بين ابن خلدون وعِلم الاجتماع الثقافيّ
د. محمود الذوّادي*
لا يكاد أيّ مثقّف عربيّ اليَوم يتحدَّث عن فكر ابن خلدون إلّا بالمدْح لعقله النيِّر والسبَّاق لتيّارات الحداثة الغربيّة المُعاصِرة. ومن ثمّ، يُسرع الكثيرون من العلمانيّين العرب المُغترِبين، لغةً وثقافةً وفكراً، إلى القول إنّ مَوقف صاحب "المقدّمة" سيكون مُتفتِّحاً بلا حدود على فكر "الآخر". وهو استنتاج خاطئ جاء حصيلة الجهل بفكرِ مؤلِّف كِتاب "العِبر" الذي يدعو بصوتٍ عالٍ في "المقدّمة" إلى ضرورة مُحافَظة المثقّفين المُسلمين على حصانتهم الثقافيّة والفكريّة في رباط الثقافة الإسلاميّة، وبالتالي كسْب رهان مناعة تلك الحصانة.
يكفي هنا ذكر تحذير ابن خلدون من مَخاطر معرفة ثقافة الآخر وفكره قبل تحصين الذّات في ثقافتها وفِكرها. ففي الفصل الحادي والثلاثين من الباب السادس من "المقدّمة" يتحدّث ابن خلدون عن الفلسفة اليونانيّة التي كانت ذات أثرٍ كبير على فكر الكثير من فلاسفة المُسلمين ومُفكّريهم فيقول: "فليكُن النّاظر فيها مُتحرّزاً جهده من مَعاطبها، وليكُن مَن ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيّات والاطّلاع على التفسير والفقه، ولا يُكِبَّنَّ أحد عليها وهو خلو من علوم الملّة فقَلَّ أن يسلم لذلك من معاطبها...". اعتماداً على الرؤية الخلدونيّة، يجوز القول إنّ كثيراً من المثقّفين التونسيّين يشكون اليوم من مَعاطب في ثقافتهم الوطنيّة (الثقافة العربيّة الإسلاميّة). والأمثلة لا تكاد تحصى. مثلاً، ثمّة قسم كبير من الجامعيّين التونسيّين في الفلسفة وعِلم الاجتماع والتاريخ يملكون زاداً ثقافيّاً غربيّاً في تلك التخصّصات أكبر من نظيره العربي الإسلامي. وبالتعبير الخلدوني فهُم خالون كثيرا من رصيدٍ مَعرفيّ من الثقافة العربيّة الإسلاميّة في تلك المَيادين. أي ليس لهؤلاء المثقّفين علاقة سليمة مع ثقافتهم الوطنيّة/ العربيّة الإسلاميّة.
ابن خلدون عالِم العُمران الثقافيّ
لا يكاد يُعرف فكر ابن خلدون باهتمامه بالجانب الثقافي في المُجتمع. لكنْ يُبرِز صاحب "المقدّمة" أعلاه مدى أهميّة احتضان المثقّفين المُسلمين لثقافتهم الإسلاميّة في المَقام الأوّل باعتبارها الحصن المنيع لتحاشي هؤلاء للاغتراب/ الاستلاب الثقافي أو ما سمّاه المَعاطب. توحي الرؤية الخلدونيّة بأنّها تملك زمام علمَيْ الاجتماع والنَّفس الثقافيّين. وفقاً لرؤيتَيْ هذَين العِلمَين، فالأصل في طبيعة الأمور في المجتمعات البشريّة أن تكون لها ولمُواطنيها علاقات سليمة مع ثقافاتهم ولغاتهم. ويعني هذا أنّ تلك المجتمعات ومُواطنيها يعرفون ثقافاتهم ولغاتهم ويعتزّون ويفتخرون بها ويدافعون عنها قبل الثقافات واللّغات الأخرى. تلك هي العلاقة العضويّة التي يجب أن توجد بين ثقافات ولغات المجتمعات ومُواطنيها ومؤسّساتها.
فقدان المثقّفين والمُتعلّمين لعلاقة سليمة مع العربيّة
لم يتحدَّث صاحبُ "المقدّمة" عن مَعاطب لغويّة لدى المثقّفين المُسلمين في عصره لأنّ اللّغة العربيّة كانت سيّدة الموقف لدى هؤلاء. أمّا علاقة المثقّفين التونسيّين مع لغتهم الوطنيّة/ العربيّة فهي غير سليمة. ترتكز نظريّتنا على أبجديّة بسيطة لإقامة الناس لعلاقة طبيعيّة أو سليمة مع لغاتهم. نعتقد أنّ أبجديّة مَنهجيّتنا هذه تتضمَّن مَعالِم جديدة في الطرح تجعل الحُكم بشفافيّة سهلاً على وجود أو فقدان أو ضُعف علاقة سليمة للناس والمجتمعات بلُغاتهم. برؤيةٍ مَعرفيّةٍ، تؤكِّد هذه الأبجديّة وتقول إنّ العلاقة الطبيعيّة بين الناس ولغاتهم تتمثّل في مُمارسة أربعة بنود لميثاق اللّغات: 1- استعمالهم لها وحدها في مجتمعاتهم وبينهم في الحديث في كلّ شؤون حياتهم الشخصيّة والجماعيّة؛ 2- استعمالهم لها في مجتمعاتهم فقط وبينهم في الكِتابة. 3- المعرفة الوافية باللّغات، والمتمثّلة في معرفة معاني مفرداتها والإلمام بقواعدها النحويّة والصرفيّة والإملائيّة وغيرها. 4- تنشأ عن هذه العلاقة السليمة التفاعليّة مع اللّغات في 1و2 و3 ما نسمّيها "العلاقة الحميمة" مع تلك اللّغات، والتي تتجلّى في المواصفات النفسيّة والسلوكيّة التالية: حُبّ للّغات والغيرة عليها والدّفاع عنها والاعتزاز بها قبل أيّ لغة أو لغات أخرى يُمكن أن يتعلّمها الأفراد في مجتمعاتهم. يُمكن صياغة مقولة طرْحِنا بخصوص العلاقة مع اللّغات في مُعادلتَين شبه حسابيّتَين: 1- الالتزام الكامل بالبنود الأربعة (1+2+3+4)= علاقة سليمة مع اللّغات. و2- الالتزام الجزئي أو عدم الالتزام الكامل بالمَعالِم الأربعة (1+2+3+4) = علاقة غير سليمة، كثيراً أو قليلاً أو ما بينهما، مع اللّغات (فقدان أو ضُعف السيادة اللّغويّة). وفقاً لمُعطيات المُعادلتَين، فإنّ جُلّ المثقّفين والمُتعلّمين التونسيّين لا يتمتّعون اليوم بعلاقة سليمة كاملة لا مع لغتهم الوطنيّة/ العربيّة ولا مع عاميّتهم العربيّة.
أخطار فقدان العلاقة السليمة مع اللّغة العربيّة وثقافتها
شخَّص رافائيل باتاي (Raphael Patai)، مؤلِّف كِتاب "العقل العربي The Arab Mind" الصادر عام 1983، آثار التعليم الثّنائيّ اللّغة في مجتمعات المَغرب العربي لمصلحة الفرنسيّة وثقافتها، كما هو الحال في أنظمة التعليم الصادقي التونسي والبعثات الفرنسيّة قبل الاستقلال ونِظام التعليم التونسي بعد الاستقلال، فوجَد أنّ أنظمة التعليم تلك تؤدّي عموماً إلى الأعراض التالية لدى خرّيجيها: 1- الانتماء إلى ثقافتَين من دون القدرة على تعريف الذّات بالانتماء الكامل لأيٍّ منهما. 2- التذبْذُب المُزدوج يتمثَّل في رغبتهم في كسْب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في الوقت نفسه من دون النجاح في أيٍّ منهما. 3- اتّصاف خرّيجي تلك الأنظمة التعليميّة بشخصيّة مُنفصِمة ناتجة عن مُعايَشة عاملَين قويَّين مُتعاكسَين: الارتباط بالثقافة العربيّة والانجذاب إلى الثقافة الغربيّة. 4- عَداءٌ سافِرٌ للاستعمار الفرنسي يُقابله ترحيبٌ كبير بلغته وثقافته. ومن اللّافت هنا أنّ الأغلبيّة الساحقة من التونسيّات والتونسيّين قبل الثورة وبعدها لا ينظرون إلّا بإيجاب إلى نظام التعليم الثنائي اللّغة والثقافة كما عرفته التجربة التونسيّة قبل الاستقلال وبعده. وهي رؤية مبنيَّة على جهلٍ بأبجديّة تعلُّم لغة الغير وثقافته وعلى اعتقاد إيديولوجي استلابي يَخدم مَصالح التونسيّات والتونسيّين خرّيجي أنظمة التعليم تلك منذ عهد الاستعمار.
الاستلاب المُزدوِج
كما أشرنا، فابن خلدون تحدَّث عن استلابٍ واحد مُتمثِّل في استلابٍ فكريٍّ ثقافيٍّ عند المثقّفين المُسلمين الذين ينجذبون إلى الفلسفة اليونانيّة قبل أن يكون لديهم في المَقام الأوّل رصيدٌ مَعرفي كامل ومتأصِّل في ثقافتهم العربيّة الإسلاميّة. وفي مقابل ذلك، يشكو معظم المثقّفين والمُتعلّمين التونسيّين في الفترة الحديثة من استلابٍ مُزدوج يمسّ اللّغة العربيّة/ الوطنيّة والثقافة العربيّة الإسلاميّة باعتبارها الثقافة الأولى لهويّة المجتمع التونسي.
مُقارنةً بتهميش المثقّفين والمتعلّمين التونسيّين للّغة العربيّة/ الوطنيّة، فإنّ لغات المجتمعات الغربيّة لم يقع تهميشها بين أفرادها ومؤسّساتها. فالألمانيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة بقيت اللّغات الأولى في الاستعمال بين المُواطنين وفي المؤسّسات في تلك المجتمعات الأوروبيّة. ولا تقتصر مَكانة تلك اللّغات على مجرّد استعمالها استعمالاً شاملاً وكاملاً؛ بل ثمّة علاقات نفسيّة حميمة بين مُواطني تلك المجتمعات ومؤسّساتها ولغاتها الوطنيّة؛ إذ إنّ وجود علاقة سليمة للّغات في مجتمعاتها يشمل جبهتَين: الاستعمال الشامل والكامل للّغات الوطنيّة في كلّ أنشطة تلك المجتمعات، من جهة، وحضور مَواقف نفسيّة قويّة تُدافع عن اللّغات الوطنيّة وتتحمَّس لها وتغار عليها، من جهة أخرى. وهذا ما لا نجده اليوم لدى أغلبيّة المثقّفين والمُتعلّمين التونسيّين، وفي طليعتهم النساء اللّائي يتفوّقن على الرجال في الرغبة في حبّ استعمال اللّغة الأجنبيّة/ الفرنسيّة، وما لذلك من انعكاسات سلبيّة على علاقة أطفالهنّ باللّغة العربيّة، ومن ثَمّ بهويّتهم. وممّا يزيد الأمر تعقيداً هو أنّ الاستلاب اللّغوي الثقافي يُحدِث آثاراً سلبيّة متنوّعة نكتفي بذكر مثالَين: 1- فسادٌ في التصوّر والإدراك لدى معظم المثقّفين والمتعلّمين إزاء اللّغة العربيّة. فهم لا يستعملون، مثلاً، الحروف العربيّة في كِتابة شيكّاتهم المصرفيّة؛ إذ أصبحوا يتصوّرون القيام بذلك خطأ. أي أنّ السلوك المُناقِض/ "المقلوب" للعلاقة السليمة مع اللّغة العربيّة أصبح هو الصحيح لديهم؛ ما يجعل تلك اللّغة في حالة إعاقة لا تُشفى إلّا بسياسة لغويّة وطنيّة جادّة تضَع حدّاً للاستلاب. 2- هناك غياب أو ضعف في حاسّة النقد للفكر الغربي وثقافته عند الكثيرين من المثقّفين التونسيّين، بينما يُنقد الفكر الغربي بشدّة بين أهله. يقود المفكِّر الألماني هبرماس هذا التوجّه.
الاستلاب اللّغويّ الثقافيّ هو الأخطر
يُسمّي الفلاسفة والمفكّرون الاجتماعيّون في الشرق والغرب الإنسان كائنا مدنيّاً/ اجتماعيّاً بالطبع. ونحن نُحاجِج بأنّ الإنسان هو في المقام الأوّل كائنٌ لغوي ثقافي بالطبع. أي إنّ الإنسان كائن يستعمل اللّغة في شكلَيْها المنطوق والمكتوب اللّذَيْن هُما مصدر ميلاد ما نسمّيها لديه منظومة البُعد الثالث للإنسان (اللّغة والمَعرفة/ العِلم والفكر والديانات والقوانين والقيَم والمعايير الثقافيّة). فمن دون ذلك يصعب أن يكون هذا الإنسان مدنيّاً/ اجتماعيّاً بالطّبع. والإنسان كائنٌ ثقافيٌّ بالطّبع بسبب مركزيّة البُعد الثالث في هويّته. ويعني عندنا مفهوم البعد الثالث للإنسان تلك السّمات الثقافيّة التي يتميّز بها الإنسان بطريقة بارزة ويتفوَّق على كلّ الأجناس الحيّة الأخرى والآلات الحديثة ذات الذكاء الاصطناعي. ونَعتبر اللّغة أمَّ بقيّة عناصر منظومة الرموز الثقافيّة كلّها في البُعد الثالث للإنسان؛ إذ من دون اللّغة البشريّة لا نكاد نتصوّر حتّى مجرّد ظهور لتلك الرموز الثقافيّة، ناهيك بحضورها القويّ في دنيا المجتمعات الإنسانيّة عبر تاريخها الطويل. فالجنس البشريّ هو الوحيد الذي ينفرد بمنظومة الرموز الثقافيّة، وذلك لأنّه يتميّز عن بقيّة الأجناس الأخرى بهذا النَّوع الخاصّ من اللّغة المنطوقة والمكتوبة. إذن، فاللّغة هي أمّ الرموز الثقافيّة جميعاً. إنّ مركزيّة اللّغة والرموز الثقافيّة في هويّة الإنسان تُفسِّر، على سبيل المثال، صحّة القول المشهور في أنّ غزو عقول الناس هو أخطر أنواع الغزو جميعاً،لأنّه غزو يُطاول اللّغة ومنظومة البُعد الثالث للإنسان التي هي مكوّنات العمود الفقري لهويّة الإنسان، كما رأينا. تفيد مقولة هذة المقالة في أنّ استلاب المثقّفين والمُتعلّمين التونسيّين هو مِثالٌ حيٌّ ملموس لغزو العقول بواسطة تعرُّض لغة هؤلاء وثقافتهم للاستلاب ليس في عهد الاستعمار فحسب، وإنّما أيضاً بعد الاستقلال وبعد ما يُسمّى بـ "الثورة".
*عالِم اجتماع من تونس - مؤسسة الفكر العربي