تهافُت الذهنيّة الإقصائيّة للحداثة

news image



د. محمود حيدر*

لو اتَّخذنا مَساراً تفكيريّاً مُفارِقاً للتقليد في النَّظر إلى الحداثة بأحقابها المُختلفة، ربّما لَظَهرَ لنا بيُسرٍ ما يُمكن أن ننعته بالذهنيّة الإقصائيّة. فلقد شكَّلت هذه الذهنيّة علاماتٍ فارِقة لمُجمل أزمنة الحداثة وما بعدها. بل ثمّة مَن يذهب أبعد من ذلك ليرى أنّ ذهنيّة الإقصاء لم تكُن حالةً عارِضة، وإنّما تَجِدُ مرجعيّتها في القاع العميق لفلسفة التنوير.

ولو كان من استدلالٍ أوّليٍّ على هذا المدّعى لتيسَّرَ لنا ذلك في ما دَرَجَ عليه عددٌ من الروّاد المؤسِّسين. فقد انبرى جمْعٌ من فلاسفة الطبيعة وعلمائها في القرن الثامن عشر من كارل فون لينيه Karl Von Linne إلى هيغل (Hegel)، وإلى مَن تلاهُما من فلاسفة ومفكِّري الحداثة الفائضة، ليضعوا تصنيفاً هَرَميّاً للجماعات البشريّة، على مبدأ الأرقى والأدنى وجدليّة السيّد والعبد، الشيء الذي كان له عظيم الأثر في تحويل نظريّة النشوء والارتقاء الداروينيّة - على سبيل المثال - إلى فلسفةٍ سياسيّة عنصريّة في الأزمنة المُعاصِرة. أمّا أحد أكثر التصنيفات حدّةً للمُجتمعات غير الغربيّة، فهي تلك التي تزامَنت مع نموِّ الإمبرياليّات العابرة للحدود وتمدُّدها نحو الشرق، وتحديداً باتّجاه الجغرافيّات العربيّة والإسلاميّة. من تمظهُرات هذا التمدُّد على وجه الخصوص، ملحمة الاستشراق التي سَرَتْ كترجمةٍ صارخةٍ لغيريّةٍ إنكاريّةٍ لم تَشأ أن ترى إلى كلّ آخر حضاريٍّ إلّا بوصفه كائناً مشوباً بالنقص. لهذا ليس غريباً أن تتحوّل هذه الغيريّة الإنكاريّة إلى عقدة “نفسٍ حضاريّة” صار شفاؤها أدنى إلى المُستحيل. وما جَعَلَ الحالَ على هذه الدرجة من الاستعصاء أنّ العقل الذي أَنتج مَعارف الغرب ومفاهيمه، كان يعمل في أكثر وقته على خطٍّ مُوازٍ مع السلطة الكولونياليّة، ليُعيدا معاً إنتاج أيديولوجيا كونيّة تنفي الآخر وتستعلي عليه.

المسألة الأكثر استدعاءً للنقاش في هذا المَوضع، تتمثّل في التأسيس الميتافيزيقي لاستعلاء الفكر الحداثي حيال الغير. فقد كان للتنظير الفلسفي في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر مفعولٌ حاسمٌ في ترسيخ ثقافة الإقصاء وعدم الاعتراف بما قدَّمته الحضاراتُ غير الغربيّة من مَعارِف. وعلى سبيل التبيين، ثمّة من المؤرّخين مَن يعزو اختفاء أثر فلسفة آسيا وأفريقيا من صَرْحِ الفلسفة الغربيّة إلى تضافُر عاملَيْن:

الأوّل: الذهنيّة الحصريّة لبعض مدوِّني الفلسفة لمَّا عَمدوا إلى تظهير الفلسفة كخطٍّ ينتهي امتداده عند نقد المثاليّة الكانطيّة للميتافيزيقا.

العامل الثاني: التفكير الاستعلائي لدى مفكّري أوروبا وفلاسفتها الذين حَصروا الفلسفة بالعرق الأبيض. وممّا ينبغي أن يُذكر في هذا المنفسح ما انبرى إليه إيمانويل كانط حين قارَبَ مسألة الأعراق بتراتبيّةٍ هي أشبه بالطريقة التي قورِبت فيها كائنات الطبيعة. فلقد صنَّف كانط المجموعاتِ البشريّة وفق مَراتبَ وصفاتٍ يُمكن إجمالها كالآتي:
هذا هو رأي كانط الذي يُعتبر بداهةً من بين أشهر أربعة أو خمسة فلاسفة في تاريخ الغرب الحديث. سوى أنّ الأمر لم يقتصر عليه أو على مَن وافقوه على مدرسته من بعد، بل ثمّة مَن يؤيّد هذا الرأي من المُعاصرين الذين يجهرون بعدم وجود فلسفةٍ غير غربيّة، وأنّ الموروث الفكري لتلك الشعوب إنّما هو محض صدفةٍ تاريخيّة.

  • في المرتبة الأولى: يتّصف العرقُ الأبيض بحسب كانط بجميع المَواهب والإمكانيّات.
  • في المرتبة الثانية: يتّصف الهنود بدرجةٍ عالية من الطمأنينة والقدرة على التفلْسُف، وهُم مُفعمون بمشاعر الحبّ والكراهيّة، ولديهم قابليّة عالية للتعلُّم. وأمّا طريقة تفكير الهندي والصيني فإنّها تتّسم بحسب كانط بالجمود على الموروث، وتفتقد القدرةَ على التجديد والتطوير.
  • في المرتبة الثالثة: يتَّصف الزنوجُ بالحيويّة والقوّة والشغف للحياة، والتفاخُر، إلّا أنّهم عاجزون عن التعلُّم على الرّغم من كونهم يحوزون على قابليّة التدريب والتلقين.
  • في المرتبة الرّابعة والأخيرة: يأتي سكّان أميركا الأصليّون (الهنود الحمر)، وهؤلاء غير قادرين على التعلُّم ولا يتّسمون بالشغف، وهُم ضعفاء حتّى في البيان والكلام.

فلقد تشكّلت رؤية الغرب للغَير على النَّظر إلى كلّ تنوُّعٍ حضاريٍّ باعتباره اختلافاً جوهريّاً مع ذاته الحضاريّة. ولم تكُن التجربةُ الاستعماريّةُ المديدة في الجغرافيا العربيّة والإسلاميّة سوى حاصل رؤية فلسفيّة تُمجِّدُ ذاتَها وتُدنئ من ذات الغير. من أجل ذلك سنُلاحظ كيف أَنشأ فلاسفةُ الحداثة وعلماؤها أساساً علميّاً معرفياًّ لشرْعَنَةِ الهَيْمَنَة على الغَير، بذريعة تمدينه وتحديثه.

ما يُضاعِف من المعضلة المُشار إليها ظهور أعراضٍ مَرَضِيّة في مَسارات الحداثة الاستعماريّة يُطلِق عليها الباحثُ والمُفكِّرُ الأفريقي دودو ديان “أزمة هويّتيّة” (Crise Identitaire) عميقة الغور يعيشها العالَم الغربي المُعاصِر. تَبرز هذه الأعراضُ بشكلٍ خاصّ في التوتُّر الواضح بين تضخُّم مَوقفه المُرتبط بالحضارة الكونيّة، والطّابع المحوري الذي تتّخذه أزمةُ الهويّة فيه، وكذلك في علاقته ببقيّة العالَم، حيث تُختزلُ هذه العلاقة بالتسليع وإرساء الأمن وتعميم الطابع الإنساني، وفي قَلَقِهِ وضيقه الشديد حيال التنوُّع الثقافي والإثني والدّيني.

نحن هنا لسنا بإزاء مُشكلٍ معرفيٍّ مُستحدَث. فلطالما شكّل “العالَم الغربي الحديث” موضوعَ تساؤلاتٍ متعدّدةٍ حول وجوده وتعريفاتٍ شتّى لهويّته. فقد جرى استدعاءُ التاريخ والجغرافيا والدّين والثقافة إلى غيرها من العناصر من أجل تركيب الهويّة التي رأى العالَمُ الغربي نفسَه ورآه العالَم من خلالها. غير أنّ المفهوم الأنطولوجي الواقع في قلب تعريفه الذاتي، والذي استقت منه كلّ هذه العوامل معناها ومحتواها، هو مفهوم عالَميّة حضارته. لقد طَرَحَ الغربُ نفسَه عبر التاريخ كمفهومٍ عالَميٍّ، وبالتالي كنموذجٍ معياريٍّ وتعبيرٍ نهائيٍّ عن التطوُّر البشري. ولقد بدا بوضوح أنّ جغرافيّة الغرب الأوليّة التي تمثّلت تعييناً بأوروبا أعطت لنفسها “رسالة تحضيريّة (Mission Civilisatrice)”؛ ففي علاقة الغرب مع بقيّة شعوب العالَم، بَدَت عدساتُه الثقافيّة مع الوقت مصبوغةً برؤيةٍ عالَميّة. وهذا ما عُرف بـ “العالَميّة - المرآة”، التي تَعتبر أنّ «كلّ ما يُشبهني هو عالَميٌّ». وقد انبنتْ رؤيتُه التاريخيّة للغَيريّة على النَّظرِ إلى الآخر باعتباره كائناً مُختلفاً بصورةٍ جذريّة. وعليه راحَ فلاسفتُه وعلماؤه، ولاسيّما عُلماء الطبيعة، يُقدّمون أساساً عِلميّاً وفلسفيّاً لشرْعَنَةِ “رسالته التحضيريّة” وفق هرميّةِ الثقافات والأعراق والأجناس بحسب بعض علماء الاجتماع. فقد تبلْوَرَتِ “العالَميّة - المرآة” في الوعي التاريخي للغرب من خلال ثلاثة مجالاتٍ حديثة: حقوق الإنسان، والعمل الإنساني، والاقتصاد.

شيوع اللَّايقين

في إطار ديناميكيّة المركزيّة التاريخيّة التي نصَّبها نموذجُ الحضارة الغربي لنفسه، تكتسب عالَميّةُ حقوق الإنسان شرعيّتها بفعل السمة العالَميّة للنموذج الغربي نفسه. بمعنى أنّ الحضارة الغربيّة هي المكان الوحيد والمتميّز والحصري الذي تنبثق منه القيَم التي تُحدِّد المرحلة النهائيّة من التطوُّر البشري وتُعبِّر عنها. لذا صارت “الرسالة التحضيريّة” للغرب تعبيراً طبيعيّاً عن هذه الشرعيّة الأنطولوجيّة. وعلى هذا النحو من التنظير والمُمارَسة جَرَت ترجمةُ هذه الشرعيّة المدّعاة عبر خطبةٍ إيديولوجيّة تقوم على مسلّمتَيْن حول علاقة الغرب بالعالَم وهُما: الإيمان بعالَميّة القيَم الغربيّة، والمُماثَلة القطعيّة والتطابق بين حقوق الإنسان والقيَم الغربيّة.

تأسيساً على هاتَيْن المسلَّمَتَيْن، صار يُنظَر إلى أيّ معارضةٍ سياسيّة للقيَم الغربيّة على أنّها تشكيكٌ بعالَميّة حقوق الإنسان. ومن الوقائع الدالّة على ذلك استخدام الإعلان العالَمي لحقوق الإنسان كأداةٍ إيديولوجيّة تستهدف المُعارِضَيْن السياسيَّيْن التاريخيَّيْن للغرب وهُما: العالَم الشيوعي والعالَم الإسلامي المُستعمَر. ما تجوز الإشارة إليه في هذا الصدد أنّ نظريّة نهاية التاريخ التي أنتجتها النيوليبراليّة في نهاية القرن العشرين المُنصرِم، شكَّلت التعبير الأبلغ عن مفهوم “العالَميّة - المرآة” من جهة كَونها تسلّم بأنّ النصر الأيديولوجي النهائي سيكون للّيبراليّة السياسيّة والاقتصاديّة.

من هذا المحلّ بالذات ستُسهِم غيريّة الحداثة في توطيد الأساس المَعرفي والثقافي لفلسفة الإنكار التي توغّلت عميقاً في الحقلَيْن الأنطولوجي والتاريخي لثقافة الحداثة، الأمر الذي أفضى إلى تحويل الغرب الحديث إلى حضارةٍ إمبرياليّة شديدة الوطأة على العالَم كلّه.

فلقد عُدَّتِ الحداثة الغربيّة في المُخطَّط الأساسي للتاريخ وفي الإيديولوجيّات الحديثة، وحتّى في معظم فلسفاتِ التاريخ بوصفها الحضارة الأخيرة والمُطلقة، أي تلك التي يجب أن تعمّ العالَم كلّه، وأنْ يدخلَ فيها البشر جميعاً. في فلسفة القرن التاسع عشر يوجد من الشواهد ما يُعرِب عن الكثير من الشكّ بحقّانيّة الحداثة ومشروعيّتها الحضاريّة. لكنّ هذه الشواهد ظلّت غير مرئيّة بسبب من حجْبها أو احتجابها في أقلّ تقديرٍ، ولذلك فهي لم تَترك أثراً في عجلة التاريخ الأوروبي. فلقد بدا من صريح الصورة أنّ التساؤلات النقديّة التي أُنجزت في النصف الأوّل من القرن العشرين، وعلى الرّغم من أنّها شكّكت في مطلقيّة الحضارة الغربيّة وديمومتها، إلا أنّها خلت على الإجمال من أيّ إشارةٍ إلى الحضارات الأخرى المُنافِسة للحضارة الغربيّة. حتّى أنّ توينبي وشبنغلر حين أعلنا عن اقتراب أجلِ التاريخ الغربيّ وموته، لم يتكلّما عن حضارةٍ أو حضاراتٍ في مُواجَهة الحداثة الغربيّة، ولم يكُن بإمكانهما بحث موضوع الموجود الحضاري الآخر. ففي نظرهما لا وجود إلّا لحضارةٍ واحدةٍ حيّة ناشطةٍ هي حضارة الغرب، وأمّا الحضارات الأخرى فهي ميّتةٌ وخامدةٌ وساكنةٌ...

ليس من ريب أنّ هذا المستوى من النقاش وإنْ كان لا يزال مُنحصراً في بيئاتٍ محدودة في المُجتمع الثقافي الغربي، فإنّه يكشف في الواقع عن وعودٍ بانعطافاتٍ كبرى في بنية العقل الغربي حيال مجمل العلاقة بين الإيمان الديني والثورات العلميّة المُعاصِرة؛ ولعلّ ما يُضاعِف من تحقُّق هذه الوعود المُراجعات الفكريّة لثوابت النظام المَعرفيّ العالَمي، كما يدلّ عليه أيضاً المُستحدث حول دخول العالَم الغربي في ما سمّي بـ “حقبة ما بعد العلمانيّة” وعودة أسئلة الدّين لتحتلّ حيّزاً وازِناً من حلقات التفكير. وما من ريبٍ فإنّ هذه اللّهفة إلى اليقينّة ليست سوى مُحاولةٍ لملء الفراغ الثاوي في قلب التجربة الحديثة.

*مفكّر وباحث في الفلسفة الحديثة – لبنان - مؤسسة الفكر العربي