرء عالِماً ما طلب العِلم، فإن ظنَّ أنّه عَلِم فقد جَهل». ومن أهمّ فضائل التربية المستمرّة وما تشتمل عليه من تدريبٍ وتجديدٍ للتدريب، أنّها يُمكن أن تكون أفضل الحلول لتحقيق التوافق بين حاجات سوق العمل وهي متغيّرة بسرعة، وبين مخرجات النظام التربوي التي كثيراً ما يتقادم عليها الزمن ويُبطلها التطوّر السريع لأدوات الإنتاج وتغيّراتها. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الاهتمام بالتربية المستمرّة ونشْرها وإتقانها من شأنه أن يساعد على إعادة النظر في المدرسة النظاميّة من حيث المناهج والبيئة وعدد سنوات الدراسة، إذ إنّه في وسع التربية المستمرّة أن تفتح للطالب إمكانات التكيُّف مع المستقبل، عن طريق تجديد التدريب والمعرفة والإعداد دوماً وأبداً، بحيث يصبح المُجتمع كلّه، مُجتمعاً عالِماً متعلّماً.
الاهتمام بتكوين المواقف والاتّجاهات النفسيّة والمهارات التي لا بدّ منها للتكيُّف مع أيّ طارئ جديد في شكل العمل أو أدواته أو مستلزماته في المستقبل، وهذا هو العنصر الثالث من عناصر التربية المفتوحة على المستقبل، فالاهتمام بالمواقف والاتّجاهات النفسيّة يُركّز على الاتّجاهات اللّازمة للنجاح في الأعمال على مختلف أنواعها مثل الإتقان، وامتلاك القدرة على التخطيط، والقدرة على التعاون مع الآخرين، والقدرة على التكيُّف مع المواقف الجديدة وامتلاك روح الخلق والإبداع، والقدرة على فهْم المُبتكرات العلميّة الجديدة والتعامل معها، فضلاً عن معرفة أساليب البحث العلمي والتمرُّس بها، بالإضافة إلى إدراك الصلة بين حقائق العِلم والتقانة وبين ما يجري في المُجتمع العلمي.
ولا بدّ من التأكيد على أنّ مقوّمات التربية المعاصرة هو القدرة على استشراف المستقبل الذي نشأت له علوم جديدة سُمّيت بعلوم المستقبليّات وفق ما ذكرنا آنفاً، وهو ما يجب أن نُمكّن جيلنا الجديد من امتلاك مقوّماته وتحليلاته والتنبّؤ العلمي به، الذي يشمل موضوعات محدّدة المحتوى وجدولاً زمنيّاً للعمل ومنهجاً علميّاً يُماشي عالَم اليوم المُعاصر المتّسم بالتغيير المُتسارع مع الحفاظ على الأعراف الاجتماعيّة والملاءمة معها؛ هو ما سيؤدّي الى رسْمِ السياسة العامّة لبلادنا من قِبَلِنا تأكيداً لسيادتنا.

ويُمكن تحديد الأهداف التي يتوجّب التركيز عليها في هذا المجال بالنقاط التالية:

إيجاد حالة من التوازن بين العقائد الدينيّة ومستلزمات التفكير العلمي من منطلق أنّ جميع المشكلات التي واجهها المجتمع والطبيعة بشكلٍ عامّ لها أسبابها الماديّة التي تخضع في جلّها إلى منطق العِلم في إطار الأخلاق الأساسيّة والمتوافقة مع روح الديانات.
الابتعاد عن أسلوب التلقين في المعلومات وحفْظها ببّغاويّاً المؤدّي إلى قتلِ الإبداع.
بلْورة عادة التسامح في حلّ المشكلات والعمل على تربية الفكر الديمقراطي بقبول الآخر بآرائه المُختلفة، واستنكار التعصُّب الذي يزيد من حالة التوتُّر والانقسام. مع اعتبار التعليم والوصول إلى المعلومات حقّاً للطالب وليس امتيازاً، مع تقوية كلّ ما يفيد مواهبه وصولاً إلى إبداعاته.
أمّا موضوع المساواة بين الرجل والمرأة فتتحمّل التربية مسؤوليّة كبيرة فيه من خلال التأكيد على تقبُّل إنسانيّة الإنسان وشرح فوائد التعامل على أساسه في الحياة العامّة من حيث التكامل في عمل المجتمع وفي إلغاء تجميد نصفه وحصرها في أمورٍ هامشيّة محدّدة.
وموضوع الوطنيّة يحتاج إلى مزيدٍ من الحقوق العمليّة في إعطاء ميدان التربية مجالاتٍ متكافئة للجميع من دون تفرقة أو حدود بعيداً عن العرقيّة أو الجنسانيّة الذكوريّة أو الأنثويّة، بخاصّة أنّ الوطنيّة هي قرينة المواطنة بحُكم أنّها رمز التحرّر والتقدّم والحياة المعاصرة والسيادة الشخصيّة على الذات وديمقراطيّة الحياة السياسيّة (وفقاً لما ذكره الدكتور برهان غليون)
وفي التعليم المهني والتكنولوجي تتحمّل التربية مسؤوليّة تقديم أهميّته لكونه العامل الأساسي في التطوّر والتنمية الاقتصاديّة أو نشْر وعيٍ عامّ في عدم ترتيبه متخلّفاً عن التعليم النظري للآداب والعلوم الإنسانيّة.
ولا يُمكن تجاهُل شرح موضوعات الأعراف والتقاليد في أبعادها الأخلاقيّة والاجتماعيّة في العمليّة التربويّة وعدم وقوفها في وجه احترام الآراء المتعدّدة بحريّتها ومن دون أن يعني ذلك أيّ انتقاصٍ فيها أو الإساءة إلى مُنتسبيها مع إعطاء أهميّة أيضاً للعمليّة التربويّة عند الشباب وتعزيز دَورهم في بلْورة الإيمان بمفهوم العدل الاجتماعي والعمل على إزالة مسبّبات الظلم الاجتماعي وطُرق التخلُّص منه.
ثمّة مقوّماتٍ أخرى لا بدّ من التطرُّق إليها، إضافة إلى ما ذَكرتُه عبر د. عبـد الدايم، والأهداف المتوجّبة. إنّه مفهوم الحريّة الأكاديميّة ووضْعها ضمن مقدّسات العمل التربوي، وبالتالي ضمن قيَم المجتمع التربوي بشكل خاصّ والمجتمع العربي بشكلٍ عامّ.

ثمّة جانب مهمّ آخر من جوانب التربية المُعاصرة ألا وهو التربية الافتراضيّة وأقصد التعلُّم عبر الإنترنت واستخدام تقنيّات الاتّصال الحديثة في التعلُّم وتحقيق التواصل المباشر بين الجامعات المُختلفة وأساتذتها وطَلبتها والانتقال إلى أنماطٍ تعليميّة جديدة من دون الالتزام بمحدّدات الزمن والمكان. والمعروف أنّ الاتّجاه نحو مفهوم التعليم الافتراضي بَرَزَ ضمن اتّجاهاتٍ ثلاثة هي:

ديمقراطيّة التعليم وتأمين فُرص تعليم متكافئة.
إفساح المجال أمام القدرات والاستعدادات الفرديّة وتأمين فُرص التفوُّق.
ظهور مفهوم مجتمع التعلُّم الذي يعتمد التفاعُل الفكري بين التربويّين والطلبة لاستخدام وسائل الاتّصال والتكنولوجيا الحديثة.
التعامل مع الظروف التي أَوجدتها جائحة كورونا واغلاق التجمّعات المدرسيّة والجامعيّة.
تقول د. فادية المليح حلواني في حديثها عن أهمّيّة إدخال التعليم الافتراضي إلى جانب التعليم الجامعي: إنّه يضمن المُواكَبة والتطوّر والتبادُل المعرفي والوصول إلى مجتمع طلّابي تترسّخ فيه مفاهيم البحث والتعلُّم الذاتي والقدرة على الاستخلاص من قنوات التدفُّق الحرّ والتحليل، وبالتالي الحوار وقبول الآراء المُختلفة وهو ما يؤدّي إلى مُجتمعٍ ديمقراطي مَعرفي علمي قادر على الإنتاج والإبداع والتعامُل مع معطيات العصر الافتراضي بتوقيته وأمكنته وتصوّراته المستقبليّة وتشابكاته العَولميّة (فادية المليح حلواني، "التربية الافتراضيّة في سورية"، من بحث مقدَّم إلى المؤتمر الثالث للتعليم بواسطة الإنترنت، القاهرة 2/11/2004).

وأخيراً، فإنّ في فضاءات التربية الحديثة من تعليمٍ مفتوح وتعلُّمٍ ذاتي وافتراضي وتخصّصاتٍ دقيقة وتواصُلاتٍ علميّة كبيرة وتعليمٍ مستمرّ وتواصلٍ لا ينقطع عبر المواقع التقنيّة المُختلفة بين الطلبة والأساتذة وبين جامعات العالَم كلّها واتّفاقات جامعيّة لتبادُل الأساتذة والطلبة والمناهج وطُرق اعتماد عبر منظّمات تختبر المعايير والجودة وأبحاث ضمن الحريّة الأكاديميّة المفتوحة والتي نؤكّد عليها، كلّ ذلك وغيره كثير يؤكِّد أنّ هذه الفضاءات إذا ما احتضنتها التربية العربيّة بأُفقٍ مُنفتح بعيد عن التعصّب، وفي ظلّ الثقة بالنَّفس واحترام الرأي الآخر وقبول كلّ فكر مُقترن بالبراهين العلميّة، كلّ ذلك سيُهيّئ لمناخٍ ديمقراطي ينمو في حياتنا العربيّة والإسلاميّة. وتسقيه خصالنا ومبادؤنا الإيمانيّة بالخصب والنموّ والعطاء.

هناك مسؤوليّات جسيمة يتحمّلها التربويّون العرب للقيام بمهامّهم التي نَذروا أنفسهم لها؛ وكما كان العلماء والمربّون العرب والمسلمون قادرين على حمل هذه المسؤوليّة عبر التاريخ بإنجازاتهم الكبيرة، فإنّهم بإيمانهم وقيَمهم وعِلمهم وطموحاتهم قادرون على متابعة حَمْل الرسالة وتحقيق الأهداف المنشودة لمجتمعٍ جديد متطوّر وفعّال له وللمُجتمع الإنساني كلّه في مسيرته الحضاريّة القائمة والمأمولة بالسلام العادل وأمنه وتعايش الشعوب بتعاونٍ وإخاء وتفاهم.

*أستاذ جامعي وكاتب من سوريا - مؤسسة الفكر العربي