"مؤسّسةُ الفكرِ العربيّ" ولادةُ مشروعٍ نهضويٍّ ونَهْجٍ جديد
في بيروت وُلِدت فكرةُ المؤسّسةِ ثمّ نَمَت وتطوَّرت.
في العاصمة اللّبنانيّة، وخلال احتفاليّة “بيروت عاصمة للثقافة العربيّة” في التاسع والعشرين من أيّار/ مايو عام 2000، توجَّه صاحب السموّ الملكيّ الأمير خالد الفيصل إلى نُخبةٍ من المفكّرين والمُثقّفين العرب، مدفوعاً بتَوقٍ كبيرٍ إلى “لقاءٍ عربيٍّ جامِع”، كما عبّر هو بنفسه في تلك المُناسبة. ففي زمن احتدام الأزمات وتفاقُم المَخاطر، لا بدّ أن يجتمعَ شملُ الإخوة، فكيف إذا كانت هذه الأزمات والمَخاطر تُهدِّد العرب في وجودهم ومصيرهم؟
إنّه النّظام العالَميّ الجديد الذي يعتمد قاعدة “البقاء للأقوى”، كما أشار سموّه في تلك الاحتفاليّة، أي بقاء تلك “الكيانات” الكبيرة، العاكفة على توظيف فكرها وإمكاناتها التوظيفَ الذي تراه هي مُناسباً، فيما يتناثرُ الصغارُ هنا وهناك وهنالك، وليس لهم سوى الفتات والدَّوران في فلك الأقوياء.
إنّه النظام الذي تمخَّض عن نظريّة “العَوْلَمة” التي تُحاول مع انطلاقة الألفيّة الجديدة “أن تتصدّى لحلّ المُعادلة الصعبة بين طَرَفَيْن: الأوّل يعتمد سياسة الفكر المُتجدِّد، والانفتاح على كلّ شيء (بلا حدود)، كما يمتلك معظم الثروات والمَوارِد والأصول الثابتة لقوام البناء الحضاريّ للقرن الجديد، وفي مقدّمتها العلوم والمُنتجات التقنيّة. أمّا الطَّرَفُ الآخر، فهو الأقلّ حظّاً في كلّ تلك المجالات، إذ لا يملك من مَجدِ الحاضر إلّا القليل، بينما تمتلك غالبيّةُ هذا الفريق مجدَ الماضي مُتمثِّلاً في عقيدةٍ وتراث. وبسبب هذا التناقض الواضح يُصبح الطَّرَفُ الأخير هو الأكثر تخوُّفاً من الدخول في دوّامة العَولَمة. ويدور في الصدر سؤالٌ حائر: لمصلحة مَن سيكون حلّ تلك المُعادَلة شبه المُستحيلة؟! .. وعلى حساب مَن؟!”.
في مُواجَهةِ هذه التحدّيات الدّاهمة، وكما تتفّق على ذلك مُختلف النظريّات الحديثة في علمَيْ الاجتماع والنَّفس وغيرهِما من العلوم، لا بدّ أن تتحرّكَ غريزةُ البقاء أو الحياة. لكنّ هذا السلوك، وإذا ما تُرك على عواهنه، غدا تعصُّباً بغيضاً، سواء اتّخذ هذا التعصُّبُ شكلَ تغنٍّ أعمىً بأمجاد الماضي، أم شكلَ تنكُّرٍ صارخٍ للهويّة العربيّة وتعشُّقٍ غير مُبرَّرٍ لحضارة الغير دونما تمييز بين الموافق منها لثوابتنا والمُخالِف لها. لذا عوَّلَ سموُّ الأمير خالد الفيصل على العقل وعلى أرباب الفكر في توحيد الصفّ العربيّ والنهوض بالأمّةِ قائلاً: “إنّ مهمَّة النجاة بالأمّة، إنّما تقع دائماً على عاتق أرباب الفكر، فهُم الأقدر على تأسيس المَفاهيم السلوكيّة التي تربط بين الناس، وتُشكِّل لحمة النسيج لكلّ أمّة”.
وإذا كان الأمل معقوداً على العقول العربيّة، فلا بدّ من برنامجٍ فكريّ مُتكامِل، يُحقِّق وحدةَ العرب وتضامُنَهم، ولا بدّ بالتالي من اجتماع أرباب الفكر العرب تحت “مظلّة مؤسّسة فكريّة عربيّة، تُعنى بالعلوم والآداب والفنون، وتُشجِّع الإبداع وتكرِّم المُبدعين، وبخاصّة أولئك الذين يتوجّهون بنشاطهم لخدمة فكرة التضامُن العربيّ ولَمّ شتات الأمّة”. فكانت دعوةُ سموّ الأمير إلى الموسرين العرب لكي يستثمروا رأس مالهم وإنفاق رَيعه على أنشطةِ هذه المؤسّسة التي أرادها أن تكون عربيّةَ الانتماء والهوى، أهليّةَ الصفة، رغبةً منه في استقلاليّتها عن الأنظمة الرسميّة.
تحقَّقَ الحُلمُ، وقامَتِ المؤسّسةُ، التي سُمّيت “مؤسّسة الفكر العربيّ”، تعبيراً عن الحُلم بأن يضطّلعَ الفكرُ العربيّ بدَوره في توحيد الصفّ العربيّ والنهوض بالأمّة.
وإذ لاقت هذه الدعوةُ التجاوبَ من الموسرين ورجال الأعمال الوطنيّين المَهمومين بالشأن العامّ، عبَّر سموُّ الأمير خالد الفيصل عن شكره لهم خلال افتتاح المؤتمر التأسيسيّ لمؤسّسة الفكر العربيّ في القاهرة بتاريخ 2/6/2001، بالقول: “يسرّني أن أتقدَّم بالشكر الجزيل منكم على أريحيّتكم التي وَهبتْ لهذا المشروع الحياة، بعدما كان مجرّد فكرة تُراوِح في عقلي وفي عقل كلّ عربيّ مهموم بشأن أمّته، فجاءت استجابتكم الكريمة تجسيداً للفكرة على أرض الواقع، ممّا يؤكِّد أنّ أمّتنا - ولله الحمد - لا تزال بخير ما دام فيها أبناءٌ بَرَرة، لا يألون وقتاً ولا جهداً ولا مالاً من أجل أن تَبرأ من عِللها، وتعود إلى سابق عهدها، قويّةً بذاتها، مؤثِّرةً في غيرها”.
واليَوم، إذ نُحيي ذكرى مرور عشرين سنةً على انطلاق “مؤسّسة الفكر العربيّ”، نُجدِّد التزامَنا بالرسالةِ الفكريّةِ والثقافيّةِ التي أُنشِئت من أجلها، وعبَّرَ الأميرُ خالد الفيصل باسم جميعِ مَن آمنَ بها ودَعَمَها عن توجُّهاتِها المُستقبليّة حين قالَ في افتتاحِ مؤتمرِها التأسيسيّ: “ارتضينا، بمحض إرادتنا، حمْلَ هذه الأمانة أمام الله، ثمّ أمام التاريخ، تحدونا عزيمةٌ صادقة، ويدفعُنا انتماءٌ حقيقيٌّ لأُمّتنا الواحدة، واضعين في الحسبان ألّا تكون هذه المؤسّسةُ تكراراً لغيرها من المؤسّسات التي تؤثِرُ الوقوف على أعتابِ الماضي والتغنّي بالتراث، بل يجب أن تعتمدَ توجُّهاتٍ واهتماماتٍ مُستقبليّة، وأن تسعى إلى تحقيقها بوسائل العِلم والتقنيّة المُعاصِرة”.
إنّ مؤسّستنا مدعوَّةٌ اليَوم، في ضَوء ما حقَّقته من إنجازاتٍ وما راكَمته من خبرات، وبهدي رؤى مؤسِّسها، ودعمِ أعضاء مجلسَيْ أُمنائها وإدارتها، وعطاءاتِ المُثقّفين والمُفكّرين والخُبراء الذين آمنوا برسالتها، وتعاوُنِ شركائها، وجهودِ أسرة العاملين فيها، إلى مُواصَلةِ مَسيرتِها في خدمة أهداف التنوير والتنمية والتكامُل والتحديث والتطوير، والاضطّلاع بمسؤوليّة المُشاركة في التصدّي لما تتعرَّض له دولُنا ومُجتمعاتُنا من تحدّيات، والإسهام في تحقيق نهضتها المَرجوَّة وبناء مُستقبلها الآمن والزّاهر.