"الميتافرس" كَونٌ افتراضيٌّ بديلٌ للواقع
د. غسّان مراد*
لا أعتقد أنّ مارك زوكربيرغ يحتاج إلى جائحة ليُعلن دخوله عالَم الميتافرس عبر تغيير اسم مؤسَّسته إلى “ميتا” (META#)، تماهياً مع الميتافرس (metaverse#)، وليكون سبّاقاً، ويدخل بقوّة إلى الكَون الافتراضيّ المُستجدّ، عبر إعلانه تشكيل فريقٍ من 10000 مهندسٍ لتنفيذ هذه الخطوة، مع حشْدِه عدّة مليارات لإبراز رؤيته الخاصّة قبل الآخرين، وهو يزعم أنَّ مُستخدِمي شبكاته الرقميّة سيكونون أكثر قرباً من بعضهم البعض!
وجاء اختيار العلامة التجاريّة (اللّوغو) ليتماهى أيضاً مع الانتقال إلى الميتافرس، من أجل ربط اسم المؤسّسة بالتغيُّرات، ثمّ إنّ هذا الرمز صُمِّم ليكون ثلاثيّ الأبعاد، خلافاً للعلامات التجاريّة التقليديّة. ويأتي الشعار، مثل “M” للميتا، أو رمز اللّانهائيّة (∞) في الرياضيّات، ليُشير إلى الآفاق غير المحدودة للميتافرس، والحاجة إلى إعادة التفكير في الهويّة الغرافيكيّة للمؤسَّسة، بهدف الابتعاد عن الحرف الأبيض “F” على خلفيّة زرقاء. ومن المُمكن رؤية الخطوط العريضة لسمّاعة الواقع الافتراضي، الأداة الأساسيّة للميتافرس، وبألوانٍ عدّة وزخارف افتراضيّة، لتعكس علامات “واتسآب” و”إنستغرام”...
يرى مؤسِّس “فيسبوك” أنَّنا سنتوقَّف عن رؤية أنفسنا كمجموعة وسائط اجتماعيّة بعد 5 سنوات، بل سيُنظر إلى كلِّ الشبكات الاجتماعيّة كميتافرس. خير مثال على ذلك لعبة “Second Life” التي بلغت أوجها في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، بخصائصها الواقعيّة و”سكّانها” ونظامها النقديّ.
لا شكّ في أنَّ جائحة “كوفيد 19” سرّعت لجوء الناس إلى التقنيّات، ما أدّى إلى تسارُع رقْمنة أنماط الحياة، وخصوصاً أنَّ جزءاً منها بات شبه مستحيل في الحياة الواقعيّة؛ ففي العالَم الافتراضي المُفترَض مستقبلاً، سيكون العيش مُمكناً من دون مُغادرة المنزل، من خلال ميتافرس.
إنّ مصطلح ميتافرس (ما وراء الكون)، لتوصيف عالَمٍ افتراضي خيالي، مُستوحىً من الكلمة اليونانيّة “meta” التي تعني “ما وراء”، وكلمة “universe” التي تعني الكَون؛ وهو يُستخدم لوصف إصدارٍ مُستقبلي من الإنترنت، حيث يُمكن الوصول إلى الفضاءات الافتراضيّة المستمرّة والتشاركيّة عبر تفاعُلٍ ثلاثيّ الأبعاد، التي يتمّ إدراكها في الواقع المعزّز.
نشأ المصطلح من رواية نيل ستيفنسون (Neal Stephenson)، الذي تخيّل مفهوم “metaverse” في روايته “The Virtual Samurai Snow Crash” (نُشرت في العام 1992). إنّه مساحة رقميّة جماعيّة يُمكن الوصول إليها من خلال النظّارات التي تسمح بالرؤية الثلاثيّة الأبعاد. الميتافرس يشبه كَوناً مُوازياً، لأنَّ العناصر التي يتكوَّن منها ثابتة، ونحن نتجوّل فيه من خلال رؤية الصورة الرمزيّة الافتراضيّة الخاصّة بنا. باختصار، علينا تخيُّل عالمٍ لسنا مُلزمين فيه بمُغادرة المنزل للذهاب إلى السينما أو التسوُّق أو حضور حفلة موسيقيّة. ولكنْ أَلَم نُصبح حاليّاً قريبين من حياة الميتافرس؟
بالنسبة إلى الأفراد، سيُشكّل الميتافرس امتداداً للذات الافتراضيّة، ما يؤدّي إلى البحث عن انسجامٍ بين الهُويّات المتعدّدة التي أتت من الرقْمَنة والافتراضي، والبعض سيعتبر أنَّ العالَم الافتراضي أفضل من عالَمه الواقعي، ما سيوقعنا في ازدواجيّة الواقع وازدواجيّة الـ”أنا” التي تدمج بين الواقع والخيال.
من الناحية الأخلاقيّة، لا تتطرّق الشركات العالَميّة للرقْمَنة إلى هذه المسألة، ما يُذكّرنا ببدايات الإنترنت، عندما اعتبرنا أنّ حريّة الوصول إلى المعلومات باتت مُتاحة للجميع، وأنّ الإنترنت سيُساعد الدول الفقيرة على تطوير اقتصادها وتنظيمه بناءً على رأس المال الفكريّ، ولكنْ مع مرور الوقت اتّسعت الفجوتان الرقميّة والمعرفيّة، وكلّ ذلك لم يكُن إلّا وسيلةً للتسلُّط المعرفيّ والتحكُّم في سلوكيّات الأفراد واقتصادات الدول. مع الميتافرس، سيسهل تدفُّق الأموال إلى العملات الافتراضيّة، وسيصبح بمثابة جنّة للمُستثمِر في اقتصادٍ ما زال غير منظَّم يرسِّخ عدم المساواة من الناحية الاقتصاديّة.
هذا الخيال التكنولوجي الذي سُمّي “ميتافرس” هو الأُفق الجديد لوادي السيليكون. وما قد يحصل، سيَجعل “الغافام” (GAFAM) - غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون وميكروسوفت - أكثر تمكّناً اقتصاديّاً، وأكثر دفْعاً لحدود العالَم المادّي حتّى يتمّ دمْج العالَميْن الواقعي والافتراضي وخلْقِ عالَمٍ رقميّ مُوازٍ.
المُضاعفات الرقميّة
فيعالَم الميتافرس، سيُصبح لكلِّ مُستخدِمٍ صورةٌ ثلاثيّة الأبعاد أو “أفاتار” (Avatar) يشكّل توأمه الافتراضيّ، ويُعتقد أنّ ذلك سيُصبح شائعاً في الأعوام الثلاثين القادمة. هذا التوأم يعبِّر عن صورتنا الرمزيّة الخاصّة التي ستقوم بالإجراءات الشكليّة في العالَم الافتراضي.
وعادةً ما يكون كلّ جديد في الشبكة قابلاً للاستغلال في أنواع الجرائم كافّة، فالجرائم التي تحصل في الواقع هاجرت إلى عالَم الإنترنت بأشكالٍ مُختلفة تتفاوت في خطورتها. ماذا سيحصل عندما يلمس شخصٌ ما الصورةَ الرمزيّة لشخصٍ آخر؟ هذا ما يحصل في ألعاب الفيديو الثلاثيّة الأبعاد حاليّاً. بعض المُستخدِمين يشتكون أنَّهم ضحيّة لمْس صورتهم الرمزيّة. هل هذا نَوع من الأنواع الجديدة للتحرّش؟ وكيف سيكون تأثير ذلك في الفرد في الواقع؟
من ناحية أخرى، ستكون الصحّة البدنيّة والعقليّة للأشخاص وحماية البيانات والأمن السيبراني معرَّضةً للخطر، وستتمكّن السلطات من استغلال هذه التطبيقات لفرْضِ سيطرتها أكثر على المُجتمعات والأفراد، من خلال المُراقبة الدائمة التي تسمح بالتلاعُب بسلوكيّاتهم وتوجُّهاتهم.
وكما هو الحال مع ألعاب الفيديو، إنَّ فكرة الإدمان والاكتئاب والانتحار حاضرة عند المُستخدِمين، ولا ننسى موافقتهم الرقميّة وسمعتهم الإلكترونيّة التي يُمكن أن تُلطَّخ، إضافة إلى أفعالهم التي يتمّ تنفيذها في بيئةٍ من نَوع الميتافرس. كما ستُثير البيانات الماليّة والعاطفيّة مَخاوف بشأن أمنها وسريّتها وملكيّتها، وستستمرّ الأنظمة الأساسيّة بكونها هدفاً لسرقة البيانات. إنَّ المُضايقات تشكّل الآن مشكلة في شبكات التواصل، فكيف ستكون في الواقع الافتراضي؟ هل سينجرّ المُستخدِم إلى استحضار الافتراضي في مُغامراته في الحياة الواقعيّة؟
من الواضح أنّ السلوك البشري، إيجابيّاً كان أم سلبيّاً، موجودٌ في البيئات الافتراضيّة. كان هذا هو الحال مع المدوّنات والمُنتديات، ثمّ في شبكات التواصل الاجتماعي، وسوف نجدها في الميتافرس. ستكون هناك حتماً مجموعةٌ كاملة من الرقابة، كما هو الحال في وسائل التواصل الاجتماعي، لكنّ الطبيعة البشريّة ستستمرّ بصبّ جوانبها السلبيّة كما الإيجابيّة. إذاً، هل يحمل الميتافرس فكرة عالَم أفضل من الواقع؟
من المؤكّد أنّ الميتافرس، كما هو مطروح حاليّاً، سيؤدّي إلى تضخيم الأشياء جرّاء التجسيد الثلاثيّ الأبعاد للأفراد. اقتصاديّاً، بدأت وزارة الزراعة الروسيّة فعلاً باستثمار نظّارات الواقع الافتراضي في المَزارع، بوضْعها على عيون الأبقار، ما أدّى إلى زيادة حجْم الإنتاج بشكلٍ ملحوظ!
ولا شكَّ في أنّ الشركات التجاريّة الكبرى ستستثمر في الميتافرس أيضاً، الذي بات يُعتبَر منجماً جديداً من مَناجِم “الذهب الرقمي” لتنشيط العلامات التجاريّة والتسوّق، والذي سيُشكّل مساحةً يُمكن أن تَمنح نَوعاً من التبادُل الحقيقي للقيمة بين الزبائن والعلامات التجاريّة، من خلال المحتوى أو المُنتجات أو لمجرّد النقاش.
على سبيل المثال، برزت ثقافةُ الألعاب التي جَذبت العلامات التجاريّة الرياضيّة لأوّل مرّة، والتي بدأت قبل مواسم عدّة في توقيع شراكات مع الفِرق الرياضيّة لبناء ألعابٍ إلكترونيّة مُحترفة. ومع تطوُّر المزيد من جوانب الحياة عبر الإنترنت، سيزداد الطلب على الأزياء والمُنتجات الرقميّة.
استطراداً، إنّ سوق الرموز غير القابلة للاستبدال (NFT) ناشطٌ حاليّاً، ويُتوقّع أن يزداد مستقبلاً، وهو يتمثّل ببياناتٍ ذات قيمة معيّنة تتكوّن من نَوعٍ من رموز التشفير التي تمثِّل غالباً كائناً رقميّاً (صورة وفيديو وصوت...)، يُرفق بهويّة رقميّة مرتبطة بمجموعة من المالكين. ويتمّ التحقُّق من مصادقته بفعل بروتوكول سلسلة من الكتل (blockchain)، ما يعطيها القيمة الأوليّة.
ويُعتقد أنَّ الميتافرس سيفتح الأبواب أمام العلامات التجاريّة لتصل إلى 56 مليار دولار بحلول العام 2030. سترتدي الصور الرمزيّة المَلابس الشخصيّة التي يستخدمها المُستخدِمون، وستستغلّ الأشياء كمَظاهر للتفرُّد والتعبير عن الذات، تماماً كما يفعل البشر في العالَم المادّي، وسندخل في عالَم التمظهُر من جديد.
والأكثر بُعداً وخيالاً هو استثمار أموالٍ حقيقيّة وشراء ثياب وبيوت افتراضيّاً مثلاً. وبالتالي، كيف سيعبِّر ذلك عن الحالة الاجتماعيّة؟ وعند ضياع الهويّة،هل سيُنفِّذ المُستخدِم في الواقع ما يحصل معه في الافتراضي؟ وهل ستتحوَّل الشبكات الاجتماعيّة إلى شبكاتِ تواصلٍ لطبقاتٍ اجتماعيّة افتراضيّة، كما يحصل في الحياة الواقعيّة؟
هذا الأمر يُعيدنا إلى المخاطر في عالَم الجرائم الإلكترونيّة التي يُمكن أن تؤدّي إلى تجاوزات ومخاطر في العالم الحقيقي ناتجة من الميتافرس إذا نفّذ المُستخدِم ما يقوم به افتراضيّاً. كلّ ذلك يُنذِر بمخاطر جديدة يجب دمْجها في الاستراتيجيّات الأمنيّة للأفراد والجهات الفاعلة.
ومن الضروري تدريب المستخدمين والشباب الذين تتنوع أساليب استخدامهم للمنصّات والتطبيقات قدر الإمكان، لأنَّ التفاعل سيتغيّر نسبيّاً مع الميتافرس، وسيُصبح حسيّاً بشكلٍ أكبر. ولم يعُد الأمر متعلّقاً بالبيانات الشخصيّة فقط، بل بالبيانات السلوكيّة أيضاً، إذ إنّ جسدك هو الذي يتفاعل، لكن ما الحدود التي تفصل العالَم الحقيقي عن العالَم الافتراضي؟
في هذا النّظام، على المُستخدِم أن يكون قادراً على معرفة مع مَن يتفاعل؛ مع أناس حقيقيّين أو مصنوعات يدويّة؟ من الضروري أن يفهم المُستخدِمون مسألة تفاعلاتهم، وأن يعرفوا كيف يتغيّر النظام وكيف يُمكن التكيُّف معه. وتشكِّل الهجمات الإلكترونيّة تهديداً كبيراً للبيئة الرقميّة. وبالتالي، ليس الميتافرس بمنأىً عن هذا الخطر. إنَّ سرقة الرموز غير القابلة للاستبدال (NFT) والبنى التحتيّة الحيويّة والتزوير والانتهاكات الجسيمة مُدرَجة في برنامج أساليب التشغيل الجديدة للمُخالِفين السيبرانيّين، ومن الضروري وضع القواعد الضابطة لها.
أخيراً، إنّ المخاطر الملموسة مُرتبطة بإسقاط العالَم الحقيقي في الميتافرس، الذي لن يخضع لقواعد العالَم الحقيقي بحُكم طبيعته الافتراضيّة. علاوةً على ذلك، سيَشهد الميتافرس وصولَ أجهزةٍ تقنيّة جديدة لا تمثِّل النظّارات الثلاثيّة الأبعاد سوى مقدّمة صغيرة عنها، وسيُعدّ تغييراً كبيراً من حيث البيئة الثقافيّة مقارنةً بالفترة التي حدث فيها الاضْطرابان الكبيران السابقان اللّذان يدعمهما الإنترنت: الويب في أوائل التسعينيّات، والشبكة الاجتماعيّة في أوائل القرن الحادي والعشرين. وعلى الأرجح أنّ “كوفيد 19” والتغيُّر المناخيّ والجيل الخامس (5G) والميتافرس ستؤدّي كلّها إلى ثورةٍ جديدة في عالَم الإنترنت.
في النهاية، الميتافرس والتقنيّات الرقميّة كافّة تظلّ أدوات، وهي تصبح ما نفعله بها، وليس ما تفعله بنا. لذلك، من المُفترض توطين هذه الأدوات في مُجتمعاتنا بحسب قيَمنا الثقافيّة، من خلال التربية على ثقافة التقنيّات الرقميّة، التي عليها أن تُصبح من ضروريّات التعلُّم المُستمرّ.
* مؤسسة الفكر العربي