هل نحنُ في مَرحلةِ بُزوغِ حضارةِ جديدة؟
د. غسّان مراد*
في عالَمنا اليوم نشهد تسرُّعاً في البحث عن أفكارٍ تُنبئنا بما سيحصل، انطلاقاً من مقولة “ما بعد الحَدَث”، وكأنّ الأحداث والأزمات أَتتْ من العَدَم، وبصورةٍ مُفاجِئة، ولم يكُن لها “ما قَبل”!
وكأنّنا أيضاً في حالةِ ضَياع، لا نَعرف كيف نأخذ مَفهومَ الأزمةِ على مَحْمَلِ الجدّ، على الرّغم من أنّ العالَم برمّته يَعيش حاليّاً أزمةَ وباءٍ عالَميّ يتخبّط البشرُ إزاءه ويَفشلون في بناءِ عالَمٍ مُشترَك. بشرٌ، يتأرجحون ولم يَعودوا يَعرفون مَكان وقوفهم في التاريخ.
يَصِفُ مُصطلحُ الأزمة أيَّ حَدَثٍ يؤدّي إلى عَزْلِنا عن العالَم وحرماننا من تجربتنا المُعتادة في الحياة. هو لقاءٌ فريد وجهاً لوجه بين الذّات والأشياء الأساسيّة التي عادةً ما تتمّ تغطيتها من خلال الأفكار الجاهزة والأحكام المُسبقة. واليوم، أجبرتنا أزمة كوفيد 19 على خلْع الأقنعة (ووضْع أقنعة أخرى) عن الأزمات كافّة، والتعامُل مع ما يحصل من دون “قفّازات”، قبل أن نتمكّن من تقديم إجابات.
بعيداً من تداعيات الكورونا، نعيش اليوم أزماتٍ شتّى، فالسلطات بأجمعها باتت مهزوزة: سلطة المعلّم التي خلقت أزمة تربويّة، سلطة الوالدَين التي ولَّدت أزمةً على صعيد العائلة، سلطة رأس المال التي ولَّدت أزمةً اقتصاديّة، سلطة الحكّام التي ولّدت أزمةَ رجالِ السياسة الذين لا يعرفون كيف يجدون الحلول، سلطة المؤسَّسات الدينيّة التي أصبح بعض رجال الدّين فيها يستغلّون النصّ الدّيني لغير الدّين والإيمان، سلطة المصارف العالميّة التي تتحكَّم بالعالَم، وسلطة المؤسّسات التجاريّة التي تتحكَّم بالأسواق العالَميّة.
وتتجلّى صعوبة تقديم إجابات لحلّ أيّ أزمة عندما لا نفهم العالَم إلّا بالأدوات الفكريّة القديمة لفهمه، وهو ما يُبعدنا عن الواقع المعيش ويحول دون إيجاد الحلول المناسبة.
إنّ ما يحدث من أزمات، بما فيه فيروس كورونا، كان متوقّعاً لدى الكثير من العُلماء، ولكنْ لم يؤخَذ بالحسبان لأسبابٍ عدّة:
أوّلاً، أنَّ الإنسان يعتقد أنَّه يسيطر على كلّ شيء، ويستطيع أن يفهم كلّ شيء ويفسّره. وهذا يعيدنا إلى شكلٍ من أشكال التواضع في مُواجَهة قوّة الأشياء وطبيعتها التي لا يُمكن التنبّؤ بها.
ثانياً، مَن يُسيطر على الاقتصاد ويُسيِّر السياسات العالَميّة لا يهتمّ مطلقاً بما سيحصل لهذا الكائن وغيره، فالمُهمّ عنده هو اقتصاد السوق والسيطرة على الأفراد والمُجتمعات وتسييرهم.
ثالثاً، تؤكّد الدراسات حول كيفيّة استغلال الفيروسات في الحروب البيولوجيّة أنَّ المُختبرات تقوم بتجارب بهدف التسليح البيولوجي، وتشدِّد على ضرورة تأمين سُبل الوقاية، وتحثّ الدول على أن تكون مجهَّزة للحماية من أيّ تفلّت.
رابعاً، تتعامل السّلطات مع الإنسان وكأنّه رقم، وبات كلّ شيء يُفسَّر بناءً على الإحصاء والحساب. وبما أنّنا في مرحلة “البيانات الضخمة”، فإنّ ما يحصل من تفسيراتٍ لها لم يُساعد في إيجاد حلولٍ لأيّ أزمة!
خامساً، حاول العديد من الحكّام في الغرب تطبيق ثقافة البقاء للأفضل، وبرزت من خلال ذلك ديماغوجيّة الغرب وإنسانيّته.
سادساً، على الرّغم من كلِّ التطوّر في الخوارزميّات وفي برمجيّات الذكاء الاصطناعي، فإنّ الأزمات تتفاقم.
إذن، ما الَّذي يحدث، هي نقطة البداية للتفكير في أوقات الأزمات!
من المُفترض في هذه الظروف أن نتعلَّم كيف نخلق علاقة مناسبة بين الماضي والحاضر. ويجب البحث عن رؤية فكريّة جديدة منطلقة من هذا الواقع، من دون قطيعة معرفيّة مع السابق من منظور تشخيص الواقع وفقاً لتقنيّات فلسفة العِلم.
إذا ما اعتبرنا أنّ الأزمات هي المُسبِّب الأوّل للتغيير، يصبح البحث عن مفاهيم جديدة حتميّاً، بمعنى البحث عن نموذجٍ فكريّ جديد يتناسب مع هذه التغيّرات الحياتيّة. وهنا تكمن صعوبة الدراسات، لأنّه من غير السهل بناء قواعد ثابتة للسلوك البشري، فهو في حالة تغيُّرٍ مستمرّة ويتبع حركة الفكر.
وبما أنّ العالَم يتأرجح بين ثقافة المطبوع والثقافة الرقميّة، فقد برزت مفاهيم، مثل الثورة الرقميّة، الثقافة الرقميّة، الإنسانيّات الرقميّة، التعليم الرقمي، الأدب الرقمي، الديمقراطيّة الرقميّة، الفجوة الرقميّة، السيطرة الرقميّة، المخدّرات الرقميّة، الحكومة الرقميّة، القوانين الرقميّة...
ومثلما برزَ مفهوم الذكاء الجماعي، يبرز مفهوم الخوف الجماعي!
تفاقُم الأزمات على أنواعها
هذه المصطلحات كانت مَوضع نقاش حول مدى تأثيرها على البشر، ولكنّ الأزمة ثبَّتتها، ولم تعُد يُطرح ما إذا كانت مُناسبة للإنسان أو غير ذلك.
انطلاقاً من التشخيص النسبيّ للواقع، دفعتنا الأزمة الرّاهنة إلى تبنّي التقنيّات كحلّ لكلّ الأمور الحياتيّة، في الوقت الذي كانت فيه أحد أسباب تفاقُم الأزمات على أنواعها. يعود ذلك إلى أنّ انتشار كورونا السريع كان مرتبطاً بالتطوّر التقني، وبإلغاء المسافات فيزيائيّاً وافتراضيّاً، ما سهَّل عمليّة انتشار الوباء الذي أدّى، كما في المرّات العشر السابقة التي انتشر فيها وباءٌ عالَميّ منذ ما قبل الميلاد وحتّى يومنا هذا، إلى الحجْر والتباعُد الاجتماعي.
وهنا يأتي دَور الرقْمنة التي تدفعنا إلى تبنّي الفكرة المُحتملة القائمة على أنّنا نشهد مرحلة بناء حضارة جديدة، هي حضارة الإنسان الرقمي التي نُعرّفها على أنّها منهجيّة إبداع في العلوم الإنسانيّة، جرّاء التداخُل بين الثقافة بمفهومها الواسع والرقمنة، فعندما يُصبح التواصُل المُباشر صعباً، فإنّ الاعتياد الدائم على استخدام التقنيّات كوسيلة للتواصل يُصبح الأساس.
لذلك، تُطرح أسئلة من مثل: ما هي المعايير التي من المُفترض الارتكاز عليها لبناء منظومة القيَم واجتراح المَفاهيم الجديدة؟ هل ستَطرح الرقْمنة معايير جديدة مُستورَدة؟ وهل تُناسِب هذه المعايير رؤيتنا للفرد، وتتلاءم مع ثقافته وتُناسب مُعتقداته؟
أوّلاً، نعلم جيّداً أنّ معظم الفلاسفة أفردوا حصّة وازنة في رؤيتهم للأفراد والمُجتمعات لفلسفة التربية، فتنمية سلوكيّات الأفراد من خلال آليّات اكتساب المعرفة تحدِّد المستقبل الذي من المُحتمل أن تتّجه إليه المُجتمعات، وتكون ركيزة تطوّره أو تخلّفه. واليوم، بات التعليم يتمّ عن بُعد.
ثانياً، انتقلنا من المُواطِن والمُواطَنة الشائعة إلى المُواطِن الرقمي والمُواطَنة الرقميّة، فما هي ركائزها؟ وما هي المهارات والكفاءات التي من المُفترَض توافرها في المجال؟
ثالثاً، انتقلنا من مفهوم الهويّة المُتعارِفة، والمُكتسَبة جينيّاً واجتماعيّاً، إلى الهويّة الرقميّة، فما هي مُستلزماتها؟ وكيف ستُمارَس سلطة المجتمع الضمنيّة على الفرد؟
رابعاً، كيف سنتعامل مع المُراقبة الرقميّة؟ وهل سيُصبح الإنسان معرَّضاً للشرائح الرقميّة المغروسة في جسده؟ ونُصبح جميعاً مجموعات من السبورغ؟
خامساً، صعود الفردانيّة في العلاقات والشخْصَنة في المعلومات جرّاء الخوارزميّات التي ترتكز على المُراقَبة الدائمة للأفراد، خورزميّات تحبسنا في فقّاعة لكي تصبح السيطرة أكثر سهولة.
سادساً، برمجيّات الذكاء الاصطناعي ستُصبح أساسيّة في الحياة، شئنا أم أبينا، فهل العالَم مهيَّأ لواقع الذكاء الاصطناعي الذي يدفعنا إلى اتّخاذ قراراتٍ يريدها المبُرمِج؟
سابعاً، السمعة الرقميّة التي تتكوّن من تشارُك الأفراد في تقييم بعضهم بعضاً، فضلاً عمّا يبدونه من آراء. ففي الفضاء الرقمي، أن يراك الآخرون هو أمر أساسي، ويترتّب عليه مُشارَكة معلومات وتفاصيل وسلوكيّات شتّى، فكيف نضمن الخصوصيّة وبياناتنا في هذا المجال؟
ثامناً، العمل عن بُعد، الذي يطرح إشكاليّة جديدة في سوق العمل، وسيغيّر عدداً من الإجراءات والخدمات الإداريّة والمَوارد البشريّة. فكيف سنبني علاقة الثقة بشكلٍ مُختلف. لا شكّ في أنّ قيادة الغد لن تعمل بالطريقة نفسها!
هل سَيطَر الإنسان حقّاً على كلّ شيء؟
أمام ذلك كلّه، نواجه خَيارَين مُهمَّين بشكلٍ خاصّ؛ الأوّل يدور بين المُراقَبة الشموليّة وتمكين المُواطنين، والآخر بين العزلة في بلدٍ ما والتضامُن العالَمي، فما هو مُمكن من خلال ما تتيحه التكنولوجيا هو المُراقَبة المُستمرّة للجميع، ونحن نعلم جيّداً أنّ المُخابرات العالَميّة لم تكُن تستطيع قبل الطفرة التقنيّة مُراقَبة السكّان في أيّ بلد على مَدار الساعة. أمّا الآن، فالخوارزميّات باتت أقوى من أيّ قوّة بشريّة تُراقِب الناس، فكيف نُحافظ على الخصوصيّة؟ بالطبع، ليس عن طريق المُراقَبة والتجسُّس، ولكنْ من طريق تمكين المُواطنين. فالمُراقَبة المركزيّة والعقوبات لا تُساعد بقدر ما يفعل تبسيط العلوم ونشْر الحقائق العِلميّة.
وعلينا أن نفهم أنّ كلّ شيء بات مُعولَماً اليوم، حتّى المرض نفسه. وقد أدركَ الجميع بالفعل أنّ العَولمة يُمكن أن تكون مشكلة، سواء من حيث انتشار الفيروس، أم في ما يتعلّق بقضايا إنتاج الأدوية وكلّ ما يتعلّق بالحماية لتجنُّب المرض.
وفي ذلك كلّه، يبقى الإنسان هو الأساس. لذلك، من المُفترض العودة إلى العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والإعلاميّة، والانتقال من عِلم النَّفس المُتعارَف عليه إلى عِلم النَّفس الرقمي، لفهْم سلوكيّات الأفراد، والانتقال من العلوم الاجتماعيّة المُتعارف عليها إلى العلوم الاجتماعيّة الرقميّة. كما يجب إعادة النظر في السلطات على أنواعها، وربْط ما يحصل بفلسفة العلوم، وإعادة النَّظر في السلطة الطبيّة، فأيّ سلطة ستُعطى للدولة؟ وأيّ سلطة ستُعطى للمؤسّسات الطبيّة؟
ولا بدّ من إعادة النَّظر في مفهوم الأخلاق، فالقضايا الأخلاقيّة في ظلّ التقنيّات تتجاوز الأنظمة السائدة إلى بروز سلطة المُراقَبة والتضليل والخطابات الديماغوجيّة. ومن التاريخ والجغرافيا الرقميّة، وإعادة طرح مفهومَي الزمان والمكان، إلى الأدب، أسئلة عديدة تُطرح: كيف ستُمارَس السلطة الدينيّة؟ كيف سيُعاد نسْج العلاقات الإنسانيّة مع الأمكنة: دُور عبادة من دون مصلّين، تبادُل وتجارة من دون مصارف؟! هل الإجراءات الاسثنائيّة التي فرضها فيروس كورونا ستُصبح حالة دائمة؟
إنّ الأزمات تدفع الإنسان إلى أن يفكّر في ظروفه بصورة مُختلفة، والعالَم المُستقبلي بحاجة إلى الإبداع في كلّ شيء، بما فيه فهْم الإبداع في معرفة الذّات. بالطبع، من المُمكن العودة إلى الجذور لفهْم الواقع، وذلك عندما نُدرك أنّ الإنسان لا يعيش وحده في هذا الكون، وهو كائن من الكائنات الحيّة. لذلك، علينا أن نأخذ ذلك في الحسبان مستقبلاً، قبل أن نبني اعتقاداً راسخاً بأنّ الإنسان سيطر على كلّ شيء!
انطلاقاً من ذلك، هل نحن في مرحلة بزوغ حضارة جديدة؟ من المُمكن أن يكون جوابنا: نعم، إذا ما كانت هذه الأزمة ستؤدّي إلى تغييرٍ في الجوهر، بمعنى أن تكون المُسبِّب الأوّل للتغيير في السلوكيّات وفي الأفكار وليس في المُصطلحات فقط... فالفكر في حركة ديناميّة بطبيعته، كديناميّة بنية الدماغ المَرِنة، المُهيَّأة دائماً لاكتساب المعرفة، شرط أن تكون هذه المعرفة للابتكار وليس للانبهار.
*كاتب وأكاديمي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي