خورخي لويس بورخيس ناقداً سينمائيّاً

news image

أحمد فرحات*

قلّة قليلة في بلده الأرجنتين، ولاحقاً في الولايات المتّحدة وأوروبا، تَعرف اليَوم أنّ خورخي لويس بورخيس كان ناقداً سينمائيّاً، وكان حادّاً في نَقده لمُخرجين سينمائيّين عمالقة.

لمدّة خمسة عشر عاماً، عملَ بورخيس ناقداً سينمائيّاً، وكان يَنشر مقالاته في مجلّة "سور" الأرجنتينيّة بين عامَي 1931 و1945، ثمّ فَقَدَ بَصرَه بعدها، وهو في التاسعة والثلاثين، نتيجة ارتطام رأسه بزاوية إحدى النوافذ الحديديّة، بينما كان ينزل درجاً مُعتماً.

جُمعت مقالاته النقديّة السينمائيّة في كِتابٍ صَدَرَ في إيطاليا صيف العام 1979 تحت عنوان: "بورخيس والسينما". وبحسب الكاتب أدولفو بيوي كازاريس، واضِع مُقدّمة الكِتاب "إنّ بورخيس يتمتّع بالقدرة على تلمُّس أمور مفاجئة ورؤيتها بطريقةٍ جديدة خارِجة عن المألوف في كلّ فيلم يتولّى قراءته، وهذه هي ميزته التي جَعَلَتْ منه ناقداً مُغايراً في أسلوبه لباقي نقّاد السينما".

وكان لا بدّ لي، في سلسلة حواري الأدبي والفكري والفلسفي المُطوّل مع بورخيس (نَشَرْنا حلقاتٍ منه في أعدادٍ سابقة من "أُفق")، من أن أُخصِّص لاهتمامه بالفنّ السابع حَيِّزاً مُهمّاً في قلب مَشهديّة هذا الحوار، وخصوصاً أنّ صاحِب "كِتاب الرمل" كان مُنجذِباً جدّاً لعالَم السينما، وله مُشارَكة عضويّة فيه، ليس كناقدٍ فقط، وإنّما كأديبٍ أثَّرت نصوصه الإبداعيّة على مُخرجين سينمائيّين كِبار من طراز "آلان رينيه"، مُخرج فيلم "العام الماضي في مارينباد"، وكذلك على كاتِب قصّة الفيلم "آلان روب غرييه" المعروف برائد الرواية الجديدة في فرنسا والغرب عموماً.

كما كان لبورخيس تأثيره الأدبي الجارف على المُخرج السينمائي الفرنسي جاك ريفيت، صاحب فيلم "باريس لنا ومنّا"، إذ تضمَّنت حواريّة فيلمه أكثر من إشارة إلى بورخيس واستشهاداتٍ بعباراتٍ أدبيّة له.

أمّا المُخرج الإيطالي الكبير برناردو بيرتولوتشي، فقد أَخَذَ عن مؤلَّف لبورخيس فكرة "الخيانة والبطولة" ووظَّفها في فيلمه الذي أَخرجه في العام 1969 تحت عنوان: "استراتيجيّة العنكبوت".
- أَجابني الرجل ببرودٍ واثِق: وهل كنتَ تُريدني أن أضيِّعَ وقتي على مُشاهَدةِ أفلامٍ لا قيمة فنيّة لها؟!. بالتأكيد تصدَّيْتُ وقتها، بالنقد والتقويم، لأفلام الذين كانوا يتصدّرون المَشهد السينمائي الرياديّ الأوّل في الولايات المُتّحدة وأوروبا، وتباعاً العالَم بأسره في ما بعد، كون صناعة السينما نَشأت في الغرب، وازدهَرتْ فيه، ثمّ عمَّ تأثيرها المعمورة بأسرها.
- أَطرق بورخيس بعض الشيء، ثمّ أَطبق بكفَّيْهِ الراعشتَيْن على عصاه، قائلاً بصوتٍ أجشّ تسبَّبت به الأنفلونزا: شارلي شابلن أَعمته الشهرة والمال، فاسترخى وتراجَعَ كليّاً عن إبداعه السابق، والذي كان قدَّمه في سلسلة أفلامه الصامتة التي شاهَدْتُها كلّها تقريباً، وخصوصاً منها أفلام: "الطفل"، و"امرأة من باريس"، و"حمّى الذهب" و"السيرك". هكذا انصرف شارلي "الصعلوك" و"المُتشرّد" إلى صنْعِ أفلامٍ تنحو منحى الإيديولوجيا السياسيّة البحتة، وأنا لا أحبّ المُبدعين الذين ينغمسون في السياسة حتّى جمام رؤوسهم.
- نعم.. نعم، هي أفلام بحت سياسيّة وإيديولوجيّة من وجهة نظري.
- نعم، إنّ الأفلام التي ذكرتُها، وغيرها، تصبّ في مصلحة الاتّجاه اليساري وحراك الشيوعيّين في الاتّحاد السوفياتي السابق، وما كان يدور في فلكه وقتها من بلدانٍ وأحزابٍ في الشرق والغرب معاً. وتبعاً لذلك، بَدأ غضبُ المُجتمع الحرّ في الولايات المُتّحدة ينصبّ على أفلام شارلي شابلن، وبَدَأْنا نَشهد سريان دعوى مُقاطَعة الجمهور الأميركي لها. كما بَدأت إيراداتُها الماليّة تضعف وتشحّ في صالات عرض لوس أنجلوس، ونيويورك، وشيكاغو، لكنّ ربحيّتها ازدادت في الخارج، ما عدَّل من الوضْع الماديّ بالنسبة إلى صانِعها.
- مثلُ كلامكَ هذا يُردِّدهُ يساريّون انتهازيّون كثر، تغطيةً لمَواقفهم السياسيّة الدفينة. ولذلك أَسهم العالَمُ الاشتراكي السابق في التهليل لظاهرة شارلي شابلن أكثر ممّا ينبغي، وشارَكَتْهُ في ذلك أغلبيّة الأحزاب اليساريّة في الغرب اللّيبرالي أيضاً، ودائماً في إطار "البروباغندا السياسيّة" إيّاها، التي لا تتوانى عن توظيف الآداب والفنون في مَعاركها السياسيّة الساخنة والمفتوحة مع العالَم الحُرّ.

  • وسألتُ بورخيس: ما هي مُشكلتكَ سيّدي مع مُخرجين رياديّين عمالقة في عالَم السينما الأميركيّة والغربيّة بشكلٍ عامّ: شارلي شابلن، ألفريد هيتشكوك، أورسون ويلز، لويس مايلستون، إيليا كازان وغيرهم.. وغيرهم؟
  • ما تقوله صحيح تماماً سيّد بورخيس، ولا أحد يُناقشكَ فيه، لكنْ ما الذي لم يُعجبكَ، مثلاً، في أعمال سينمائيّ عملاق من طراز شارلي شابلن؟
  • مهلاً.. مهلاً سيّد بورخيس.. ماذا تقول؟! هل ترى في أفلام شابلن "أضواء المدينة" و"الأزمنة الحديثة" و"السيّد فيردو" أفلاماً سياسيّة وإيديولوجيّة بعَينها؟
  • حسناً، هل توضح لنا أكثر وجهة نظركَ هذه؟
  • أنتَ ليبراليّ سيّد بورخيس، واللّيبراليّ لا يَنساق إلى كلامٍ سياسيّ مُرسلٍ على عواهنه، تضخّه مَواقع سياسيّة يُصارع بعضها بعضاً، وكلامك بخصوص شابلن، في المُناسبة، لا يُشارككَ فيه نقّادٌ سينمائيّون ليبراليّون عديدون في الولايات المُتّحدة نفسها، من أمثال إيليوت شتاين، وأديث أوليفر، وآرثر ونايت وغيرهم.. ثمّ إنّ شابلن نفسه كان صرَّح أكثر من مرّة بأنّه ليس شيوعيّاً وإنّما هو داعية عدالةٍ وسلامٍ بين شعوب الأرض.. وهنا قاطَعني بورخيس بشيءٍ من الصرامة قائلاً:

واستطردَ بورخيس قائلاً وبتشدُّد: وهنا عليك أن تنتبه جيّداً، وتَحذر جيّداً، أنتَ وغيرك، إلى أنّني لستُ ضدّ اليساريّين أو الشيوعيّين، بمعنى حريّة الرأي والقناعات السياسيّة ولعبة الديمقراطيّة التي تفصل في الأمور، لكنّني كنتُ، وسأظلّ، على الضدّ من الشِّعار والشعاريّة لذاتها في فضاء الآداب والفنون.
- أشكركَ على هذا السؤال، كما أشكركَ إجمالاً على هذا الحوار الحيوي معكَ. أنا أيّها السائل الكريم أعشق السينما الصامتة. أجدُ أنّها هي السينما الحقيقيّة، الخلّاقة، المولِّدة للأفكار والأخيلة، وحتّى لِلغةِ الحوار الذاتي - الذاتي، والذاتي مع الآخر، خارج صالة العرض، على الرّغم من أنّ السينما الصامتة كانت هي المرحلة الأولى على الطريق التطوّريّة لمَسيرة السينما النّاطقة.

  • سيّد بورخيس، في حواري هذا معك، وفي غيره، يهمّني أن تعرف أنّني لستُ طَرفاً في أيّ موضوع يُطرح، لا معك ولا عليك. أعرف أنّكَ من اللّيبراليّين الأقحاح؛ وعليه فأنتَ حرٌّ في أن تنتقدَ مَن تشاء، وتحكُمَ على مَن تشاء؛ لكنْ عليكَ أن تَعرف، في المُقابل، أنّ الأميركيّين أنفسهم كرّموا شارلي شابلن "الشيوعي" من وجهة نظركَ في العام 1972، واعتبروه فَخراً للولايات المُتّحدة، وإحدى العلامات الإبداعيّة الكبرى التي أَهدتها أميركا إلى العالَم بأسره... والآن أريدكَ أن تُحدّثني عن إبداعيّة شابلن من وجهة نظركَ، وخصوصاً في الأفلام التي أعجبتكَ، وسبق لكَ وذكرْتَها لي في سياق كلامكَ قبل قليل؟

كلّ أفلام شارلي شابلن التي ذكرتها، وكنت قد شاهدتها من قبل، تنتمي إلى فئة السينما الصامتة التي لا أحبّ لها أن تغيب، سواء بالمعنى الشخصي أم بالمعنى العامّ الذي يخصّ كلّ عشّاق الفنّ السابع في العالَم.
- هنا ابتسمَ بورخيس ابتسامةً عريضة سرعان ما تحوّلت إلى قهْقَهة عالية قائلاً: يبدو أنّكَ نَجَحْتَ في جمْعِ شيءٍ عميق للغاية بَيني وبَينه.

  • الطريف سيّد بورخيس أنّ شارلي شابلن يُشاطرك الرأي في ما خصّ إبداعيّة السينما الصامتة، فهو قال بالحرف الواحد للصحافة الفنيّة في زمنه "إنّ الأفلام الصامتة عندي أحبّ عليّ، وبأشواط، من نظيراتها الناطقة"..

في نقدِ هيتشكوك وأورسون ويلز
- سأقولها لك ولغَيرك بالفمِ الملآن: أنا لا أستسيغ أفلامَ هذا الرجل، لا من قريب ولا من بعيد. فأفلامه ليست أكثر من مُبالَغة في الخِدع السينمائيّة لإثارة رُعب المُشاهد والإساءة إلى مُخيّلته التعبى والمكدودة. ثمّ، يا صديقي، أما كفاه هذا المُشاهد رُعب هذا العالَم الواقعي من حواليه حتّى يأتي هيتشكوك بألاعيبه المريضة والممضّة هذه؟!.

  • في كِتابكَ "بورخيس والسينما" الذي جَمَعَ مقالاتِه إدغار كوزارنسكي، وصفْتَ أفلامَ الرعب الخاصّة بالمُخرج ألفريد هيتشكوك بأنّها "سطحيّة تجاريّة ولا قيمة فنيّة لها، وعندما يُشاهدها المرء، يَخرج منها بلا أيّ قيمة أو رسالة تُذكر".. هل مِن تعليقٍ جديدٍ لكَ الآن؟

وأَردف بورخيس: هيتشكوك يُبالغ في الإساءة حتّى للنصوص الروائيّة الأصليّة التي يعتمدها كمَصدرٍ لبعض أفلامه البوليسيّة، ومنها، مثلاً، رواية جوزيف كونراد "العميل السرّي" التي استوحاها لإخراج فيلمه "عمليّة التخريب". فبينما طَرَحَ كونراد بطل الرواية "فيرلوك"، باعتباره رجلاً عاطفيّاً ومعقّداً، وصلَ إلى ارتكاب جريمته نتيجة الاضطّرابات الشخصيّة التي تعتريه، وكذلك نتيجة الخوف الداخلي الذي يُعاني منه، يقلب هيتشكوك الأمر ويحوِّل الرجل في فيلمه إلى مجرّد شيطان مُغلق الشخصيّة ومن أصل سلافي - ألماني.

وتابَع بورخيس كلامه أمامي: أَخرج هيتشكوك ما يزيد على خمسين فيلماً، وكلّها في النهاية عبارة عن فيلم واحد مُمِلٍّ وسقيم، وقد حَصَدَ عليها أموالاً هائلة لا يستحقّها، كانت تكفي (والكلام لبورخيس) لإنتاج أفلامٍ مُفيدة كثيرة يُقبِل على إنجازها مُخرجون شباب كُثر في إطار إيجاد سينما بديلة ومُفارِقة في أميركا وأوروبا وحتّى في العالَم بأسره.

فيلم "المواطن كين"
- أَجابني بورخيس بشيءٍ من الامتعاض، بخاصّة لدى ذكري القفلة الأخيرة من السؤال، والتي لم اخترعها أنا بالطبع، مُتسائلاً: وهل تَقبل أنتَ بمثل هذا الإلغاء الحاسم لمجرّد أنّكَ تَنتقد صاحب فيلم على فيلمه؟!
- الأفضل ألّا ندخل في الأشياء المجّانيّة العابرة.. قال ذلك بورخيس وأَردف: "هذا الفيلم يُعاني من نزعة العمْلَقة، ومن السطحيّة المُثيرة، ومن الإيقاع المُمِلّ، وليس فيه ما يُمكن أن يُثيرَ اهتمامَ غير الإنسان المُتحذلِق الذي يُحبّ ادّعاء الثقافة لنفسه، وهو غير ذي ثقافة".
- أعجب لهذا الفيلم ولغيره من الأفلام الحربيّة المُماثِلة، كيف تدّعي أنّها تَنشد ثقافةَ السلام من خلال عرْضِها مَشاهِد الحروب التدميريّة بشكلٍ مشوّق.

  • كما تعرف سيّد بورخيس، اعتُبر فيلم المُخرج الأميركيّ - العالَميّ أورسون ويلز "المُواطِن كين"، وبحسب استفتاءٍ أَجرته مجلّة "سايت آند ساوند" البريطانيّة في العام 1961 "الفيلم الأفضل في كلّ تاريخ السينما مذ وُجدت". والفيلم يحكي، كما تَعرف، قصّة إمبراطوريّة الصحافة في الولايات المُتّحدة بوجهها السلبيّ للغاية، والذي لا يَظهر أمام الناس، فلماذا هاجمتَ هذا الفيلم وسخرتَ من مُخرجه، حتّى اعتبركَ أورسون ويلز لا تفقه في الفنّ السينمائيّ على الإطلاق؟
  • أجبتهُ على الفور: بالقطع لا، ولكن ما الذي حدثَ بالضبط بينكَ وبينه؟
  • ومن المُخرج أورسون ويلز إلى المُخرج الأميركيّ الآخر لويس مايلستون، انتقلتُ بحديثي مع بورخيس لأقفَ على رأيه بفيلم مايلستون الشهير: "لا جديد في الجبهة الغربيّة"، والذي كان علامةً فارِقةً في السينما الأميركيّة في العام 1930، فأَجابني من فوره:

نعم، يَجتهد المُخرج لويس مايلستون للإتيان بسينما مؤثِّرة عميقة، لكنّه سرعان ما يَسقط بالنواقص والأخطاء في أفلامه. وإن كنتُ أُشير بإيجابيّة إلى فيلمه الصامت: "فارِسان عربيّان" الذي أَنجزه في العام 1927، ولو أنّ المُخرج مايلسون كان دَرَسَ الشخصيّة العربيّة جيّداً قبل إقدامه على صنْعِ فيلمِه هذا، فكان سيأتي بمُنجزٍ سينمائي أكثر عُمقاً وتأثيراً.
- من دون تردُّد أَجابني بورخيس: جوزيف فون ستيرنبيرغ هو مُخرِجي المُفضَّل، ولكنْ في أفلامه الأولى: "ليالي شيكاغو" - 1928، "المجد" - 1928، "شَفَقُ المُحيط" - 1928 أيضاً، "مَلعونو المُحيط" - 1929، "المَلاك الأزرق" - 1930. ولا أخفيك أنّني عندما كنتُ أُشاهد كلّ فيلم من هذه الأفلام العظيمة الساحرة، كانت عيناي تغرورقان بالدموع وتمتلىء نفسي بحنينٍ لا نظير له.
- وأكثر أيّها الصديق اللّبناني. نعم، الجمال يُبكيني ويملؤني فَرحاً خصوصيّاً لا ينضب احتياطيّه في أعماقي.
- لم أَستسِغْها، بل نفرتُ منها أشدّ النفور، وبخاصّة فيلم "أنا القاتل" وفيلم "تراجيديا أميركيّة".

  • ومن يُعجبكَ من المُخرجين السينمائيّين الرادة الكِبار في الولايات المُتّحدة؟.. مَن هو هذا المُخرج الذي تَرَكَتْ أفلامه الأثر الأعمق في ذاكرتكَ وعِظام رأسك؟
  • أإلى هذا الحدّ تبكيكَ جماليّة الإبداع الحقيقيّ سيّد بورخيس؟
  • وماذا عن أفلام ستيرنبيرغ اللّاحقة؟

*مؤسّسة الفكر العربي - مؤسسة الفكرالعربي