حولَ "التّدَخُّليّة" والفِطَام عن الدّولة
نبيل علي صالح*
من أهمّ المثالب التي تصبغ بِنية مُجتمعاتنا بلونها الأسود الكالح، أنّ هذه المُجتمعات نادراً ما ترى أبعد من ذاتها ورغباتها، بل وترفض النقد العِلميّ الموجَّه لنقائصها وثغراتها، وتَعتبر قَول الحقيقة - أو مجرّد الإشارة إليها - خيانة ونكوصاً، وربّما أفظع بكثير من شتْم المقدّسات الدينيّة..
وهنا يطلُّ السّؤال، أنّه هل يمكنُ - في ظلّ هكذا مناخ سلبيّ تعيشُ فيه مُجتمعاتنا مغموسة بعواطفها وانفعالاتِها الأولى - أنْ تنشأ دولٌ مدنيّة عصريّة مؤسَّسيّة تنظّمُ أمورَها بالعقلِ والقانون والحالة المؤسّسيّة، (وليسَ بالتّقليد والعُرف وأحكام "الضّرورة" والتّعاميم الفوقيّة)، تمنحُ الفردَ حقوقه، وتعطيه طاقةَ الدّفع للفعل والحضور والإبداع؟!..
لقد كانت الدولة التحديثيّة العربيّة - التي تشكّلت وتظهّرت عمليّاً بعد عهود الاستقلال "الشّكلي!" عن الاستعمار الخارجي - دولة أيديولوجيّة خلاصيّة غير مدنيّة، بل بنتْ مشروعيّتِها المُجتمعيّة والسياسيّة على أفكار ومَفاهيم تُناقِض مدنيّة المُجتمع وعيش أبنائه الآمن والحرّ والمستقرّ، وهذه الأفكار العمليّة هي العسكرة والعنف الثوري وتحييد المُجتمعات ومنْعها من الحصول على حقوقها وحاجاتها، بما يعني أن تبقى رهينةَ معاشها وخبزها اليومي وكفاف عيشها الأوّلي، دونما أُفق لغدٍ مدني تنموي فاعل ومُنتِج يعطيها أماناً وحضوراً ودَوراً ومُشارَكة فاعلة.. وسبب الفشل هو أنّ نخب الدولة العربيّة تلك حكموا مُجتمعاتهم بالقوّة والاستعباد والفساد والاستبداد، هيمنوا عليها بالعنف العدمي والقوّة الباطشة الرعناء، مُفتقدين بذلك لعنصرَي الكفاءة (اللّازمة) لإقلاع التنمية، والشرعيّة (المطلوبة) للغطاء السياسي الطوعي..!!.
ونتيجة لذلك خاف الناس من تلك الدولة المتغوّلة عليهم، وابتعدوا مُرغمين عنها، والخوف ولَّد عندهم التكوُّر على الذّات، والانغلاق على الهويّات، وعدم السير مع مُقتضيات تلك الدولة بسبب قهريّتها وعدم الانسجام مع معاييرها ومحدّداتها، بل اندفعوا للعودة الجوانيّة إلى الأصول العتيقة والماضي البعيد كملاذات (هوياتيّة) حمائيّة آمنة.. فامتنعوا واستنكفوا - كنتيجة لما تقدَّم - عن الانخراط الطَّوعي والمُشارَكة الطوعيّة الفاعلة في مختلف أعمال البناء والتنمية الإنسانيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، التي بقيت نخبويّة فوقيّة مُفارِقة لا قاعدة مجتمعيّة جماهيريّة لها.
الأساس في الموضوع إذاً هو عجز الدولة التحديثيّة العربيّة عن النفاذ الطبيعي الآمن والهادئ والسّلمي الطبيعي إلى المُجتمع الأهلي، لإقناعه بأولويّاتها وخياراتها ورؤيتها التطويريّة، وبناء شرعيّتها من خلاله، ودفْعه للفعل والإبداع والحضور في العالَم والعصر..
لقد سعت الدولةُ التحديثيّة العربيّة إلى الزّجِّ بأفراد مُجتمعاتها في أتون مشاريعها التنمويّة الفوقيّة - التي اعتبرتها مَعارك صراعيّة - بلا تأهيل حقيقي كان من المفترض به أن يقوم على العِلم والمَعرفة والمَهارات النوعيّة والخبرات والكفاءات الحقيقيّة.. بل ألغت مَواهِب الفرد لمصلحة منظوماتها السياسيّة ومُركّباتها الأمنيّة العسكريّة وشبكاتها الزبائنيّة، حيث قسرت الواقع المتغيّر لمصلحة مقولاتها الراسخة وشعاراتها الثابتة..
لقد كان من المُفترض بديهيّاً وعقلانيّاً أن تقوم الدولة - في ما يخصّ تنمية الفرد - بتهيئة مناخ العمل وتوفير أجوائه القانونيّة والحقوقيّة والعمليّة، لا أن تدخل وتتدخّل في حياته وأعماله وخصوصيّاته، فتجعله يعمل ويجتهد، يتدرّبْ وينمِّي قدراته وطاقاته ويشتغل على مواهبه وتنمية ملاكاته الذاتيّة لكي لا يكون هذا الفرد عالةً على نفسه ولا عبئاً على أحد، ولا حتّى على الدولة التي لها، كما قلنا، مهمّة واحدة تتقوّم هي بها، وهي تأمين الجوّ العامّ، وتوفير البيئة المُلائمة والقاعدة القانونيّة للعمل والإنتاج وخلْق أجواء التنافُس الحقيقي المؤدّي للجودة.. وليس وضْع اللّقمة في فَم الفرد والأفواه الجائعة. والحكومات التي انبثقت من تلك الدول ذات التوجُّه "الثّوري"، قصّرت كثيراً في هذا الجانب أيضاً (بطبيعة الحال)، لأنّها لم توفِّر كما ذكرنا الأرضيّة والمناخات العمليّة للتنافسيّة والتشاركيّة بمعناها الاقتصادي التنموي الحقيقي؛ حتّى اعتاد الناس على الاسترخاء والاتّكاليّة و"الكسلنة"، من خلال سعيهم الدائم للوظيفة (الرسميّة) فيها (تأمين وظيفة في مؤسّسات الدولة وأجهزتها الإداريّة الفضفاضة) بأيّ ثمن وبأيّ شكل ووسيلة، وانتظارهم للراتب والخبز والمحروقات من تلك المؤسّسات.
كان يُفترض - ليس اليوم بل منذ زمن - تدريب الناس على الفطام من "ضرع" الدولة، أو الحكومة، والتخلُّص من فكرة أنّ الدولة أو الحكومة هي "الأمّ الحنون" للمُواطن. والانتهاء من واقع الاعتماد الكلّي عليها. وبرأيي لو حدث هذا ما كنّا وصلنا - في تلك المُجتمعات والدول الشموليّة - إلى كوارث اقتصاديّة لاحقة ظهرت خلال الأزمات التي مرّت بها تلك الدول.
من هنا:
عليك كفرد امتلاك روح المُبادرة والمُبادأة. و"الدولة - الحكومة" هي التي تعطيك الأُسس والمُنطلقات، من خلال تأمين قواعده، وتأسيس متطلّباته فقط. هذا هو قانون الطبيعة وليس قانون البشر فقط. فالعصفور الصغير يطعمه أبواه حتّى يشتدَّ عودُه ليصبحَ قادراً على الطيران والصيد وتأمين الأكل وبناء حياة جديدة مع شريكة حياته المُقبلة. فتراه يقفز من عشّه (وفي أحايين كثيرة تدفعه أمّه من العشّ دفعاً في مشهدٍ معبِّر للغاية) لينطلقَ في رحلةِ الحياة مُبادِراً بعد اكتمال قواه. وهكذا يجب أن تكون حياة البشر، حيث يولد المرء، تؤمّن له فرصُ الحياة ليقوى عوده ويشتدّ ساعده وينمو عقله وتفكيره، وتتوسّع مَداركه، وتبدأ رحلة الحياة معه، وهو أساسها وعمودها في اجتهاده وتنميته ومدى امتلاكه مفاتيح العمل لتحقيق الازدهار والسعادة.
وهذا هو الذي سيحقِّق للدولة لاحقاً - عندما ينخرط الفرد - المُواطِن في العمل والإبداع والإنتاج - حالة اكتفاءَ من كلّ شيء. وهذا الاكتفاء - اكتفاء المُجتمع بحاجاته - هو الذي يُشعر ناسه بالاستقرار والأمان الحقيقي، وأيضاً هو الذي يحضّهم على البناء والتشاركيّة ويدفعهم لبذل الجهد في سبيل تحقيق الإنتاج الحقيقي وصيانته وتطويره، والتفكير بمستقبلهم والتفرُّغ لتحقيق مزيدٍ من التطوّر والازدهار والرفاهيّة لهم ولأولادهم. لكنّ الاكتفاء لا ينطلق ولا يتجسّد من دون:
1- مؤسّسات سياسيّة وعمليّة فاعلة عقلانيّة رشيدة.
2- قانون سيّد على الجميع من دون استثناء لفردٍ أو مَوقعٍ أو جهة.
3- حقوق متحقّقة ومُصانة، تحميها القوانين والوعي المُجتمعي المَدني (هيئات - مؤسّسات منظّمات مدنيّة).
وعلى هذا الطريق، أعتقد أنَّ أبرزَ التحدّيات والأولويّات التي تواجهُ المُجتمعات العربيّة والثقافة العربيّة والإسلاميّة والفرد العربي والمُسلم، تكمن في أولويّة وتحدّي "توطين المعرفة" وإنتاجها محليّاً وذاتيّاً، أو ما يُطلق عليه "فلسفة العلوم" ومُحاولة إيجاد علاقة معرفيّة وفلسفيّة مُنتِجة بين الثقافة العربيّة الإسلاميّة السائدة على سلوكيّات الأفراد عموماً، وبين مُجمل النتاجات والمُنتجات والمُكتسبات والاختراعات والمُكتشفات والتطوّرات العلميّة التي تمكِّن الإنسان من الوصول إليها، ومُحاولة تبيئتها محليّاً، أي إيجاد بيئة وفضاء ثقافي وأرضيّة معرفيّة عربيّة إسلاميّة تكون هي مُنتِجة ذاتيّاً للعِلم والمَعرفة العِلميّة الخصبة والثريّة، ليس من زاوية القدرة على تحقيق الاستجابة النوعيّة الفاعِلة على مُجمل التطوّرات العِلميّة الحاصلة باستمرار في صميم وجود وحركة المُجتمع الإنساني فحسب، بل في الأصل: امتلاك المَعايير والنُّظم البنيويّة المؤسِّسة لحالة الإنتاج العِلمي نظريّاً وعمليّاً، والمولِّدة والصانِعة للعلوم ذاتها، لا أنْ تكتفي تلك الثقافة فقط وحتّى الآن بلعْب دَورِ المتلقّي والمُنفعِل والمُستجيب قسراً وغصباً لتلك التطوّرات العِلميّة الهائلة في عُمق المَعرفة العِلميّة الإنسانيّة على مستوى العِلم النظري والعِلم العملي فِكراً وتجربةً وإنتاجاً.
وتقدِّم لنا كثيرٌ من مراكز الأبحاث العربيّة والدوليّة في إحصائيّاتها وبياناتها السنويّة والنصف سنويّة، أرقاماً ومعدّلاتٍ مُنخفضة مُخيفة حول ضُعف الإنتاج المَعرفي العِلمي العربي، بما فيه انخفاض نسبة إسخام العرب في ساحة الإنتاج العِلمي والمعرفي العالَمي، بما يؤشِّر على وجود تناقُص كارثي رهيب في هذا المجال المهمّ لتطوُّر الدول والمُجتمعات.
بالطبع، هذا التناقُص - في هذا الموضوع الحيويّ والخطّي - ليس ابن اللّحظة الرّاهنة، بل هو وليد أزمان سابقة، ومحصّلة لتراكُم سنوات وعقود طويلة من حالة اللا إباليّة الرسميّة تجاه كلّ مَواقع مُجتمعاتنا العربيّة وشؤونها، بما فيها العِلم والمَعرفة والإنتاج.
ونحن إذا استمرّينا على هذه الحال، فسنبقى نشتري الحضارة العِلميّة والتقنيّة من الآخر الأقوى علميّاً ومعرفيّاً، وسنبقى مُحتاجين له وتابعين لقوّته العِلميّة، ولاكتشافاته واختراعاته، وبالتالي سنُستبعَد كليّاً من مَواقع الإنتاج المَعرفي العِلمي والتكنولوجي العالَمي وساحاته قريباً جدّاً، لأنّ العالَم يسير بسرعة مطّردة عِلماً ومَعرفة وإنتاجاً عِلميّاً ومَعرفيّاً ومعلوماتيّاً، ونحن نكاد لا نلحق به، ولا نتحرّك إلّا مُراوَحةً في المكان، فنحسب أنّنا نتحرّك معه.
*كاتب وباحث من سوريا - مؤسسة الفكر العربي