ذكرى دانتي ألغييري وسرديّة المظلوميّة

news image

د. رفيف رضا صيداوي*

يُصادف غداً في اليوم الرّابع عشر من شهر أيلول (سبتمبر) الحالي الذكرى الـ 700 لوفاة الشاعر الإيطاليّ دانتي ألغييري (1265 - 1321) مؤلِّف "الكوميديا الإلهيّة" La divine comédie التي اعتُبرت من أفضل روائع الأدب العالَميّ، وخلَّدت صاحبها على مرّ العصور. ففضلاً عن عبقريّته الفنيّة، لا يزال دانتي شاغل الدنيا والناس بسبب ما لاقاه من ظلمٍ من أبناء بلده، هو الذي نُفي مطلع القرن الثالث عشر من فلورنسا بسبب مواقفه السياسيّة المُعارضة لسياسة البابا، وحُكم عليه بالحرق إذا ما عاد إليها، فعاش رحلةَ تشرُّدٍ موجعة قبل أن يستقرّ في فيرونا في العام 1316 حيث توفي، وغدا رمزاً من رموز المُدافعين عن الكرامة والعدالة والحقّ حتّى بعد مرورِ قرونٍ عدّة على مَماته.

بوصفها نشيداً طويلاً موزَّعاً بين "الجحيم" و"المطهر" و"الفردوس"، مكوَّناً من أناشيد ذات خلفيّة لاهوتيّة وتاريخيّة وفلسفيّة، تشكِّل "الكوميديا الإلهيّة"، على حدّ تعبير د. صلاح فضل، "موسوعة هائلة لجميع علوم العصر الوسيط (..) ورسالة جامِعة تتعرَّض لتاريخ البشريّة عموماً ولِما كانت عليه إيطاليا والإمبراطوريّة المسيحيّة في القرن الثالث عشر على وجه الخصوص".

أمّا وصف "الكوميديا" بالرسالة الجامِعة، فذلك عائدٌ إلى شمولها الأدب والفنّ والسياسة ببُعديها القومي والدولي، واحتوائها أساطيرَ وتواريخَ وعلوماً ولاهوتاً ولغويّات. غير أنّ ذلك كلّه قد لا يكون كافياً لإضفاء السمة الإبداعيّة على "الكوميديا" لولا تمتّعها بخصائص فنّيّة جماليّة تأسَّس معها تخييلٌ حداثيّ مُبدِع، مَبنيّ، بتعبير ميخائيل باختين، على "رؤىً" وعلى "لعبٍ ذاتيّ بالزمن" لم يكُن قائماً في الأدب القديم، ولاسيّما الأدب اليوناني حيث الاحترام العميق للزمن وتميّزه بدقّة صارمة وواعية، بعكس الإخلال بالنِّسب والمنظورات الزمانيّة الذي أحدثه دانتي، والمُترافِق مع تلاعُبٍ مُماثلٍ بالمكان وبالعلاقات والمنظورات المكانيّة الأوليّة، فضلاً عن تشويهٍ انفعاليٍّ ذاتي ورمزي جزئيّاً للمكان. ذلك أنّ هذا الإخلال والتلاعب والتشويه قامَ أساساً - والكلام لباختين - على إحساسٍ حادّ جدّاً "بتناقضات العصر بوصفها تناقضاتٍ بلغت ذروة نضوجها"، وعلى إحساسٍ "بنهاية عصر"، فكانت "محاولة إعطاء تأليفٍ نقديّ لها". فقد بنى دانتي بحسب باختين "لوحة لدنة ورائعة لعالَمٍ يعيشُ حياةً متوتّرة ويتحرّك شاقوليّاً إلى أعلى وأسفل"، ثمّ إنّ "جعْل اللّامتزامِن مُتزامناً، واستبدال كلّ التقسيمات والروابط التاريخيّة الزمنيّة بتقسيمات وروابط معنويّة، مرتبيّة خارج الزمن، كانا مَطمحَ دانتي الذي أوجد وحدَّد أشكال بناء صورة العالَم حسب خطّ شاقوليّ خالص" (باختين، أشكال الزمان والمكان في الرواية، ترجمة يوسف حلّاق). يكفي أيضاً أنّ دانتي كان أوّل مَن كتَبَ عمله باللّغة الإيطاليّة بدلاً من اللّاتينيّة التي كانت سائدة في عصره، حتّى لُقِّبَ بـ "أب اللّغة الإيطاليّة وشاعرها الأعلى"، هو الذي كان قد مَزَجَ لهجاتٍ شعبيّة عدّة لتسيير عمله في إيطاليا كلّها. وقد أشار مَوقع راي الإيطالي RAI، إلى أنّ 90 % من الكلمات المُستخدمة في اللّغة الإيطاليّة اليوميّة الآن، كانت حاضرة في "كوميديا" دانتي (من مقالة "هنا يعيش دانتي" لأوجينيو بارنسلّي، نَشرتها دوريّة كورييه إنترناسيونال في عددها رقم 1582 الصادر في 25 شباط/ فبراير إلى 3 آذار/ مارس2021 نقلاً عن صحيفة "لاريبوبليكا" الإيطاليّة).

و"الكوميديا" كما وصفها الباحث والمُترجِم المصريّ حسن عثمان "هي عالَم الأرض مرئيّاً من عالَم السماء، وعالَم السماء مَرئيّاً من عالَم الأرض. والفردوس عالَم سحري أثيري عجيب. وقد بلور دانتي عالَم الأرض الزاخر بالحياة على مسرح العالَم الآخر، بما في ذلك الفردوس (الكوميديا الإلهيّة - الفردوس، ترجمة حسن عثمان، 1968). إنّه عالَمٌ تجسَّد فيه المثالي والتجريدي خدمةً لرسالة دانتي الدنيويّة، حيث تناظرت الأضدّاد وتعايشت في هذا العمل الفنّي الموصوف بأنّه "قصيدة الإنسانيّة الكبرى"، فتقابَل الثلج المُظلم للجحيم بالحرارة المُضيئة لنيران السماء، واختلطَ الدنيوي بالسماوي، وحوكم الناس من قِبل دانتي بمقدار خطاياهم وبمعايير عالَمه الذي بناه على أسس العدالة والحريّة والحُبّ، واضعاً العنيفين والخَونة في أعماق الجحيم، لأنّ العنف والخيانة من منظوره كانا أقسى من سائر الخطايا، ومُتّخِذاً من الشاعر فرجيل دليلاً له ومُعلِّماً، وواضعاً البابا في الجحيم، مع أنّ مرتبته الدينيّة ومَوقعه المقدَّس يفترضان أن يكون مَكانه في الفردوس، لكونه هدَّد مصالح فلورنسا ولم يرعَ الشهامة والنخوة، في حين وضع ملك صقليّة "مانفريد" في المطهر على الرّغم من إباحيّته، لأنّه راعى قيمتَيْ الشهامة والنخوة، ووضع الفيلسوف "سيجر دى برابنت" المتّهم بالهرطقة في الفردوس، لأنّه مات في سبيل الدّفاع عن الرأي، مُفرِّغاً برائعته الأدبيّة هذه ومن خلالها كلّ مُعاناته من شرور زمنه، راسماً الإطار الذي يجب أن يتأطّر به وطنه والعالَم. إنّه هذا "التسامي" (sublimation) الذي أَخرج دانتي من حالة عدم الرضى عن سَير الأمور السياسيّة والاجتماعيّة في عصره، لكن بغية تصويب الأمور فنّيّاً، بالاستناد إلى الواقع بأبعاده الزمنيّة كافّة: الحاضر والماضي والمستقبل. فكان "لقصيدته ثلاثة معانٍ: المعنى اللّفظي وموضوعه حالة الروح بعد الموت، والمعنى الرمزي وموضوعه الإنسان بما يناله من جزاء على ما فعل، والمعنى الصوفي وموضوعه الخروج بالناس من البؤس في الحياة الدنيا، وقيادتهم إلى طريق الخلاص والسعادة في الحياة الآخرة" (الكوميديا الإلهيّة - الجحيم، ترجمة حسن عثمان، 1955).

بين التأثُّر والإبداع

كُتب الكثير عن تأثُّر دانتي بالثقافة الإسلاميّة، ولاسيّما تأثُّر "الكوميديا الإلهيّة" بالروايات الإسلاميّة عن المعراج والرحلة إلى العالَم الغيبي، فضلاً عن الأعمال الأدبيّة والنصوص الصوفيّة ومن أبرزها "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي، و"الفتوحات المكيّة" لابن عربي (تحديداً فصل كيمياء السعادة) - ونذكر في هذا الصدد، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الكتاب المرجع للناقد د صلاح فضل: "تأثير الثقافة الإسلاميّة في الكوميديا الإلهيّة لدانتي (1980)". لكن يبقى أنّ هناك حقيقتَيْن مؤكّدتَيْن: أولاهما ما جاء به د. فضل نفسه في كتابه الآنف الذكر نقلاً عن لوسيان غولدمان في أنّ "القول بتأثّر كاتب ما بكاتب آخر لا يحلّ مشكلة الإبداع، بل يقتضي منّا - من الوجهة النفسيّة والاجتماعيّة خصوصاً - جهداً آخر لتفسير سبب هذا التأثير ومداه، ولماذا خضع الكاتب لهذا التأثير من دون سواه، ممّا يتطلّب جهداً تحليليّاً للعوامل الاجتماعيّة والفرديّة المركّبة، وعلى أيّة حال فإنّ الخصائص الجماليّة الكبرى للأعمال الفنيّة تُعتبر بلورة لرؤى جماعيّة تستحيل استعارتها بطريقة خارجيّة من آداب أخرى، وإذا استعيرت بعض أساليبها وعناصرها الجزئيّة، فإنّ بنيتها الجديدة تختلف حتماً عن البنية الأولى ممّا يجعل القول بالتأثير لا يشرح شيئاً بقدر ما يحتاج بدوره للشرح والتعليل".

أمّا الحقيقة الثانية، والتي غالباً ما تتناظر وتتقاطع مع الحقيقة الأولى، فهي راهنيّة كلّ عمل إبداعي يحمل قيَماً إنسانيّة خالدة تُعادي الظلم والاستبداد والفساد والاستغلال والخداع ومُصادَرة الفكر وتُدافع عن الإرادة الحرّة والفكر الحرّ من أجل تحقيق العدالة وسعادة البشر.

في هذا السياق، لا تزال "الكوميديا الإلهيّة" مَصدرَ إلهامٍ لكثيرٍ من شعراء العالَم ومفكّريه ومثقّفيه وكتّابه، فضلاً عن كونها لا تزال مرجعاً للقراءة والدراسة والبحث والنقد والتأويل والتقويم؛ إذ إنّ تَوق دانتي إلى التخلُّص من شرور حاضره يعبِّر عن شرورنا الحاليّة، على الرّغم من القرون السبعة التي تفصلنا عنه. والظلم الذي لاقاه دانتي نفسه، لا يزال مُستنكَراً ومرفوضاً. لذا نرى العالَم بعد كلّ هذا الزمن الذي يفصلنا عن موته مشغولاً ليس بعبقريّته وبتحفته الفنّيّة فحسب، بل بقضيّة نَفيه ظُلماً من مدينته فلورنسا مطلع القرن الثالث عشر؛ حيث دعا المحامي الجنائي أليساندرو ترافيرسي إلى فتح القضيّة في شهر أيّار/ مايو الفائت بحضور مُحامين وقضاةٍ كِبار ومُدّعين عامّين سليلي طرفَيْ النّزاع، أي دانتي وخصومه أمثال كانتي دي غابرييلّي، القاضي الذي نفى الشاعر، وذلك كتعويضٍ رمزي تجاه دانتي. ولعلّ ما صرَّح به سيريغو أليغييري، سليل دانتي لوكالة "فرانس برس"، بأنّ "دانتي أُدين وذهب إلى المنفى ونُفي طوال حياته ولم يعُد إلى فلورنسا، وأنّ أيّ شيء يُمكن عمله له (اليوم) لن يغيّر هذه الحقيقة"، لعلّه كلامٌ صحيح، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ فتْحَ هذه القضيّة ما هو إلّا استنكارٌ لظلمٍ لا تطويه القرون وردُّ اعتبارٍ للقيَم التي آمن بها دانتي ولا يزال العالَم الحرّ يؤمن بها قبل أن يكون ذلك ردَّ اعتبارٍ لدانتي نفسه. هذا المُبدع المُرهف كغالبيّة الفنّانين العمالقة الذي كان، بحسب ما وَرَدَ في بحثٍ لم يُنشر بعد للمُستعربة المالطيّة د. ناديا لانزون بعنوان: "العرب مرّوا من هنا.. العرب ما زالوا هنا"، ضمن كِتاب: المُدن العربيّة بين العراقة والاستدامة، (مؤسّسة الفكر العربي، تحت الطبع)، مفتوناً بشعر ابن شهيد الأندلسيّ ونثره (935 - 1003)، ومخطوفاً بقصيدته "أنوح على نفسي وأندب نبلها"، التي يقول مَطلعُها:

أنوح على نفسي أندب نُبلَها

إذا أنا في الضرّاء أزمعتُ قتلَها

رضيتُ قضاء الله في كلّ حالة

عليّ وأحكاماً تيقّنتُ عدلها

هذا الشاعر الإيطالي العظيم الذي جَعَلَ من أحاسيسه المُختلفة وما دار في جوانحه مادّةً لابتداعِ الكوميديا بحسب ما أَورد حسن عثمان في ترجمته كِتاب "الجحيم"، والذي كان يبكي حتّى يفقد الوعي، وكانت له غرفة يسمّيها "غرفة الدموع"، لأنّ بكاءه، بحسب ما كان يقول، يجعله هشّاً مُتهالكاً حتّى لا يكاد يعرفه أحدٌ.

*مؤسّسة الفكر العربي