أيّ أميركا يَسعى إليها ترامب؟

منصور مبارك المطيري*
السؤال الكبير الذي بات يشغل الكثيرين في العالَم، إنْ على مستوى الساسة أو الخبراء أو المُثقّفين أو العامّة، هو: ما الوجهة التي تَنتهجها الولايات المتّحدة الأميركيّة راهناً؟ وقد بدا أنّ اليمين المتطرّف قد علا نجمه، وبات ممثّلوه في الحزب الجمهوريّ هُم الأشدّ قوّة، والأعلى صوتاً في الساحة السياسيّة. وتَرافَق ذلك مع تراجُع صورة أميركا بوصفها المعقل الأوّل للتنوير ودولة القانون وحقوق الأفراد والدمقْرَطَة الرّاسخة.
ربّما ليس دقيقاً القول إنّ هذه الظاهرة بَدت تباشيرُها مع انطلاق الحملات الصاخبة للرئيس دونالد ترامب خلال الثماني أعوام الماضية، وانتشار شعارَيْ "لنجْعل أميركا عظيمةً مرّةً أخرى" و"أميركا أوّلاً"، ووجَدت تعبيرَها الفجّ في اجتياح حفنة من مناصري الرئيس ترامب مبنى الكونغرس في العام 2021، بل جذورها ضاربة في زمنٍ أبعد من ذلك. ففي عقد الثمانينيّات من القرن الماضي اعترتِ السياسةَ الأميركيّة تغيّراتٌ عاصفة بَدت وكأنّها أشبه ما تكون بنهرٍ هائجٍ يستحيل التنبّؤ بمَساره ومعرفة حدود حركته. وقتذاك لم يَقف خلفَ هذه التغيّرات ثلّةٌ من الخبراء أو جماعةٌ من المفكّرين يستندون إلى أيديولوجيا بعيْنِها بقدر ما كان مُحرّكها قوىً صغيرة فاعلة ومُتفاعِلة على مستوى القواعد الشعبيّة.
والمآلات التي انتهت إليها السياسةُ الأميركيّة حاليّاً، بما في ذلك صعود نجْم الرئيس ترامب نفسه، لا يُمكن فهمها على نحوٍ دقيق من دون استكشاف طبيعة هذه القواعد الشعبيّة ونسيجها الاجتماعي. والخطوة الأولى لتحقيق ذلك تتمثّل في تقصّي بدايات الانحراف الحادّ نحو اليمين في معقل الحزب الجمهوري نفسه، وتحديداً في عهد الرئيس السابق رونالد ريغان (1981 - 1989). في تلك السنوات طفتْ على السطح سلالةٌ جديدة من الساسة اليمينيّين، كان أكثرهم سطوعاً نيوت غينغريتش، الذي كان وقتذاك حاكماً لولاية جورجيا.
قاموس غينغريتش السياسي المتقشّف يُمكننا اختصاره في الدعوة الدائمة إلى تقليص دَور الدولة، والإعلاء من قيَم العائلة والدّين في الفضاء العامّ. ولكنّ هذا لم يكُن مصدرَ قوّة هذا السياسيّ الغليظ الطّباع، وإنّما هي بفضل البضاعة الجديدة التي جَلَبَها إلى الساحة السياسيّة والتي تعتمد الترهيب كأداةٍ سياسيّة، سواء من خلال رسْم صورة قاتمة للبلد أم التهويل من خطر الانحدار الاجتماعي، وهي سياسات سوف يَقترضها ترامب لاحقاً. وبالإمكان تلخيص المُمارسات السياسيّة لغينغريتش بوصفها ضَرباً من الهجوم بلا هوادة على الخصوم، وإلحاق الأذى بهم بكلّ الوسائل المُتاحة دونما أدنى اعتبار لأصول اللّياقة وأدبيّات الخصومة السياسيّة. وللحقّ، فإنّ خصوم غينغريتش الديموقراطيّين في مجلس النوّاب لم يتردّدوا في وصْفِه علانيّةً بالرجل الذي جَعَلَ العملَ السياسي ومسلكيّات الأوباش وَجْهَيْن لعملةٍ واحدة.
ويُشاع أنّ غينغريتش في أواخر فترة الرئيس الأسبق رونالد ريغان جَعَلَ هذا السلوك مُمنْهَجاً ومدروساً من خلال إشرافه على إعدادِ كرّاسٍ تَضمَّن مجموعةً من الطرائق التي توضح لأعضاء الحزب الجمهوري وأنصاره كيفيّة التصدّي لخصومهم من خلال استعارة أوصافٍ ونعوتٍ تضمَّنها الكرّاس ووصَمهم بها، فضلاً عن أساليب تُستخدم في المناظرات والمؤتمرات الصحافيّة وغيرها، تَجعلهم قادرين على الحطّ من شأن خصومهم وتخوينهم بشكلٍ واضح. وكانت تلك مُمارَسةً مستجدّة وغير مسبوقة في الساحة السياسيّة، فَجَّرت أفكارَ التوافق والمُساوَمة وجَعلتِ الكلمةَ الفصل لسياستَيْ الإقصاء والنَّبْذ.
الثورة السياسيّة للمُحافظين
كان غينغريتش ماهراً في أبْلَسة خصومه وجعْلهم يبدون كقوّة مُناهِضة للحلم الأميركي؛ ومشروعه لنشْر الشعبويّة دقَّ مداميكَه الإعلاميّة مع بدء قناة "سي - سبان"، مع بثّ وقائع جلسات مجلس النوّاب تلفزيونيّاً للمرّة الأولى. وقتها انتهزَ غينغريتش مع صحبهِ تلك المنصّة في كَيْل الاتّهامات والأكاذيب لخصومهم. وانحدرتِ المُمارسةُ السياسيّة حينما قام هو وصحبُهُ بخدعةٍ بسيطة من خلال استغلال القناة في توجيه خطابات زاخرة بالأغاليط ووسائل التحريض من قلب الكونغرس، ولكن بعدما تَفرغ القاعةُ من الحضور، مُستفيدين من حقيقةِ أنّ البثّ يجري بواسطة كاميرا واحدة مُثبتة على المتحدِّث ولا تَنقل صورة القاعة الخالية من الحضور.
هذه وغيرها من الألاعيب وَجَدَها قطاعٌ عريض من الجمهوريّين أنفسهم ضَرباً من الحماقة وتلويثاً للسياسة، غير أنّهم بادروا إلى تبنّي تلك المُمارسات عندما ألفَوا غينغريتش يرتقي زعامةَ الحزب الجمهوري ويغدو السياسي الأكثر قبولاً في أوساط القاعدة الجماهيريّة.
في فترة حُكم بيل كلينتون (1993 - 2001) تبوَّأ غينغريتش زعامةَ الحزب الجمهوري في مجلس النوّاب، وقادَ هذا الحزب إلى انتصارٍ كاسح في الانتخابات التشريعيّة. واللّافت أنّ تلك كانت هي المرّة الأولى التي يَنتزع فيها الجمهوريّون نصراً كبيراً في مجلس النوّاب منذ أربعين عاماً. وَضَعَ غينغريتش في الثمانينيّات والتسعينيّات من القرن الماضي اللّبنات الأولى في الثورة السياسيّة للمُحافظين، وهي ثورة كان لها وجهٌ قانونيّ ودارَتْ رحاها في الميدان القضائي حين وَضَعَ الجمهوريّون نصبَ أعينهم السيطرةَ المُطلقة على المحكمة العليا، والتي تُعَدّ معقلاً لسلطةٍ جبّارة. فالقُضاة الذين يتمّ انتخابهم لعضويّة المحكمة العليا لهم دَورٌ كبيرٌ في تقرير الكيفيّة والسرعة والوجهة التي يَسير بموجبها المُجتمعُ الأميركي على نحو ما أبانته صراعاتٌ اجتماعيّة على الرأس منها حقّ المرأة بالإجهاض.
احتدَّ الصراع في حلبة القانون منذ الثمانينيّات، وتَمثَّل اليمين المتطرّف في منظّمةٍ جرى تأسيسها لهذا الغرض سُمّيت بـ "الجمعيّة الفيدراليّة"، والتي ظهرتْ للحياة في الثمانينيّات على أيادي الطلبة في كليّات الحقوق في جامعتَيْ ييل وشيكاغو، وكانت الحاضنة الرئيسة لها وزارةُ العدل في حكومة ريغان، وتَزعَّم هذه الجمعيّة قطبٌ من أقطاب اليمين الدّيني يُدعى ليونارد ليو حيث عملَ بدأبٍ، ولمدّة ربع قَرنٍ، على صبْغِ الجهاز القضائي بالسِمة اليمينيّة، وبلغتِ الجمعيّةُ ذروةَ جبروتها مع مجيء ترامب وانتصار الأيديولوجيّة المحافظة؛ بحيث بات اصطفاء القضاة للمحكمة العليا منوطاً بها حصراً. وحصدَ ترامب نظير ذلك التحالُف ما يُقارب ربع أصوات اليمين الدّيني في انتخابات العام 2016، وهو الأمر الذي جَعَلَ القسط الأعظم من قُضاة المحكمة العليا أعضاءً بارزين في الجمعيّة الفيدراليّة، وباتت كفّة المُحافظين فيها هي الراجحة.
على المستوى الشعبيّ، كان "حزبُ الشاي" عند ظهوره في العام 2008 أوَّلَ حراكٍ واضحٍ لجنوح الحزب الجمهوري نحو التطرُّف، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتّى أَخذ "حزبُ الشاي" بتحويل قواعد الحزب الجمهوري إلى مزاجٍ عامّ يُجسّده بشكلٍ فاقع الرئيس ترامب. السواد الأعظم من مُناصري "حزب الشاي" هُم أنفسهم مَن جمعهم شعارُ "لنجْعل أميركا عظيمةً مرّةً أخرى". فقد سادَ الحنقُ والتبرُّمُ القاعدةَ الشعبيّة من مشروعاتٍ مثل انتشال البورصة الأميركيّة من أزمتها الماليّة والسياسات الفاشلة للرئيس الأسبق باراك أوباما في الاقتصاد والصحّة والضريبة. في تلك الفترات الحَرجة كان "حزبُ الشاي" يتعاظم تأثيره جرّاء التغذّي من مخاوف على رأسها القول إنّ ثمّةَ تغييراً عظيماً أَصاب بنية المجتمع الأميركي وشكَّل تهديداً للعِرق الأبيض بوجهِه البروتستانتي. وكان التهديدُ المذكور غير مسبوق في التاريخ الأميركي. فهذه الطبقة التي تبوَّأت هَرَمَ المؤسّسات الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة لأكثر من مئتَيْ عام، أَلفت نفسَها تَضعف وتَخسر أغلبيّتها الانتخابيّة، ومن ثمّ تسقط من قمّة الهَرَم الاجتماعي.
بالنسبة إلى مُشايِعي "حزب الشاي"، كان ذلك تهديداً ذا طبيعةٍ وجوديّة، ما دَفَعَ عشرات الآلاف من مُناصري حزب الشاي إلى الشارع وصناديق الاقتراع. وتُرجمت هذه الفورةُ اليمينيّة في عودةٍ ظافرة لمجلس النوّاب في العام 2010. ولمعَ نجْمُ ترامب في خضمّ هذا الحراك الكبير، فالمُستثمِر العقاريّ الشغوف بالإعلام والنجوميّة عَقَدَ تحالفاً مع محطّة "فوكس" الإخباريّة ذات الهوى اليميني، أَتاحَ له التقرُّب من قاعدة "حزب الشاي". وشرعَ ترامب باستعادة سياسات غينغريتش في ترهيب مُنافسيه الجمهوريّين وخصومه الديموقراطيّين، وبلغت تلك السياسة مستوياتٍ فجّة جَعلتِ المُرشَّحَ السابق للرئاسة وأبرز شخصيّات الحزب الجمهوري، مثل ميت رومني، يُخصِّص فصلاً بأكمله من مذكّراته "جردة حساب" للحديث عن ترامب، والقول إنّه لا يتورَّع عن اقترافِ أيِّ فعلٍ في سبيل المال والسلطة، وإنّ ما دَفع خصومه للنأي بأنفسهم عن مواجهته لم يكُن الجُبن السياسي، بل الخوف على سلامتهم وصوْن مستقبل عائلاتهم. ولهذا السبب ستكون فترة حُكم الرئيس ترامب مفصليّة في التاريخ الأميركي المُعاصِر والعالَم كذلك.
*كاتب من الكويت
🔻 تعليق (بتوقيع BETH):
في زمن التحولات الكبرى، لا تُقاس الخطورة بشخص الرئيس… بل بمزاج القاعدة التي صنعت صعوده.
أميركا التي يُروّج لها ترامب، ليست فقط شعارًا انتخابيًا، بل رؤية مقلقة تُعيد تعريف الهوية الأميركية من منظور "استعادة التفوق"، لا بناء التنوع.
ومتى ما غلبت رواية الخوف على مشروع الأمل، باتت الديمقراطية في خطر… حتى داخل أكثر ديمقراطيات العالم عراقة.
📌 BETH – السياسة تُفهم من جذورها… لا من فُجرتها.