في الحاجة العربيّة الملحّة لعلوم الإنسان
د. عبد الهادي أعراب*
في البدء، ثمّة مشكلة في التعريف يلخّصها سؤالٌ قد يبدو بسيطاً: هل هي علوم إنسانيّة أم علوم الإنسان؟ وهل هي إنسانيّة لأنّها تدرس الإنسان فقط؟
لا نكاد نطرح هذا السؤال، حتّى يتردَّد داخلنا سؤالٌ أكبر: ما جدوى هذا الصنف من العلوم في العالَم العربيّ اليوم؟ أَهي مجرَّد ترفٍ فكريّ؟ أيُمكننا الاستغناء عنها؟ ألَسْنا على الضدّ من ذلك في حاجةٍ ماسّةٍ إليها، إلى جانب العلوم الحقّة والصلبة؟ أليسَت علوماً وثيقة الصلة بالقيَم، ومن ثمّ أليست قادرةً على الإسهام في بناء مُجتمعٍ جديد وقيَمٍ جديدة؟
ارتبطَ سؤالُ جدوى علوم الإنسان بمُقارنتها بالعلوم الدقيقة، وانتظارات المعارف والتقنيّات الحديثة، أي في اتّصالٍ بمَعرفةٍ تُعدّ نافعةً على نحوٍ ملموس. لكنْ أسيصدق الأمر بالنسبة إلى علومٍ أخرى أقلّ صلابةً موضوعها الإنسان؟ هذا السؤال هو أكثر إحراجاً في مُجتمعاتنا متى استحضرنا طبيعة الأنساق السياسيّة والاقتصاديّة، والبنيات الاجتماعيّة والثقافيّة، وضُعف المؤسّسات والأنظمة التعليميّة الجامعيّة، وعدم انسجام مكوّناتها، وتشتُّت المَعارِف المُدرَّسة فيها، مروراً بهزال ميزانيّات البحث العلمي، ومن ثمّ مستوى الدراسات المُنتَجة.
يمتدّ سؤال الجدوى إلى مُختلف المراحل التي يمرّ بها المُجتمع، لكنّه يزداد إلحاحاً في فترات الأزمة. فهو ليس جديداً، كما يُمكن أن يُتصوَّر، بل يرجع لدى الغرب نفسه إلى القرنَين 18 و19، وصولاً إلى القرن العشرين، بعدما تمَّ الانتقال من عصرٍ كانت فيه فلسفة الأنوار توجِّه المَعارِف والأفكار والعلوم، إلى آخرٍ أَمست تُهيمِن فيه فلسفةُ التقنيّات الجديدة والعلوم على المَجال المعرفي والأكاديمي والصناعي والتجاري والتواصُلي. نحن إذن أمام مُنزلقات تدمير الإنسان عبر العقلنة المُفرطة ونتائج العقل الأداتي الذي لا يُتيح إمكانات واسعة للخيال والقيَم والمَشاعِر البشريّة.
أسئلة كثيرة تُطرح على المُشتغلين بصنف العلوم الإنسانيّة، بما يجعلها مدعوَّة إلى تطوير أدواتها وإعادة النَّظر في المُمارسات الفكريّة للمُشتغلين بها. أسئلة تهمّ الوظيفة والحاجة من جهة، وأخرى إبستيمولوجيّة من جهة ثانية. وما بين الأولويّة للاهتمام الابستيمولوجي على البُعد الوظيفي، ينبغي أن يحصل الاشتغال والتطوير، من داخل هذه العلوم في اتّجاه تأهيلها لأداء الوظائف المُناطة بها، ولربح التحدّيات المطروحة عليها، وخصوصاً أمام تنامي الفكر الشمولي والتحدّيات التي تطرحها العولمة التكنولوجيّة. يزداد الأمر تدميراً في مُجتمعاتنا، لأنّ نتائج العولمة تمتدّ لتطال هويّتها وقيَمها وكيانها الحضاري، لذا نرى أنّ جدوى علوم الإنسان تحملها في ذاتها بوصفها اهتماماً بالإنسان ودراسةً له. فمركزيّة الإنسان في هذه العلوم ينبغي استثمارها إيجاباً، بتحريره وبناء هويّته وصيانة ذاكرته الثقافيّة. فإلى أيّ حدّ وُفِّقت مُجتمعاتنا في المُحافَظة على هذا البُعد المَعرفي الثمين لهذه العلوم وفرض جدواها على الواقع الأكاديمي والعلمي والاجتماعي والتقني؟ هل تنبّهت بما يكفي للربط ما بين علوم الإنسان، تدريساً وتكويناً ودعماً، وبين بناء الإنسان وتحقيق التنمية المرجوَّة؟
علوم الإنسان والرّهان على الفكر الحرّ
نطرح هذه الأسئلة وقناعتنا قويّة بأنّ لهذه العلوم دَوراً في فهْم الحاضر والارتقاء بالمُستقبل. ومثلما أنّ مُجتمعاتنا لا يُمكنها الاستغناء عن العلوم الحقّة والدقيقة، فإنّها حتماً لا يُمكنها الاستغناء عن علوم الإنسان، وإلّا ستكون التكلفة كارثيّة. وعلى النقيض من تلك الادّعاءات التي ترى في هذه العلوم ترفاً فكريّاً، نرى أنّنا في أمسّ الحاجة إليها، لكونها تُسهم في بناء التنمية، بدءاً بتحرير الإنسان وتخليصه من سلطة العِلم نفسه، أو من الهَيمنة باسمه، مثلما تُخلِّصه من كلّ نزعة تيولوجيّة وجهليّة، نحو خيارات أخرى مَرِنة ومُنفتحة. ولعلّ السؤال الذي يُقدِّم عناصر للتأمُّل والمُقارَنة والإجابة أيضاً هو: لماذا نلمس تنامي الإسلامويّة والأصوليّات الدينيّة المُتشدِّدة في الشُّعَب العِلميّة والتقنيّة أكثر ممّا نلمسه في الشُّعَب الأدبيّة والإنسانيّة؟
إنّ الرّهانَ على علوم الإنسان، هو رهانٌ على الفكرِ الحرّ النّابذ للتطرُّف والمُناهِض للتزمُّت بإشاعة منطق "يُناقِض" الأحكام المُطلقة، والاعتراف بالاختلاف الخلّاق، وربْط الفرد بتاريخه وحضارته. ثمّ إنّ طبيعة المَعرفة التي تُقدّمها هذه العلوم تخصّ الإنسان في شموليّته، وتتّصل بأعمق بنياته النفسيّة والثقافيّة والسياسيّة...؛ لذا فهي تُسعفنا في فهْم أنفسنا وذواتنا الاجتماعيّة، لاستيعاب الحاضر والتحكُّم فيه عبر إنتاج مَعرفة لصيقة بالواقع الاجتماعي ومُتغيّراته الكبرى؛ كما أنّه بمقدورها ضبْط المآلات التي ستؤول إليها المُمارسات الإنسانيّة المُختلفة عبر استقراء التجارب التاريخيّة والاجتماعيّة. فهي تبحث في السلطة وطبيعة الأنظمة السياسيّة والحُكم والعنف والفقر والتطرُّف؛ كما تبحث عن الحقيقة. لكنّ الحقائق نسبيّة لا مطلقة، ارتيابيّة لا وثوقيّة، من دون أيّ تبخيس لموضوعيّتها ووجاهتها العلميّة، بالنظر إلى أنّ وسائل إثبات الحقيقة العلميّة فيها تحتاج إلى وقت طويل، وإلى أنّ صلابة حقائقها، هي غير تلك التي تنتجها العلوم الدقيقة.
يبقى أنّ أكبر الصعوبات التي تخترق وضع هذه العلوم في العالَم العربي اليوم، تتمثّل في أنّ الإنسان - موضوع دراستها - لا يُنظر كثيراً إلى أهميّته، ولا يُقام كبير وزن لإرادته وكرامته، فهو يكاد يكون مُغيَّباً بالنظر إلى نمط التنشئة الأسريّة والثقافيّة التي أُنشِأ عليها، وطبيعة المناخ السياسي الذي يُقلِّص من حريّته وحقوقه. والحال أنّ رهانات التنمية المعقودة لا يُمكنها أن تتحقَّق خارج دَور هذا الصنف من العلوم؛ ذلك أنّ مركزيّة الإنسان فيها ينبغي استثماره إيجاباً، لبناء هذا الإنسان من الداخل، بدءاً بتحريره من الجهل والتسلُّط والتعصُّب والوثوقيّات المُختلفة، ومن ثمّة الإسهام في تأسيس مُجتمع المعرفة.
التحدّيات كبيرة، وخصوصاً أنّ من نتائج العولمة انسحاب الدولة من القطاع العامّ، وتضرُّر خدمات التعليم، التي تتجلّى في تراجُع دَور الدولة في التعليم العالي العامّ، ولاسيّما في كليّات الآداب والعلوم الإنسانيّة، على الرّغم من عدم حاجتها إلى تجهيزات ماديّة كبيرة. ولأنّنا نعدُّ البحثَ العلمي الجامعي عموماً، والبحثَ في علومِ الإنسان خصوصاً، لبنةً أساسيّةً للتنمية، يُصبح السؤال ماذا أعددنا لكسب هذا التحديّ المهمّ؟ يتغيَّر العالَم اليوم بسرعة فائقة، طارحاً تحدّيات كثيرة، وقضايا ومشكلات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وبيئيّة متنوّعة، يُناط بهذه العلوم دَور مُتابعتها وفهمها وتحليلها. فكيف سيتحقَّق ذلك في ظلّ ضعف ميزانيّة البحث وغياب الاستثمار في تطوير هذه العلوم وتوظيفها؟ أليس هذا التقصير سبباً في اتّساع الهوّة التي تفصلنا عن العالَم المُتقدّم، ولاسيّما أنّ الشواهد كثيرة على ارتباط مُستقبل المُجتمعات بتطوير البحث العلمي، وتحديداً في مجال علوم الإنسان؟
من الواضح أنّ علوم الإنسان في مُجتمعاتنا تُعاني مشكلات عديدة، منها ما هو تنظيمي وبنيوي وثقافي وفكري، من دون إغفال الإرث الثقافي والتقاليد الفكريّة. لكنّنا نؤكِّد، وبعيداً عن الصور الجاهزة حولها في أنّها علوم ثوريّة أو ضدّ السلطة، أنّها ذات دَورٍ في تشريح الحاضر وفي فهم أنفسنا على نحو أفضل بإنتاج معرفة لصيقة بالواقع الاجتماعي ومتغيّراته. مثلما أنّ من مهامّها أيضاً التكوين والتربية وإصلاح المُجتمع من الداخل، عبر الأسرة والمدرسة لبناء نماذج تربويّة نبيلة وترسيخ قيَم إيجابيّة دافعة للرقيّ، وكذلك التثقيف والتنوير ضدّ أشكال التزمُّت كافّة، وتحقيق التوعية الفكريّة والسياسيّة وتنبيه الفكر إلى انزلاقاته الكبرى التي تُهدِّد جَوهر الإنسان وكرامته وكينونته. ولعلّه من غير الخافي على أحد أنّ جزءاً كبيراً من القدرة على التغيير وتفعيل الواقع، تبدأ بالأفكار والتصوُّرات الجديدة والبديلة.
يتوقّف نجاح هذه الرهانات على تشجيع البحث العلمي ورصْد اعتمادات وفيرة، لأنّه دعامة التنمية الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وكذا الاستثمار في اقتصاد المَعرفة واقتصاد الذكاء، الذي أوصل مُجتمعات العالَم المُتقدِّم إلى قمّة التنمية والرقيّ؛ فإلى أيّ حدّ تتّجه المساعي لتحقيق ذلك؟
*جامعة شعيب الدكالي - المغرب / مؤسسة الفكر العربي