من اليوتوبيا إلى الاستيطان

news image

د. عبد الله إبراهيم*

ما إن عَرف الأوروبيّون، في بداية القرن السادس عشر، بوجود قارّةٍ تَقعُ إلى الغرب من قارّتهم في ما وراء بحر الظلمات، حتّى هامَ كثيرون بها، فقصدوها، واستوطنوها، وذهبَ إليها كلُّ طامِعٍ بالثروة وباحثٍ عن الأمان، وآلت إلى "يوتوبيا" في نَظرِ بعض المُفكّرين والأدباء، فشدّت إليها الرّحال بسُفنٍ كثيرة شقَّت عباب المُحيط الأطلسيّ.

إنّها مَوطِنٌ جديد يستحقّ المُغامَرة، فكلّ شيء فيه طريف وثريّ، والأوروبيّون أَحقّ به من غيرهم. لا يجوز، طبقاً للرؤية الاستيطانيّة التي مهَّدت لها الغزوات الاستعماريّة، مُراعاة أحوال الجار، وإقامة صلة طيّبة معه، بل غزوه، ومحوه، وامتلاك أرضه. وكان الإغراء بذلك مُبكّراً، وقد أَسهم الأدبُ السردي فيه إسهاماً مُباشراً، إذ جَعَلَ "توماس مور" من الشخص الرئيس في كِتابه "اليوتوبيا"، ويدعى "هيثلوداي" مُرافِقاً لأمريكوس فيسبوتشي الذي ادّعى فيها اكتشاف "العالَم الجديد"، وخَلَعَ عليه اسمه، فأصبحت "أميركا" وإنّه، في آخر رحلة، اتّخذ قرار البقاء فيه، لأنّه "كان شخصاً أكثر رغبةً في الترحال منه خوفاً من القبر"، فبقي هيثلوداي في تلك القارّة، وترحَّل فيها، وكَسبَ ودَّ أهلها، وتآلَفَ معهم، فوَجَدَ "مُدناً وبلاداً ودولاً آهلةً بالسكّان، وتخضع لقوانين مُمتازة عادلة"، تختلف اختلافاً تامّاً عمّا يوجد في أوروبا العتيقة المُتحارِبة.

أَراد هيثلوداي مَعرِفةَ عالَمٍ جديد يختلف عن عالَمِه القديم، فبَدأ أسفاراً انتهَت به إلى جزيرةٍ فيها شعبٌ هانئ البال، هي "يوتوبيا"، حيث أمضى فيها خمس سنوات عاد إثرها إلى الديار الأوروبيّة حاملاً فكرة ثريّة عمّا رأى من عجائب العدالة والرفاه والأمان، فالحُكم فيها عادل، والذهب كالتراب، والخَير وفير، والحريّة مكفولة، والسِّلم قائم، والعلاقات بين الناس مُتوازِنة، ولا وجود للملكيّة الفرديّة، ولا أثر للتمايُز الطبقي، ولا الديني؛ فلا طَمَع، ولا جشع، ولا عُنف، ولا استغلال، ولا فقر.

وَجَدَ هيثلوادي في ذلك العالَم كلَّ ما جَعَلَ من أوروبا أرضَ ظُلمٍ، وفساد، وعدوان. فما الذي يَمنع الأوروبيّين من شدّ الرحال إليه ما دام قد تعذَّر عليهم إصلاح عالَمهم؟ قوبِل الوافدُ الغريب في تلك الجزيرة بالتقدير، والرعاية، وأكثر ما لفتَ انتباهه العدالة من حقوق وواجبات، والنظام الدقيق من ترتيب شؤون الحياة بكلّ وجوهها، والرفاه في العيش والأمان، وراح ينصح بني قومه الاقتداء بما فيها قائلاً "يُمكن أن تَتَّخذَ منها مُدنُنا وشعوبُنا وأجناسُنا ومَمالِكُنا مَثَلاً يُحتذى لاصلاح أخطائنا وعيوبنا".

نَشَرَ توماس مور كِتاب "يوتوبيا" مع بدايات ورود الأخبار المُغرية عن تلك القارّة الجديدة والثريّة والمُسالِمة، فأَسهم في لفْتِ اهتمام الأوروبيّين إليها واستيطانها، فقد رَسَمَ صورةً مثاليّة لعالَمٍ يصلح أن تقتدي به مَمالِكُ أوروبا. ولمّا كان من المُتعذّر حدوث ذلك الإصلاح في عالَمٍ غرقَ في الفساد والعنف، فالأولى الرحيل إليه، واستيطانه، وأرجح أنّ التماهي بين يوتوبيا مور، والعالَم الجديد، قد أغرى كثيرين للارتحال إليه، ومع ما للقطع في الرأي من خطر الوقوع في الخطأ، فيُمكنني القول إنّ الكِتاب مَهَّد السبيلَ لاستيطانِ العالَم الجديد، وبخاصّة أنّ الكِتاب لاقى قبولاً مُنقطِع النظير إثر نَشره، وإعادة تأويله على أنّه مدوّنة تبشيريّة يجعله مُتورِّطاً في إثمٍ طالما حذَّر منه. فهل ينبغي العثور على صلةٍ بين هَدف كِتاب "يوتوبيا" وظهور فكرة استيطان "العالَم الجديد"، بخاصّة أنّه أَثار شهيّة الراغبين في الارتحال إليه؟

نُشِر كِتاب "يوتوبيا" مع بداية ظهور الحركة الاستعماريّة، وتأثَّر بأخبارِ فتوحاتها، ومع أنّ الوجهَ الخَفيّ له هو هجاء "العالَم الواقعي" الذي عاش مور فيه، وشهدَ اختلالَ مَوازينه، وعرفَ سوءاته، وغَسَلَ يدَيه من سُبلِ إصلاحه، وانتهى ضحيّةً من ضحاياه، فبديله عنده هو "العالَم المثالي" الذي أَفاضَ في وصفِ مَحاسنه بأسلوبٍ خلّابٍ يَجتذب إليه كلّ مُتلقٍّ. أَنطق مور هيثلوادي بما أراد قوله من أفكار، فهو قناعه الشفّاف الذي لم يحجب وجهَه، إنّما أَفصح عنه، كما جَعَلَ أفلاطون من سقراط نائباً له عمّا أراد الإفصاح عنه. غير أن ما يرجّح تأويل إسهام الكِتاب في الترويج لاستيطان العالَم الجديد، ما قَصَدَهُ مور بجعْلِ هيثلوداي بحّاراً في حملات أمريكوس فيسبوتشي، فقد كان بحّاراً في حملات الاستكشاف الاستعماريّة الأولى.

من أين استعار مور مَلامِح العالَم الذي جَعَلَهُ موضوعاً لكِتابه؟

في الجواب عن السؤال أورد ما يأتي: ثبتَ أنّ مور اطَّلع على رحلات فيسبوتشي الأربع للعالَم الجديد التي ظهرت في كِتاب في العام 1507، أي قبل زهاء عشر سنوات من ظهور "يوتوبيا"، وقوامها وصْف العالَم الجديد بطريقةٍ جاذبة للاهتمام.

كما اطَّلع على كِتاب "الأيّام العشرة في العالَم الجديد" لمؤلِّفه بترو أنيريا الذي ظهر في العام 1511، وفيه وصْفٌ لجزيرة كوبا وأهلها بشيءٍ يُقارب ما ظَهَرَ في كِتاب "يوتوبيا". وإلى ذلك كان مور على اطّلاعٍ بما راحَ يُشاع عن حضارة "الإنكا" في أميركا الوسطى، وقد بدأ الإسبانُ بالقضاء عليها بحملاتٍ قادَها كورتيز، وأزالوها عن الوجود. عرفَ مور كلّ ذلك بحُكم شغفه بالمَعارف، وبحُكم كونه أرفع مسؤول في التاج البريطاني، والشخصيّة المُقرَّبَة من الملك هنري الثامن، ومن ذلك استخلَص عالَماً مثاليّاً بمزج جملة من الوقائع والأخبار والمُتخيّلات السرديّة التي رسمت لها صورة إغوائيّة اجتذبت اهتمام الراغبين في مَعرفة ذلك العالَم، وقد تُرجم الكِتاب الذي كُتب باللّاتينيّة، غير مرّة، إلى مُعظم اللّغات الأوروبيّة.

"لاس كاساس" شاهد عيان

لا خلاف في أنّ يوتوبيا مور لها صلة بالعالَم الجديد الذي ارتَسمت له صورةٌ برّاقة في العقود الأولى من القرن السادس عشر، لكنّ الخلاف حول مَكانها فيه، كما وَرَدَ ذلك في مُقدّمة الكِتاب من أنّ خبرها شاعَ بين الأوروبيّين، حتّى أَضحت مهوى أفئدة الراغبين في استيطانها، حتّى أنّ أحدَ رجال الدّين طَلَبَ أن يُرسِّمه البابا أسقفاً عليها لنشْر العقيدة المسيحيّة. وعلى الرّغم من ذلك، وتحاشياً لشططِ تأويلِ الآثار السرديّة التي تتولّى تمثيل مرجعيّاتها بطريقةٍ شفّافة، فإنّي أَحترِزُ في قَوْلِ إنّ كِبار مُفكّري عصر النهضة، ومنهم مور، كانوا من دُعاة الفكرة الاستعماريّة بالمحمول الشائع عنها الآن، إنّما كان من أنصارها بوصفها فعلَ إعمارٍ وبِناءٍ وتأهيل، ومنها اشتُقَّ مُصطلح للاستعمار، وعلى هذا لم يُقابَل الاستعمار برفْضٍ من مُعظم مُفكّري الغرب بعد تلك الحقبة، مثل ديكارت، وهيغل، وماركس، وقبل هؤلاء كان دُعاة الخروج على رتابة العالَم القديم، وظُلمه، ومَفاسده، مثل إيرازموس، ومونتاني، ورابليه، وغيرهم من ناقدي الاستبداد والانحطاط والظلم يحلمون بعوالم جديدة تُطابِق أحوالها ما وقع اكتشافه من بلاد خلف البحار والمُحيطات.

وفي هدى الأحلام بعدالةٍ تَعذَّر إقامتها في بلاده، رَسَمَ مور عالَماً بديلاً استعارَ مقوّماته ممّا أَشاعته الكشوفات عن العالَم الجديد، ودَعَمَه بأفكارٍ من الموروث القديم عن المُدن المثاليّة، وبهذا المعنى، يصحّ تأويل كِتابه على أنّه دعوةٌ للتعرُّف إلى العالَم الجديد، واستيطانه، ومُحاكاته، وبخاصّة أنّه جَعَلَ من الكهنة مُبشِّرين للعدل والخَير فيه، وكان مور من أنصارهم، حتّى خَطَرَ له أن يُصبحَ كاهناً. فهل تعاظَمَ الإغراء بالارتحال إلى ذلك العالَم أم انحبس بين دفّتَيْ كِتاب؟ في الحقيقة تعاظَمَ الإغراءُ بعالَمٍ أَصبح يَجتذبُ إليه أعداداً هائلة من المُستوطنين، فتلك بلاد الثراء والكرم والأمان، وأهلها حرَّموا أعراف القتل، ولا يحلّون خلافاتهم بالقوّة، ويتباهى مُحاربوها بحمْلِ أسلحة غير قاتلة، فمفهوم الحرب لديهم غير مُقترِن بالقتل، بل بالردْع، فأضحوا فرائس سهلة الاصطياد لغُزاةٍ كان الدمُّ هو شَرابهم.

وبعد مدّة قصيرة من ظهور كِتاب مور، دوَّنَ المطرانُ الإسباني "لاس كاساس" شهادةً من الدرجة الأولى عن العالَم الجديد، أي رواية شاهد عيان، لأنّه سَلَخَ مُعظم سنوات عمره بين أهالي تلك البلاد، وقدَّمها للوصيّ على عرش المَملكة الإسبانيّة مُحذِّراً من نتائج الأعمال المُشينة للإسبان فيها، ووَرَدَ في سياقها أنّ أهلها أهل صدق ووفاء وسلام، ولم يأتِ على ذكر سوءة واحدة تنال منهم، فهُم: أسعد شعوب الأرض، وبلادهم أكثرها سلاماً وطمأنينة، وهُم أهل وفاء، وتواضُع، وصبر، لا يعرفون الشرّ، ولا الضغائن، ولَم يعهدوا العنف ولا الخصام، ويجهلون الحقد والكراهيّة، ويعفّون عن الثأر والانتقام، ولذلك "غشي الإسبانُ هذه الخراف الوديعة غشيان الذئاب والنمور والأسود الوحشيّة التي لم تَجِد طعاماً أيّاماً وأيّاماً. ومُنذ أربعين سنة وهُم يُقطّعون أوصالها، ويقتلونها، ويروّعونها، ومنذ أربعين سنة وهُم يفتكون بها، ويعذّبونها، ويُبيدونها. كلّ يَوم فظاعة جديدة غريبة مُختلفة لم نسمع عنها، ولَم نقرأ عن مثلها من قَبل". تلك شهادة عن واقع حال الأقوام الأصليّة في العالَم الجديد. ولكي يُبرئ ذمّته، تَرَكَ كاساس، قبل وفاته، وصيّةً أَنذر بها إسبانيا بسوء المصير ممّا اقترفته من آثامٍ بحقّ شعوبٍ آمِنة، قال فيها "أعتقدُ أنّه بسبب هذه الأفعال المارِقة والمُجرِمة والشائنة التي اقتُرفت بشكلٍ بالِغ الحَيف والاستبداد والبربريّة، فإنّ الله سوف يصبّ على إسبانيا غضبَه وحنقَه، لأنّ إسبانيا كلّها، قليلاً أو كثيراً، قد نالت نصيبها من الثروات المُمتزِجة بالدمّ، والتي جرى اغتصابُها عبر كلّ هذه الخرائب، وكلّ هذه الإبادات".

بعد نحو ربع قرنٍ ممّا دوَّنه ذلك الراهبُ من شهادةٍ فريدةٍ من نَوعها، دوَّنَ رحّالةٌ فرنسيٌّ يُدعى "ليري" وقائع رحلةٍ قامَ بها إلى البرازيل، وكانت فرنسا قد التحقَت بالركب الاستيطاني بعدما سبقتها إليه كلٌّ من إسبانيا والبرتغال وبريطانيا، وأَورد في رحلته أنّه عاشَر أقواماً مُسالِمة، لا شَيْبَ يُخالِطُ شعورَ كبارِ السنّ فيها، لأنّهم لا يسلخون أعمارهم في الارتياب، والبخل، والجشع، والشجار. والشرف هو الدافع الوحيد للحروب في ما بينهم، حتّى أنّه شَعَرَ، وهو الغريب، بالأمان بين ظهرانيهم أكثر من شعوره به بين "الفرنسيّين الغدّارين المُنحلّين". وكان مُعاصره "مونتاني" قد اطّلع على تلك الرحلة، وأُعجب بها، ونَجح في اللّقاء ببعض أهالي تلك البلاد الذين جَلبهم المُستوطنون الفرنسيّون، وخصّهم بذكرٍ حَسَنٍ في كِتابه "المقالات" بوصفهم "أمّة" لا تَعرف الظلم، والاضطّهاد، والاستعباد، والمال، والقلق، والخَمر، وأفرادها "لم يسمعوا عن كلمات تعني الكذب، والغدر، والنفاق، والشحّ، والجشع، والحسد، والاحتقار، والاعتذار". وعلى مثل هذه الأوصاف وسواها انبنت صورة "المُتوحّش النبيل" التي أَلهمت الآدابَ الرومانسيّة بكثيرٍ من التخيّلات في الآداب الإنكليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة، وقد غذّاها ديدرو وروسّو وسواهما بكثيرٍ من التفاصيل المُثيرة، وثَبَتَ أنّ كُتب التخييل السردي أشدّ تأثيراً في تأجيج الرغبة في الاهتمام بموضوعاتها من سواها، وقد فَتح كِتاب "يوتوبيا" بوّابةَ الشغفِ بالعالَم الجديد.

*كاتب من العراق - مؤسسة الفكر العربي