بورخيس وابن شرف القيرواني

news image

أحمد فرحات*

هذه هي الحلقة الثامنة، وليست الأخيرة، من حوارٍ بانوراميٍّ كنتُ أجريته شخصيّاً مع كبير أدباء أميركا اللّاتينيّة، الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986). كان ذلك في باريس في العام 1978 وتحديداً في منزل الصديقة ليونور غونزاليس، الناشطة الثقافيّة الفرنسيّة من أصل أرجنتينيّ والتي إليها يعود الفضل في وصلي ببورخيس وجعْله يمنحني أكثر من أربع ساعات من وقته الثمين، كان خلالها مُتجاوباً بحماسة مع جدل الأسئلة والأجوبة والمُناقشات، شجَّعه على ذلك أيضاً أنّني كنتُ بالنسبة إليه “الشاب العربيّ الأكثر قراءة واستيعاباً لأعماله الإبداعيّة ولبؤرة شخصه المُتمحوِر فيها”، حسبما أخبرتني بذلك في ما بعد الصديقة غونزاليس. وهذا الأمر على الأرجح هو الذي فتح لي باب الصداقة معه، والالتقاء به لاحقاً في باريس، وفي جنيف، المدينة الأحبّ على قلبه، والتي مات ودُفن في “مقبرة الملوك” فيها عام 1986.

في هذا الجزء من اللّقاء معه تحدَّث بورخيس أكثر ما تحدَّث عن ابن شرف القيرواني (999 - 1067) الشاعر المغاربي الذي كان أشبه بمرآةِ استقبالٍ وتمثُّلٍ هائلة لمفاعيل الأحداث والتطوّرات السياسيّة والأدبيّة والحياتيّة في عصره، عصر المعزّ بن باديس حاكماً على القيروان (1008 - 1062)، والذي كان من أقرب المُقرَّبين إليه في بلاطه، مع غريمه في الشعر والنقد والبلاغة والفصاحة ابن رشيق القيرواني (999 - 1070) صاحب كِتاب “العمدة” الأشهر بين مصنّفات التراث العربي في حقل صناعة الشعر ونقده.
مُعظم الشعراء والفلاسفة والمُتصوِّفة والمؤرِّخين العرب الكِبار تعرَّفتُ إلى نِتاجهم وأنا في إسبانيا، وتابعتُ نِتاجهم الذي علق في ذهني، بهذه الكيفيّة أو تلك، وأنا أتحرّك ما بين الأرجنتين وأوروبا وبعض الدول العربيّة مثل المَمْلَكة المغربيّة التي كنتُ مُعجباً جدّاً بمَلكها الحسن الثاني (1929 - 1999) لناحية ثقافته العالية، وبخاصّة القانونيّة منها، وكذلك الأدبيّة والتاريخيّة. وقد استحوذَ على اهتمامي في أكثر من خطابٍ له باللّغة الفرنسيّة. كما أنّه كان يُقدِّر المُثقّفين الكِبار في بلده، ويستعين بهم في الملمّات السياسيّة المعقّدة أو شبه المعقّدة التي تواجه بلده، وخصوصاً مع فرنسا، وفي الطليعة ممَّن استعان بهم الملكُ الحسن الثاني المُفكّرُ المعروف د. عبد الله العروي.

  • وسألتُ بورخيس: أكثر من مرّة ذكرتَ امامي اسم الشاعر ابن شرف القيرواني وبإعجابٍ ضمنيّ وأحياناً عَلَنيّ ظاهر.. ما الذي جذبكَ إلى هذا الشاعر العربيّ الكبير؟ وكيف تعرّفتَ إلى نِتاجه الشعريّ وشخصيّته الأدبيّة بوجهٍ عامّ؟

وبالعودة إلى ابن شرف القيرواني، وهو ابن القيروان المدينة التونسيّة اليوم، والإفريقيّة سابقاً (كانت تونس وليبيا وجزء من الجزائر اليوم تُسمّى إفريقيا بلغةِ الخلفاء والحكّام والمُراسلات القديمة بين دمشق وبغداد أيّام الأمويّين والعبّاسيّين)، فقد عُرف بشعره الفصيح المُرتجَل، والذي كان يكتبه للتوّ أمام الشعراء الآخرين، وحتّى أمام أمير القيروان المعزّ ابن باديس حين كان يمدحه في بلاطه، وكان هذا الأخير - في المناسبة - من أذكى الحكّام العرب في زمنه، وأكثرهم استيعاباً لدروس التاريخ والفلسفة والشعر والنحو والفقه والسياسة، وعُرِف عنه أنّه كان يَحدس بالنكبات قبل حدوثها. ومنها نكبة اجتياح الهلاليّين القيروان، وفتكهم بها، الأمر الذي أَحدث خسائرَ ثقافيّة وحضاريّة كبرى للعرب جميعاً، بغضّ النّظر عن الدواعي والمُبرِّرات. وسقوط القيروان المريع جَعَلَ الشاعرَ ابن شرف القيرواني يرثيها بقصيدة، أعتبرها، شخصيّاً، من العلامات الشعريّة المَلحميّة المؤثِّرة في التاريخ، وممّا جاء فيها:

“يمرّ عليها المورُ يسحب لُحفَهُ
ولا كانِسٌ إلّا الرياحُ الغدائرُ

ويمتدّ عمرُ الصوتِ فيها وربّما
تجود مراراً بالكلام المَقابِرُ

فلو نَطقَت ما كان أكثرُ نُطقها
سوى قولها أين الخليطُ المُعاشِرُ؟

ترحَّل عنها قاطنوها، فلا ترى
سوى سائرٍ أو قاطنٍ وهو سائرُ

تكشّفَتِ الأستارُ عنهم، وربّما
أُقيمت ستورٌ دونهم وستائرُ

إذا جاذَبت أستارَها تبتغي بها
لأقدامِها سِتراً تبدَّت غدائرُ

تبيتُ على فُرشِ الحَصى وغطاؤها
دوارِسُ أسمالٍ زَوارٍ حقائرُ

فيا ليتَ شعري القيروان مَواطِني
أعائِدةٌ فيها اللّيالي القصائِرُ؟

ويا رَوحتي بالقيروانِ وبُكرتي
أراجِعةٌ روحاتُها والبواكِرُ؟

كأن لم تكُن أيّامنا فيكِ طلقةٌ
وأوجُهُ أيّامِ السرورِ سوافِرُ”

بعدما بكى عليها، وأدان كلَّ مَن تسبَّب بمصيرها المُفجع، تركَ ابن شرف القيرواني مدينته إلى جزيرة صقلّية، ومكثَ فيها ثلاثة أشهر، غادر بعدها إلى طليطلة في الأندلس ليجعلها مكاناً للعيش الدائم له، ويموت فيها.
لأنّها كانت مدينة التسامُح الديني الإسلامي المسيحي اليهودي وقتها عن جدارة، والإنسان المُبدِع فيها لا يُسأل إلّا عمّا لديه من قيَمٍ إبداعيّة عليا وتشارُكيّة مع الإنسان في كلّ مكان وزمان. فضلاً عن تميُّز طليطلة بمياهها العذبة الشافية وفواكهها التي ولا أطيب ولا أشهى، على حدّ تعبير فاتح المدينة نفسه القائد الكبير طارق بن زياد.

  • لماذا يا ترى، وبحسب المَصادِر الإسبانيّة، اختارَ ابن شرف طليطلة دون غيرها من حواضر الأندلس الزاهرة مكاناً لعيشه الدائم؟ سألتُ مُحدّثي بورخيس فأجابني:

وطليطلة مدينة كانت قائمة قبل الغزو الروماني لشبه الجزيرة الأيبيريّة وسيطرة الرومان عليها في العام 193. ويقال إنّ الفينيقيّين هُم أوائل بُناتها في التاريخ. وبعد الفتح العربي لها في العام 711، عرف الأمويّون كيف يجعلونها عروس المدائن؛ حوّلوها إلى بيئة حاضنة وجاذبة لكلّ ألوان الحياة العلميّة والفكريّة والفنيّة والثقافيّة. والأمويّون، في رأيي، هُم ملوك الذوق والبناء والتنظيم الحضاري المُهيكِل للأمكنة، وهُم لا يرون أيّة فائدة لفتْح بلدٍ ما أو صقعٍ جغرافي معيّن، إذا لم يتحوّل هذا الصقع إلى بؤرة حياة ضاجّة بالحيوات المزدهرة على اختلافها.
وهل تؤمن، سيّد بورخيس، بالشعر المُرتجَل على غرار ما كان يأتي به ابن شرف القيرواني، أم ترى أنّ الشعر هو صناعة حاذقة تفترض الوقت المطلوب، والنظر الفاحص والدقيق في بنى الألفاظ والتراكيب والصور والدلالات على اختلافها؟... أجاب:

  • بخصوص الشعر المُرتجَل

الشعر هو ارتجالٌ وصناعةٌ في آنٍ معاً. ويتوقّف أمره دوماً على صاحبه وموهبته وثقافته ومعرفته باللّغة وفقهها وحُسن توظيفها وفلسفة توجّهها من قلب العمليّة الشعريّة بعينها. وإنّني أرى أنّ ذلك كلّه، وغيره ممّا له صلة به، يتوافر في تجربة الشاعر ابن شرف القيرواني الذي عاش للشعر يرويه على طريقته، ويُعلّمه على طريقته أيضاً، حتّى تحوَّلَ إلى مدرسةٍ شعريّة قائمة بذاتها.

ولا تنسى أنّ خصمه في الشعر والنقد والفقه والبلاغة: ابن رشيق القيرواني صاحب “العمدة”، الكِتاب الموسوعيّ المعجز، قد اعترف بالإبداعيّة الاستثنائيّة لابن شرف القيرواني، إنْ لناحية الارتجال الشعري الفوري وذكاء البديهة التي تندّ عنه، أو لقدرته الفوريّة على السبْكِ وتحقيق التناظُر الأسلوبي المُحكم وكلّ ما له علاقة بتفاصيل التشبيه والاستعارة والمُطابقات والتجنيس.... إلخ.
معجزة الشاعر تقوم على صنْع القناعات الإبداعيّة الخاصّة به، سواء أتت من خلال أساليب هندسيّة مُستمكِنة منه أم اجتَرحت لنفسِها من جديد عبره أساليب أخرى لا تلبث أن تُحدِّد بذاتها قوّة منطلقها الفنّي والجمالي الآسر.
بورخيس: وهل هناك يا صاحبي مرجعيّة تاريخيّة أقوى من الشعر والمعرفة الشعريّة تسجيلاً قارّاً ومُستداماً؟! إنّها مرجعيّة تحفر في الدماغ حفراً ثابتاً ودائم الحفرِ بدَوره. وهذا ما يجعلني شخصيّاً ألتهب حين أقرأ قصائد عربيّة على غرار ما كَتبه ابن شرف القيرواني وغيره ممّن أرّخوا بالشعر لسقوط القيروان. وهنا تراني مسحوراً بإغواءات هذا الشعر والنَّزعات الذوقيّة الخاصّة فيه والتي تعطف أحياناً على أساطير وعلوم أسرار، من سحر وعرافة وتنجيمٍ ليليّ صحراوي، وغنوصيّات وهرمسيّات وجهات حواس أخرى تتبدّى من الأمكنة ولا يلتقطها إلّا الشعراء الثقاة.
- للشعريّة العربيّة خصوصيّة لا أراها بتّةً في اللّغات الأخرى، على الأقلّ التي أعرفها جيّداً: الإسبانيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة. وهذه الخصوصيّة غالباً ما تؤشّر لي على أن عَين الشعر هي الأشمل على الدوام، إنْ في النظر إلى كلّ شيء أو في الحُكم على كلّ شيء.. والشعراء العرب (الثقاة منهم بالطبع ومنهم شاعرنا ابن شرف القيرواني) هُم خير من يمثّلون هذه الوجهة الإبداعيّة الأكثر حريّة والأقلّ قيوداً.
هنا أَطرق بورخيس بعض الشيء، ثمّ أجاب: سؤالك هذا يُغبطني كثيراً. نعم، الشعر هو نَوعٌ من دينٍ غير مؤدلَج يا صاحبي؛ ولا ينتمي بالطبع إلى سائر الأديان التي عرفتها البشريّة، من وثنيّة وغير وثنيّة؛ وخصوصاً أنّه (أي الشعر) يشتغل بحاسّة الموت حيناً وكذلك يشتغل بحاسّة الحياة أحياناً، هكذا وفق ما يشاء. والشاعر كائنٌ مجبول بالحياة والموت معاً.

  • صحيح أنّ الشعر يكتسب أهميّته من أهميّة صاحبه الثقافيّة والعلميّة والإدراكيّة واللّغويّة.. ولكنّه هو بذاته أيضاً نظام مَعرفة من نَوعٍ خصوصيّ له صلة بمنطق الأشياء وسريّتها والإغواء الذهنيّ المُمنهَج أو شبه المُمنهَج.. وهذا ممّا لا يتناسب والشعر المُرتجَل.. أليس كذلك سيّد بورخيس؟... أجاب:
  • وهل تؤمن بالمعرفة الشعريّة، ولاسيّما حين تؤرّخ لحادثة تاريخيّة كبرى مثل سقوط القيروان؟
  • الشعر عند العرب موجود كالهواء والماء والتراب المرئيّ واللّامرئيّ أيضاً.. وقد عاشت عليه الثقافات الشرقيّة والغربيّة المتّصلة به، ومن خلال علومها القديمة والوسيطة والحديثة كذلك.. أيّ شيء يُحرِّكه فيكَ مثل هذا الاستنتاج سيّد بورخيس؟
  • ألا توافقني الرأي أنّ في الشعر نوعاً من كهنوتٍ ما.. كهنوت غير إيديولوجيّ طبعاً؟

..يكفي يا صاحبي أنّنا ما زلنا من خلال معجزة الشعر ندين لما يحصل من وعي بالإنسان ومعناه فينا، منذ عصور ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا.. وسنظلّ ندين لمعجزة الشعر بهذا الوعي المُتنامي بعَينه على مدى العصور المُتطاوِلة التي لم تأتِ بعد.

*مؤسّسة الفكر العربي