في نجاح النموّ الذكيّ ونتائجه
د. عبد العظيم محمود حنفي*
توضح بعض الدراسات الاقتصاديّة الكيفيّة التي تنمو بها الاقتصادات؛ وتٌقدّم وصفات لتحقيق المُنتجات والخدمات، وكلّها تتطلَّب عناصر ثلاثة: الموادّ الخامّ، والعمالة، والآلات، وهو ما يُسمّى أيضاً رأس المال البشريّ.
والواقع أنّ هناك عنصراً رابعاً، وهو التغيُّر التكنولوجيّ الذي يؤدّي إلى مُنتجات وخدمات جديدة، تتزايد الرغبة فيها أكثر من تلك التي كانت موجودة من قَبل في السوق. كما يؤدّي هذا العنصر إلى طُرق أكثر كفاءة في صنْع مختلف المُنتجات والخدمات وتوصيلها، سواء أكانت موجودة حاليّاً أم كانت جديدة.
تقسّم وصفات النموّ الاقتصاديّ هذه إلى فئتَيْن عريضتَيْن: الفئة الأولى هي "النموّ عن طريق القوّة الغاشمة"، وقصدوا بها إضافة المزيد من المدخلات والمزيد من العمالة والمزيد من رأس المال الذي يفضي إلى إنتاج أكثر، على الرّغم من أنّ زيادة رأس المال وحده، سترفع الإنتاج بالنسبة إلى العامل الواحد. ومع ذلك، فإنّ أحد المبادئ الأساسيّة لعِلم الاقتصاد يُبيِّن أنّ إضافة أحد عوامل الإنتاج يرتبط به تناقُصٌ في العائدات. فعلى الرّغم من أنّ الاقتصاد الذي يُكرَّس لكلٍّ من الادخار والاستثمار يؤدّي إلى ارتفاع حصّة الإنتاج وإلى زيادة النموّ لفترة من الوقت من خلال توفير المزيد من المصانع والآلات، إلّا أنّه لا يُمكنه أن يفعل هذا على المدى الطويل. وبعبارةٍ أخرى، فقد تؤدّي زيادة الاستثمار إلى رفْع النّاتج الإجمالي على المدى الطويل، ولكنّها لا تزيد معدّل النموّ. هذا رأي من الآراء الكثيرة التي قال بها واحدٌ من آباء نظريّة النموّ الحديث البروفيسور روبرت سولو (الحائز على جائزة نوبل) وغيره من كِبار الاقتصاديّين.
الفئة الثانية هي "النموّ الذكيّ" أي التقدُّم التكنولوجي، والتي يُمكنها أن تُنقِذ الاقتصاد من تناقُص العائدات. فالقيام بشكلٍ مُطّرد بتجهيز قوّة عمل معيّنة بأفضل الأجهزة والمعدّات يُمكن أن يرفع كلّاً من مستوى نموّ الإنتاج ومعدّله. وقد توصَّلت معظم الدراسات إلى نتيجة مؤدّاها أنّ التغيير التكنولوجي هو أحد المحرّكات الرئيسة للنموّ.
عناصر أربعة
يضع البعضٌ من كِبار الاقتصاديّين عناصر أربعة خاصّة بمحرِّك النموّ الاقتصادي المُعَدّ إعداداً جيّداً والذي هو اقتصاد رياديّة الأعمال الناجح:
أوّلاً: عند إقامة مشروع يجب ألّا يصطدم بالروتين الذي يستهلك الكثير من الوقت والمال مع وجود نظامٍ مالي معقول يتميّز بالأداء الجيّد يعمل على توجيه مدّخرات الأفراد إلى مُستخدِمي هذه الأموال وإلى رياديّي الأعمال بشكلٍ خاصّ، مع أهميّة وجود أسواق عمل مَرِنة. فلو لم يكُن بإمكان رياديّي الأعمال جذْب عمالة جديدة، فإنّهم لن يستطيعوا النموّ؛ كما أنّهم سيفقدون القدرة على النموّ إذا كان هناك إفراطٌ في وضْع قواعد مشدَّدة للعمالة (ولاسيّما إذا كانت هذه القواعد تحدّ من قدرة المشروعات على فصْلِ العمّال المُتعثّرين في أدائهم أو الاستغناء عن الذين لم تعُد المشروعات في حاجة إليهم).
ثانياً: يجب أن تُكافِئ المؤسّساتُ الحكوميّةُ أنشطةَ رياديّة الأعمال وذات فائدة اجتماعيّة بمجرّد أن تبدأ، وإلّا فإنّه لا يُمكن أن نتوقّع من الأفراد أن يُخاطروا بضياع أموالهم وجهودهم في مشروعات سيّئة الطالع. وهنا فإنّ سيادة القانون، وبالتحديد حقوق التعاقُد والملكيّة، تكتسب أهميّة خاصّة.
ثالثاً: يجب ألّا تُشجِّع المؤسّسات الحكوميّة الأنشطة التي تهدف إلى تفتيت الكعكة الاقتصاديّة بدلاً من أن تزيد من حجْمها. فهذه الأنشطة غير المُنتِجة (على الرّغم من أنّها بمعنىً من المعاني تُعَدّ من المشروعات الفرديّة) تتضمّن سلوكاً إجراميّاً (على سبيل المثال بَيع العقاقير غير القانونيّة)، وكذلك السلوك القانوني الذي يسعي لحصوله على المال بالاحتكار والاستغلال (أي بالضغط السياسي، أو رفْع القضايا التافهة لنقْلِ الثروة من جَيبٍ إلى آخر).
وأخيراً، في حالة الاقتصاد القائم على رياديّة الأعمال، يجب أن تَضمن المؤسّساتُ الحكوميّةُ للمشروعاتِ الرياديّةِ الناجحة وللمؤسّساتِ الكبرى الرّاسخة (التي أنشأها رياديّو أعمال في وقتٍ سابق) مُواصَلةَ الحصول على الحوافز التي تُشجِّعها على الابتكار والنموّ، وإلّا غاصت الاقتصادات في الركود.
ولكنّ كثيرين يتساءلون ماذا عن ذلك؟ ولماذا لا توجد في القائمة أشياءٌ أخرى؟ على سبيل المثال، نَشأ تحدٍّ واضح من الاعتقاد بأنّ النموّ يتعلّق أساساً بالثقافة، وهو الرأي الذي قدَّمه ديفيد لاندس. ويعني أنّ بعض المُجتمعات فيها أفراد مُغامرون يعملون بدأب. وهناك دولٌ أخرى تفتقر إلى مثل هؤلاء الأفراد، وأنّ تلك الدول التي تتميّز بالعمل الدؤوب وثقافة المُغامَرة تنمو بسرعةٍ، في حين أنّ الدول التي ليست لديها تلك الثقافة تنمو بسرعةٍ أقلّ أو لا تنمو مطلقاً.
ولا تنكر غالبيّة الدراسات أنّ هذه الثقافة تلعب دَوراً، ولكنّه ليس – ولا يُمكن أن يكون – العامل الوحيد الذي يُفسِّر النجاح الاقتصادي. فلو كان هذا هو العامل الوحيد، فلماذا إذن نَجَحَ كثيرٌ من الهنود والروس وبعض المغتربين، اقتصاديّاً، خارج أوطانهم، في حين قبع آخرون في بلادهم يُكافحون من أجل إعالة أنفسهم وأسرهم؟ إنّ الأمر ليس مجرّد "عمليّة انتقاء ذاتي" – وهو ما يعني أنّ المُغتربين ينجحون في أماكن أخرى، لأنّهم الأكثر مُغامَرة (وهو ما يظهر من رغبتهم في المُخاطرة بكلّ شيء ومُغادرة أوطانهم). إنّ الأقطار التي غادروها قد عانت كثيراً جرّاء إعاقة تقدّمها من طرف مؤسّساتها.
أو ماذا عن دَور الجغرافيا التي تقول: إنّ الحرارة في بعض البلاد القريبة من خطّ الاستواء تجعل من المستحيل على الأفراد أن يعملوا بدأبٍ وتُعرِّضهم للأمراض، أو أنّ البلدان غير الساحليّة ترتفع فيها تكاليف النقل، ولا يُمكنها مُمارسة التجارة بسهولة مع باقي دول العالَم؟
سنغافورة وسويسرا
ركَّز جيفري ساكس على هذه العوامل باعتبارها عوامل تحدّ من النموّ أو تحول دونه. وكما هو الحال مع الثقافة، فقد تكون هناك أوجه تشابُه مع هذا الخطّ من الجدل؛ إلّا أنّ هناك أمثلة مضادّة لِما قيل سابقاً، فإذا كان الوجود عند خطّ الاستواء هو قبلة الموت الاقتصاديّة، فكيف للمرء أن يُفسِّر النجاح الاقتصادي المُذهل الذي أَحرزته سنغافورة؟ وإذا كان عدم وجود مَنفذٍ على البحر يحكم على البلد الداخليّة بالتخلُّف، فكيف للمرء أن يُفسِّر السجلّ الاقتصادي الملحوظ لسويسرا التي تحيط بها الجبال من كلّ جانب، لدرجة أنّه كان من المعتاد في الماضي اعتبارها فريدة من الناحية الجغرافيّة بوصفها رمزاً للحياد؟
وماذا عن التعليم، أو كما يُطلِق عليه عُلماء الاقتصاد من دون خلاف بينهم "رأس المال البشري"؟ فإنّ كلّ أنموذج نظري وكلّ اختبار تجريبي للنموّ الاقتصادي سيُخصِّص فعليّاً دَوراً لوجود قوّة عمل متعلّمة، ولا أحد يُجادل في أهميّة وجود درجةٍ ما من التعليم لتحقيق النموّ. بيد أنّ بعض الدراسات لا تميّزه، باعتبار أنّ له دَوراً فريداً في خلْق مُجتمع أو اقتصاد رياديّة الأعمال، وذلك لسببٍ بسيط يتعلّق بسياق الأمور. فقبل، بل ومنذ، سقوط سور برلين كانت الدول التي تنتمي إلى الاتّحاد السوفييتي السابق والكثير من دول أوروبا الشرقيّة، تتباهى بأنّ لديها بعضاً من أكثر نُظم التعليم نجاحاً في العالَم؛ لكنّ هذه النُّظم كانت مُحاطة بجوٍّ سياسي واقتصادي (الاشتراكيّة أو الشيوعيّة) يتناقض تناقُضاً شديداً مع نظام رياديّة الأعمال (مع عدم إنكار وجود بعض الابتكارات، ولاسيّما في تكنولوجيا العسكرة وارتياد الفضاء في الاتّحاد السوفييتي، إلّا أنّ تلك الابتكارات كانت الاستثناء الذي يُثبت القاعدة).
مع تأكيد دراساتٍ اقتصاديّة على أنّ قوّة العمل المتعلّمة يُمكنها أن تُعزِّز نظام رياديّة الأعمال عندما تكون بعض أو كلّ العوامل الأخرى المذكورة آنفاً موجودة داخل مُحيط رأسمالي، فإنّ الاحتمال الأكبر هو أن يُخرج لنا الأفراد المتعلّمون تعليماً عالياً مشروعات تجاريّة متطوّرة، ولاسيّما في عالَمٍ تزداد فيه التكنولوجيا العالية. أضف إلى ذلك أنّ البلدان التي ينتشر فيها التعليم الأساسي يُمكن أن تكون مهمّة للغاية بالنسبة إلى توفير رأس المال البشري الذي يُمكن لرياديّي الأعمال أن يعتمدوا عليه في تطوير مشروعاتهم.
أخيراً ماذا عن الديمقراطيّة؟ أليست عاملاً جوهريّاً بالنسبة إلى النموّ، أم أنّه كما يدّعي الآخرون يلزم وجود درجة من الاستبداد في البداية لتمكين الدول من الوصول إلى مستوىً معيّن من التنمية، وبعدها تُصبح الديمقراطيّة تقريباً أمراً حتميّاً؟ إنّ هذه الأسئلة محلّ جدالٍ حادّ، وعلى الرّغم من أنّ الآراء بشأنها لم تُحسم بعد، إلّا أنّ رأينا في البرهان الذي وَرَدَ ذكره، هو أنّ الديمقراطيّة بالتأكيد يُمكنها أن تُسهم في النموّ، بخاصّة في اقتصادات رياديّة الأعمال. غير أنّ حدوث هذا ليس أمراً جوهرياً فـ "مُعجزات" النموّ في جنوب شرق آسيا وفي الصين، تشهد للفرضيّة الأخيرة.
إنّ قائمة الافتراضات التي تبدأ بالسؤال "ماذا عن"؟ لن تتوقّف بكلّ تأكيد، وعندما نتمعَّن في النظريّات المتنوّعة والدراسات التجريبيّة للنموّ بتفصيلٍ أكبر، تتأكَّد لنا العناصر الأساسيّة الأربعة التي تمَّ ذكرُها وتشكِّل مُحرِّكَ النموّ النّاجح.
*باحث وأكاديمي من مصر - مؤسسة الفكر العربي