النصّ الأنثويّ وجدليّة البَوْح والصَّمْت

د. سوسن ناجي*
تنطوي كتاباتُ المرأة على استراتيجيّاتٍ نصيّة تتضمَّن رسالةً أشبه بلُعبةٍ نصيّة لا تقلّ أهميّةً في شَكلها عن مضمونها، فالذّات الأنثويّة حين تُدوِّن سيرَتَها الذاتيّة أو يوميّاتِها، أو مذكّراتِها، أو حين تَكتب رسائلَها بلسانِ الأنا، تُصبح هي نفسها موضوعَ الحديث ومادّته؛ بمعنى أنّها تكون حينئذ في علاقةٍ أشْبه بتجربة الإنسان أمام المرآة التي تَعكس صورةَ الإنسان الشاخص أمامها، حيث يُصبح حينها شاهِداً ومشهوداً، أو رائياً ومَرئيّاً في آن واحد.
لكنّ تجربةَ المرأة هذه لا تخلو من المُراوَغة في إطارِ وعيِها بأزمة الذّات في اشتباكها مع المُجتمع، أَضِف إلى ذلك أنّ هذه الذّات عندما تَكتب نفسَها لا تَكتب لنا ما جرى، وإنّما ما خَبرتْ أنّه جرى، وأحياناً ما توهَّمت أنّه جرى. وكلّما اختفى الشهود، أو كلّما أَوْهَنَ الزمنُ ذاكرةَ الأحداث، أَطلقت لنفسها العنان؛ فنحن هنا بإزاء نَوعٍ من الإبداع الأدبي تَخضع لغتُهُ لمشاعر قد تنطوي على تخييلٍ وإيهام…
وتُقرّ الكاتبةُ المصريّة آمال مختار في شهادتها بهذه الإشكاليّة فيما هي تَكتب سيرتها، فتقول: "هل نَنجح حقّاً في فصْلِ الذّات عمّا نَكتب، هل نَقدر على صنْعِ مسافةٍ بيننا وبين الحياة الأخرى التي نسعى إلى خلْقها على الصفحات، هل نجرؤ على كتابة الذات كما هي؟! هل نجرؤ على السيرة الذاتيّة فنكتبها بلا مُخاتَلةٍ ولا مُراوَغة؟"، وتجيب بكلّ اطمئنانٍ أنّ الإخلاصَ في تنفيذ العمليّتَيْن غير مُمكن.
وتقول الكاتبة المصريّة عفاف السيّد في حديثها عن روايتها "السيقان الرفيعة للكذب": "بل هي سيرة ذاتيّة، أنا أكتب عن نفسي... أتّفق معهنّ في أنّنا لا نَكتب عن المشكلات، ولكنّنا نَكتب عن ذواتنا".
لكنّ الكاتبة لطيفة الزيّات تقول: "وحين نطعن في السنّ نُسقِط الكثير من التحفّظات عن الذّات، وتواتينا الجرأة على وضْعِ هذه الذّات مَوْضِعَ التشريح الدّامي والموجِع، ولا تواتينا الجرأة في مِثل هذه السنّ المتقدّمة، إلّا إذا واتانا النضوج، ومع النضوج التصالُح مع الذّات، واندراج مسار هذه الذّات في عقْدٍ منظوم".
فالذاتيّة هنا ليست مُرتكَزاً نسويّاً فحسب، بل هي الخروج من الصمْت، واسترداد ذاكرة الكلمات؛ ذلك لأنّ الصمْت لا يُعَدّ انعكاساً مباشراً لمكانة النساء أو دورهنّ في المُجتمع. وهذا ما دفعَ "جاك لاكان" إلى تأكيد أنّ الهويّة مَبنيّة بالطريقة نفسها التي تُبنى بها اللّغة، وأنّ اللّاوعي مَبنيٌّ هو الآخر وفْقَ منطق العلاقات السياقيّة التي تتوالد بها المعاني من خلال عمليّات الإرجاء والإزاحة.... وقد كشفَ "جاك ديريدا" أنّ كلّ مقولاتنا تنطوي في تضاعيفها باستمرار على الكثير ممّا نغفل عنه، أو نكون منه على درجاتٍ واهنة من داخل الوعي به، ربّما لأنّ ذلك كلّه يسري في دمِ الكلمات إذا جاز التعبير.
وتقول لطيفة الزيّات: في الشيخوخة: "تأتّى عليّ أن أستعيد الكلمات لأَبنيَ من جديد لغتي... أصارع لكي لا يغيب خبري عن مبتدأي، لكي لا تغيب عنّي ذاكرتي... تأتّى عليّ أن أكون".
فالذّات هنا تتخلَّق من خلال شبكة علاقات القوى، وتتبلْوَر من تخلُّل هذه الشبكة لكلّ مكوّنات هويّتها، الأمر الذي أطاح بمركزيّة الذّات وزَعْزَعَ استقرارَها، ويقيناً من هويّتها المتماسكة، وكلّها أكَّدت على سيولة هذه الذات، بل وحركيّتها وتناقضها في استمرار.
وتقول أحلام مستغانمي في حديثها عن روايتها "ذاكرة الجسد": "إنّ كلّ رواية أولى هي بالدرجة الأولى سيرة ذاتيّة، ولذلك فإنّني لم أَبتعد عن نفسي، فهذه المرأة هي أنا بحماقاتي ونزواتي، بتطرُّفي في العشق.. هذه المرأة هي أنا بكلّ ما أحمل من تناقضات".
فمنازل الذّات لا تتحقَّق تدرُّجاتُها، وصورُها، وأنماطُ تمرُّدِها وخروجها على المُجتمع إلّا بالكتابة، تقول القاصّة" نورا أمين" في "قميص ورديّ فارغ": "أحياناً أتجاوز التاريخ، أتجاوز التقاليد والصورة التي ينبغي أن أكون عليها. أَنتزع ذاتي من الجبّ العميق. أحبّكَ كما أريد. وأُحقِّق ذاتاً صلبة مُطلَقة... ربّما أكون في طريقي إلى هذا الآن بالكتابة".
ستَكتب حتّى من القَبر
لكنّ الذات أو الهويّة الفرديّة تنبني بطريقةٍ رمزيّة على أساس رغباتنا ودوافعنا النفسيّة المُراوِغة، والتي تعمل وفْقَ منطقٍ مُغاير للمنطق العقلاني الصارم؛ فعمليّات الوعي مُراوِغة وغير واعية، لها منطقها الرمزي وبنيتها العميقة المُغايرة لبناء التسلْسُل السببي المنطقي. وقد تطوَّرت هذه النظريّة النفسيّة بشكلٍ كبير على يدِ عالِم النفس الفرنسي "جاك لاكان" الذي كشفَ عن الطبيعة المُتشظّية للذات الإنسانيّة؛ فقد بَرْهَنَ "لاكان" على أنّ وعي الذات بذاتِها يتمّ من خلال صيرورةٍ تتّسم بالصعوبةِ والتعقيد. فالذّات ليست جوهراً مُعطى. ولكنّها شيء يكتشفه الطفلُ ويتعلّمه من خلال التفاعُل مع الآخرين، وهو ما يُسمّيه "لاكان" "مرحلة المرآة" التي يرى فيها الطفلُ نفسَه في المرآة فعليّاً أو استعاريّاً للمرّة الأولى كآخر.
تقول القاصّة سميّة رمضان في "أوراق النرجس": "التفتْتُ فالتقطْتُ وجهي في المرآة، مياه المرآة متعرّجة، تتماوَج، تتطلَّع إليّ، تراوغني كالزئبق، أراها ولا أراها. ألمحُ البورتريه الذي رسَمه لي فنّانٌ قدير، أنظر إلى وجهي في اللّوحة الزيتيّة وأراني أغمز لنفسي وأَبتسم..".
هكذا يفرز حديثُ "الأنا" موروثاً سرديّاً ثريّاً يتنوَّع بقدرِ تنوُّعِ بصمة الذّات، وهذا التنوُّع يُضفي بظلاله التخييليّة تنوُّعاً على السيرة الذاتيّة للكاتبات. فقد نَجِدُ جوانبَ من السيرة الذاتيّة في ذكرياتٍ أو يوميّاتٍ أو شذراتٍ مُعاشة، أو شهاداتٍ، أو مقابلاتٍ كاشفة، أو رسائل أو قصائد. وقد تُفصح الكاتبةُ عن التطابُق مع الشخصيّة الرئيسة، أو يتمّ إخفاء الذّات، وذلك بإعطاء الشخصيّة الروائيّة اسماً مُغايراً، أو تركها من دون اسم.
وعلى الرّغم من كلّ تلك العقبات التي وقفتْ حائلاً بين الكاتبة وذاتها، إلّا أنّها لم تَحُلْ بين الكاتبة والتحقُّق، تقول رمضان: "سأظلّ إذن أكتب. سأكتب وإنْ دفنوني في قَبر. سأكتب. وإن أخذوا القَلم والورق سأكتب على الجدار، على الأرض. على قرص الشمس ووجه القمر.. لا شيء اسمه مستحيل في حياتي.. في حياتي كلّها لم أرد شيئاً .. إلّا وأخذْتُه".
وتقول لطيفة الزيّات في نصّ "حملة تفتيش": "تعرَّضتُ في حياتي كما تتعرَّض كلّ امرأة لألوانٍ من القهر المعنوي، وأخطرها في يقيني قهر المرأة لنفسها أو للذات. وخرجتُ من أسْرِ هذا القهر المرّة بعد المرّة.. وفي كلّ الحالات جاءَ لنجدتي منظورٌ عن الذات تكوَّن مع بداية الوعي. وتعمَّقَ أثناء دراساتي الجامعيّة في الفترة من 1942 إلى 1946. وقد حرَّرني هذا المنظور عن الذات من أسْرِ الذات وما زال يُحرِّرني. وأَطلقني في كلّ مرّة إنسانةً فاعلة ومسؤولة، مُتفتّحة على الوطن والناس، ومشغولة بهمومهم".
هكذا تبقى الكتابة أحد أهمّ العوامل لتحرير الذات، والخروج من دوائر القهر إلى دنيا الخلاص والالتحام بالجماهير العريضة. تقول لطيفة الزيّات: "أجلس لأكتب، أدفع الموت عنّي في ما يبدو أنّه سيرة ذاتيّة..". وتَستمدّ الكاتبةُ قوّتَها من الكتابة، للخروج من محبسها في سجن القناطر في العام 1981 على أثر كلمتها التي ألقتها في جامعة القاهرة؛ لذا كانت ترى أنّ الالتحام بالمجموع وقضايا الوطن هو الوسيلة الوحيدة لتحرير الذات، تقول: "والنقطة الرئيسيّة من جديد أنّنا لا نتوصّل إلى ذواتنا الحقيقيّة إلّا إذا ذابت الذات في شيءٍ ما خارج عن حدود هذه الأنا الضيّقة".
هكذا طرحتِ الكاتبةُ لطيفة الزيّات خصائصَ بديلة على بنية السرد، الأمر الذي نَوَّعَ وغيَّرَ في سمات القالب الفنّي لديها والمُتعارَف عليه في تعريف الترجمة الذاتيّة، بل كسرَ هذا التشظّي القوانينَ الواضحة لقواعد هذا النَّوع، فضلاً عن تضمين هذا القالب رؤيةً جديدة بدأت برؤىً واستراتيجيّاتِ تحرير الذات، وانتهتْ برصْدِ استراتيجيّات الالتحام بالمجموع. تقول: "والإنسان في هذه الرواية لا يَجِد نفسَهُ حقّاً، ولا يَستعيدها متكاملة، إلّا إذا فقدَها في كلٍّ أكبر من فرديَّتِه الضيّفة".
ويأتي النصّ ببنيته السرديّة المفكَّكة أو غير المنتظمة، التي عبَّرت عن التحوُّلات العُمريّة والسياسيّة لصاحبتها، مواكِباً ومُعادِلاً موضوعيّاً للمُجتمع والسلطة التي تحتاج هي الأخرى إلى تقويضٍ (تفكيك) وإعادة بناء مُماثِل لتفكيك الكاتبة لذاتها، ثمّ محاولاتها إعادة البناء لهذه الذات والتي بدأتها بإعادتها ترتيب الأوراق، تقول:" أستطيع الآن أن أنظِّم أوراقي التي رقدتْ مخلوطة في مخابئها السريّة".
هكذا، فإنّ استراتيجيّات الكتابة في علاقتها الجدليّة مع الأنا - هنا - هي جزء لا يتجزَّأ من هذا التصوُّر نفسه، لأنّ كلّاً منهما يؤثِّر في الآخر بقدر ما يتأثَّر به. ولذلك كان لا بدّ أن نبدأ برصْد التصوُّر الذي طَرأ على الذات الكاتبة في تصوُّرِها عن هويّتها الفرديّة والقوميّة، بدءاً من لطيفة الزيّات وصولاً إلى نوال السعداوي. فبينما رأت الأولى "الذات" في تعلُّقِها بالجماعة "، تغيَّرت هذه الذات في نصوص نوال السعداوي، وبخاصّة نصوص السيرة الذاتيّة - حين نرى أنّ حُلمَ التفرُّد - و"الأنا" هو الذي يَحسم جدليّة هذه الذات في صراعها مع الآخر والمجتمع.. وهذا مع ضرورة الإشارة إلى الإفادة من تقنيّات استخدام اللّاوعي والأحلام وغيرها في كسْر بنية السرد وتحريك الحدود المُحيطة بالهويّة عبر تقاطُع قانون النَّوع مع الأوضاع الاجتماعيّة والتاريخيّة والسياسيّة التي تُلزم المرأةَ بالصمت في فضاءٍ إنساني مُكبِّلٍ للحريّات، وبما يُشير إليه هذا النَّوع من الكتابة من توتُّرٍ خلّاق يقوم بين التجانُس والاختلاف!
هكذا يظلّ اصطدام المرأة العربيّة بالقيود الاجتماعيّة، فضلاً عن علاقتها المتوتّرة بالرجل، تجربةً تَطرح معاني جديدة لقضايا عديدة تُلقي بظلالها على السيرة الذاتيّة النسويّة في الوطن العربي على أثر الظرف النفسي الناتج عن احتكاك المرأة بالقيد في ظلّ الانفتاح المعاصر، وفي ظلّ الردّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة؛ الأمر الذي يعوق ظهور المزيد من التجارب في هذا الفنّ.
ويبدو أنّ الكاتبات هنا يخشَيْن أن يَعْرضْنَ حياتهنّ على الملأ بطريقة مباشرة. فعلى المرأة في رأي البعض ألّا تَعرض حياتها الخاصّة على العامّة، ونشْر ما تكتبه عندما تتحدّث عن نفسها. فهذا يُعَدّ خَرقاً للتقاليد وتحدّياً للممنوع. لذا لَجأت الكثير من النساء إلى أسماءٍ مُستعارة للاختفاء وراءها. مثل لقب ابنة الشاطئ (بديلاً من عائشة عبد الرّحمن). وقد تتنكَّر الكاتبةُ لمذكّراتها أو اعترافاتها، فتُعلن عن هذا في مقدّمة نصّها، كما فعلت سعاد زهير في "اعترافات امرأة مُسترجِلة"، فتقول: "إنّ هذه القصّة ليست حياتي، ليست تجربتي الشخصيّة.. وإنّها ليست أكثر من مذكّرات امرأة مجهولة، حملَها لي البريدُ يوماً. مع رسالةٍ قصيرة، تُطلِق يدي في إعادة كتابتها، ونشْرها".
*ناقدة وأستاذة جامعيّة من مصر