الشباب.. سُفراء "مؤسَّسة الفكر العربيّ"
محمود برّي*
الشباب هُم الغد، هُم عماد تقدُّم الشعوب ومُستقبل الدول، هُم العرق النّابِض لإطلاق الأفكار ورعايتها، والسبيل الفعّال لنهضة المُجتمعات، هُم سواعد البناء المأمون للمستقبل المُشرق الذي تستحقّه بلادنا وشعوبنا. لذا فإنّ الاستثمار بإمكانات الشباب وقدراتهم هو الطريق المضمون للتقدّم والترقّي.
ليس من الأمور البنّاءة الاستزادة من امتداح الشباب والإكثار من توصيفهم بأنّهم ضمانة الحاضر وعِدّة المُستقبل وغير ذلك من التوصيفات التي باتت تتكرّر حتّى فَقَدَتْ معناها أو تكاد. فالعِبارات البلاغيّة لا مقدرة لها على أن تبني، وما هي أكثر من أصداء لا تلبث أن تضيع وتتلاشى، في حين أنّ العمل المُباشر على فَهْمِ مُقدّرات الشباب، والسعي إلى تثبيتها وتطويرها، ومن ثمّ توجيهها الوجهات المُناسِبة، هو ما يُبلور قوّة الشباب ويؤطِّرها في مَيادين الإنتاج والنموّ. يتمّ ذلك من خلال تفعيل هذه الثروة والطّاقة في سبيل جبه التحدّيات، وتلبية الطموحات، وتحقيق الإنجازات.
من هنا تُوضع اللّبنة الأساس الإيجابيّة المُنتِجة والشاملة لكلّ مُجتمع حيّ وطموح كمُجتمعاتنا، ويبتدئ مشوار التحدّي. فنحن أمّة غزيرة الشباب، وافرة القدرات، وعالية الإمكانات، وإطلاق القوى الكامنة في شبابنا وتوجيهها ورعايتها، لا يُحقِّق تعزيز دَور الشباب وتحميلهم القدر الوافي من المسؤوليّة فحسب، بل إنّ القيام بذلك، بحسب بَرامِج مُختصّة وإشراف واعٍ، يصبّ مباشرة في مصلحة الوطن، ويتراكم خيراً في خزائن الأُمّة على اتّساع مداها، ويفتح الباب واسعاً لتحقيق الذّات العربيّة وتكريسها لوجودها وثقلها وتميّزها.
هكذا أيضاً يكون بناء الإنسان من خلال خدمته المُجتمع وإسهامه في بنائه وتطويره. وشريحة الشباب من الجنسَيْن، هُم الأداة لتحقيق ذلك، فهُم البُناة والأمل، ومن الضروري تنمية مَداركهم وشحْذ عقولهم على نحوٍ يُفعِّل طاقاتهم، فلا يَكبتها ولا يُحرِّفها عن مَسارها.
من الضروري بدايةً مُواجَهة قصور المَناهِج التعليميّة والتربويّة المُعتمَدة وتحديثها وتطويرها، وهذا ما جعلته بضعة مَنابِر فكريّة، وفي طليعتها “مؤسّسة الفكر العربي”، أوّل مهامّها ومُبتدأ أنشطتها. فهكذا يُتاح إعداد الشباب فعليّاً الإعداد المُناسِب، ومنذ بدايات مشوار التعلُّم، بما يُلبّي متطلّبات تفتُّح الأذهان وتنمية المَعارِف والمَهارات وشحْذ القدرات العقليّة وملكات التفكير، فضلاً عن رعاية الميول وتوجيهها الوجهة الصحيحة. وهكذا يرتقي الشباب إلى مستوى التحدّي العِلمي والحضاري، ويتعزّز بالقدرة على المُشارَكة والإضافة وتثمير القدرات لأجِل خَير مُجتمعه وبلده والإنسانيّة عموماً.
مؤسّسة الفكر وعزْم الشباب
بموجب هذه الرؤية، سَعَتْ “مؤسّسةُ الفكر العربي” إلى إيلاء التعليم الأهميّة الأساسيّة والدّفْع في سبيل تطوير بَرامِج وأساليب التعليم والتنشئة، بحيث تكون على درجة من المرونة الداخليّة، من خلال جعْلها جزءاً من عمليّة التمكين والمَنْهَجة، وتحقيق الكفايات والمَهارات التي تؤهِّل الخرّيجين للانخراط في سوق العمل وتحقيق التوازُن بين اهتمامات الشباب والتحدّيات التي تواجههم، والاهتمام بالتعليم المهني والتكنولوجي في ظلّ الاتّجاهات العالَميّة نحو اقتصاد المَعرِفة الذي يُسهم في تمكين الشباب على مُختلف المستويات، ويوفِّر للشباب العربي الكفاءات التي تؤهِّله لمُواكَبة التغيّرات والتطوّرات التي يشهدها العالَم.
والمُلاحَظ أنّه عندما توكل إلى الشباب مُمارَسة المسؤوليّة، تتبلور هويّتهم ويعون دَورهم الكبير وإمكاناتهم الغزيرة، فيُصبحون أكثر ثقة بأنفسهم وأعظم قدرة على ترجمة أفكارهم وتوجيه مَواهبهم إلى خدمة المُجتمع. وشباب العرب لا تنقصهم الجرأة على الإقدام والمُثابَرة، ولاسيّما حين يجري تأهيلهم التأهيل البنّاء لقيادة سفينة التقدُّم، مهما كان البحر هائجاً والأمواج عاتية. يتحقَّق ذلك بفضل الإيمان والاندفاع أوّلاً، وبتوجيهٍ من الخبراء، أصحاب المَعارِف والتجارب في مجال المسؤوليّة الاجتماعيّة والعمل التنموي والتطوّعي ثانياً. فالشباب هُم بمثابة المولِّد النوويّ لنبض حياة المُجتمع وتقدّمه، وهُم الأجدر ببناء الغد وتشييد المُستقبل. وإدراكهم لهويتهم يدفعهم إلى القيام بمسؤوليّاتهم على الوجه الأفضل. كما أنّ قيامهم بهذه المسؤوليّات يُرسِّخ تثبيتهم لهويّتهم الوطنيّة ويُذكي سعيهم إلى إعلاء شأنها. وهذا من حجارة الأساس في بناء الطّاقة الشبابيّة ودفْع الأجيال إلى تفهُّم المُشكلات القائمة والسعي إلى تلبية الاحتياجات والمُساعدة على بلْورة التطلُّعات المُستقبليّة.
وباعتبار أنّ جوهر التميُّز والتفوُّق والريادة يقوم على الإبداع بشكلٍ أساسي، وجَّهت “مؤسّسة الفكر العربي” قسماً مهمّاً من جهودها لتشجيع الشباب على الإبداع، ووَضعتْ بَرنامجاً تحفيزيّاً لمُكافأة الإبداع والمُبدعين، بما يدفعهم إلى القيام بمزيدٍ من المُحاولات الإبداعيّة في مختلف الميادين.
وقد أظهرت الوقائع الميدانيّة أنّ توجيه الشباب بهذا الاتّجاه، ليس عسيراً، ولن يحتاج إلى كبير جهد بالنّظر إلى ما يتمتّع به شبابنا من طاقة وطموح وشغف مَعرفي مع قدراتٍ عقليّة خلّاقة ونَزعة نحو الاستقلاليّة وتأكيد الذّات.
هذه الرؤية الاستراتيجيّة الشاملة للشباب ودَوره، التقطتها العقول النيّرة في “مؤسّسة الفكر العربي” الرائدة في هذا المجال بتوجيهٍ من رئيسها صاحب السموّ المَلكي الأمير خالد الفيصل، ورؤيته الفكريّة الشاملة والعميقة. وهي تبنَّت مجموعةً من المشروعات والمُبادرات التي هدفها السعي إلى تكريس دَور الشباب كعُنصرٍ فاعلٍ في المُجتمع، وتأهيله في مجالات العمل التنموي والتطوّعي. بذلك عَملتْ بدأبٍ على استنهاض حضارة الأُمّة ومقوّمات نجاحها وتفوّقها وريادتها، مُعتمدةً على عزْمِ الشباب وقدراتهم وطموحاتهم وحُسن فَهْمِهم لتاريخهم وتراثهم وإنجازات الأجداد.
ومن خلال بَرنامجٍ طويل الأمد، عملت المؤسّسة على تنشيط عمليّة التنشئة الاجتماعيّة للشباب ودفْعهم للالتفات إلى همومهم الوطنيّة وتوجيههم نحو تحمُّل المسؤوليّة وتأهيلهم ليكونوا في طليعة مُهندسي المُستقبل.
وعلى المستوى العملي المباشر، أَطلقت المؤسّسة بَرنامج الشباب عام 2007، تكريساً لثقتها العالية بدَور الشباب وطاقاته وإمكاناته. وكان سعيها المؤسّسي، وفي مختلف نواحي نشاطها ومَيادينه، يهدف إلى تنمية مَهارات الشباب وإعدادهم للعمل على تطوير مُجتمعاتهم، وتطوير البيئة المُناسبة لهم، كي يُبادروا ويُبدعوا ويقودوا وينجحوا.
كان الهدفُ البعيد للمؤسّسة منذ بداية انخراطها في تأدية مَهامّها الفكريّة والثقافيّة، إعداد نواة جديرة ومُقتدِرة من الشباب العربيّ الطليعي، تتمتّع بالهِمّة العالية والتجربة والخبرة والاندفاع، لتنشئة جيلٍ واثق من المثقّفين والمفكّرين الشباب الواعين لقضايا مُجتمعاتهم والمُلتزمين بخدمة أهداف التنمية فيها. كذلك عملت وسعت في سبيل استقطاب هؤلاء أوّلاً، ثمّ تمكينهم وإشراكهم في عمليّة التغيير والتطوير المُجتمعي، وبَذلتْ جهوداً كبيرة، وما تزال، لتحفيز الشباب على الإبداع وتشجيعهم على العطاء.
فتحت المؤسّسة أبوابها واسعة للشباب، وعملت على تدبير سُبل التواصُل والتفاعُل بين مختلف الأنماط الاجتماعيّة والتوجُّهات الفكريّة والمستويات الثقافيّة وتيسيرها، واهتمّت بتعزيز الشباب بالمهارات والخبرات، وشجّعتهم على الإقدام والمُبادَرة ضمن حدود احترام الفروقات بين البشر عموماً، ونبْذ التفرِقة، واعتماد ثقافة التفاهُم، وتقبُّل المُختلف، وتعزيز هويّة الشباب العربي.
ومن خلال العديد من ورشات العمل التي أَطلقتها المؤسّسة ورَعَتْها، جرى العمل على تعزيز مهارات الشباب ومدّهم بالخبرات اللّازمة لتطوير المُبادرات وإدارة الحملات والمشروعات المُختلفة. هذا فضلاً عن تسليطها الضوء على عددٍ من المُبادرات الشبابيّة وقصص النجاح عبر الإعلام، بما يُشجِّع جمهور الشباب في مُختلف أرجاء العالَم العربي. وهي عملتْ بدأبٍ وعنايةٍ على تنظيم العديد من ورشات العمل الفكري والندوات والمُحاضرات، بالشراكة مع جامعة الدول العربيّة كما مع غير دولة عربيّة. وكانت لذلك نتائج ملموسة دفعت بالقيّمين لاستكمال العمل على تحقيق الأهداف التكامُليّة على الصُعُد الاقتصاديّة والتنمويّة والثقافيّة والأمنيّة، كما على صعيد مؤسّسات العمل العربيّ المشترَك.
منهجيّة غير تقليديّة
وإسهاماً منها في التأكيد على المُشارَكة الشبابيّة العربيّة، عملت المؤسّسة وتعمل على النهوض بالواقع التنموي في مُختلف البلدان العربيّة، وبلْورة رؤية شاملة حول ترابُط الأبعاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة لمُستقبل الوطن العربي ومُجتمعاته، بما يضمن لهذه المُجتمعات الأمن الإنساني والعدالة والمُشارَكة الاجتماعيّة.
وكانت المؤسّسة سبّاقة في الاعتماد على منهجيّةٍ غير تقليديّة في تناوُل الموضوعات، اتّساقاً مع الهدف الذي تسعى إليه والمهمّة التي انتدبت طاقاتها لتأديتها، بما يشمل تجنُّب إعادة توصيف الواقع والأزمات التي يعاني منها الوطن العربي، والمُراوَحة في استعادتها والإضاءة عليها، مُعتمدةً أساليب الخروج بأسئلةٍ منهجيّة، والعمل على تدبُّر الإجابات السليمة والعمليّة على بساط الواقع، مع تقديم رؤية استشرافيّة من خلال أعمال مؤتمراتها الفكريّة السنويّة.
وانطلاقاً من الأهميّة الكبيرة للّغة العربيّة، باعتبارها اللّغة الأمّ، وحيث إنّها هويّة وتراث وأداة تواصُل مع اللّغات الأخرى، فيها ملاذُنا وإقامتُنا، وبها يتحقّقُ الربطُ بين الماضي والحاضر، سَعتِ المؤسّسةُ باحترافيّةٍ مشهودة في سبيل تمكين لغة الضادّ لدى الشباب العربي، وجعلتْ للشأن الثقافي النصيب الوافر من اهتماماتها، من حيث اعتبارها أنّ ثقافة العرب هي أمنهم الوقائي وسبيلهم لمُواجَهة المُستقبل وحجْز مقعدٍ في رحلة التقدُّم والترقّي.
ومن هنا عملت على تدعيم مَنابرها الثقافيّة بالفكْر الأخلاقيّ الذي تُغنيهِ التعدّديّة ويُنيرُهُ التنوُّعُ الحضاري وتزيّنُه الأصالةُ المُستنيرة، وعمدت إلى احتضان المثقّفين وإتاحة مَنابرها لإبداعاتهم، بحيث باتت بمثابة بَيت المُثقّف العربي ومُلتقى المُفكّرين والمُبدعين.
كانت “مؤسّسة الفكر العربي” سبّاقة في ابتكار ما سمّته “برنامج السفراء الشباب” منذ العام 2010، والهادف إلى تسليط الضوء على نماذج شبابيّة عربيّة من أصحاب الطّاقات والمُبادرات والأفكار الخلّاقة، وتمكينهم وتنمية مهاراتهم ليُسهِموا في تطوير مُجتمعاتهم.
ووفّر البرنامج لـ “السفراء” المُعتمَدين دَوراتٍ تدريبيّةً تفاعُليّة ووِرشَ عملٍ تُديرها مجموعةٌ من الخُبراء والمُختصّين، والعديدَ من الأنشطة والفعاليّات في سبيل تبادُل الخبرات على الصعيدَيْن المحلّي والدولي. ويُعتبر مؤتمر “فكر” السنوي العلامة المُشرِقة في هذا الميدان.
ويعمل “السفراء” على تعزيز قيَم المُواطَنة لدى الشباب من خلال تعريفهم بحقوقهم وواجباتهم تجاه المُجتمع، وحثِّهم على المُشارَكة في عمليّة صنْع القرار، واقتراح مشروعات مُبتكَرة وإطلاق مُبادراتٍ تنمويّة لخدمة مُجتمعاتهم. ولقد استقطبَ عشرات الشابّات والشبّان من مُختلف الدول العربيّة، حيث تقلّد الكثيرون منهم، بعد “تخرُّجهم” من هذا البرنامج، مَناصِبَ مُهمّة في بلدانهم وحول العالَم. والأمثلة كثيرة نكتفي بذكر آخرها، وهي تلك التي تتعلّق بمُبادَرة “الخبز من أجل التعليم”، التي أطلقها الشابّ عبد الرّحمن الزغول، والتي تقوم فكرتها على جمْع فُتات الخبز وإعادة تدويره لبيعه إلى تجّار الأعلاف كغذاء للمواشي، واستثمار ثمنه في تأمين مِنَحٍ دراسيّة للتلامذة في المناطق والأوساط الفقيرة. بحيث حازت المُبادرة على جائزة الإبداع العربيّ عن فئة الإبداع المجتمعيّ، ما خوَّل صاحبها تطوير مُبادرته وتحويلها إلى مؤسّسة غير ربحيّة تمّ تسجيلها تحت اسم “التدوير من أجل التعليم” لنشْر مفاهيم الريادة والابتكار في الوطن العربيّ، وحصوله بعد ذلك على جائزة أفضل مشروع ريادة أعمال في الشرق الأوسط عن الفئة الذهبيّة من قبل سموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم للعام 2018، وعلى جائزة الامتياز الدوليّ على مستوى العالَم في القمّة العالَميّة للامتياز الدوليّ في أميركا في العام 2019.
لقد بذَلتْ “مؤسّسةُ الفكر العربي” على مدى عشرين عاماً جهوداً كبيرةً ودؤوبة، وهي تبذل بالتأكيد المزيد منها في السنوات القادمة، لأنّها تَعلمُ جيّداً أنّ عالَمنا العربي يحتاج إلى أضعاف هذه الجهود. فعسى أن تُشكِّلَ مَسيرتها وإنجازاتها دعوةً إلى جميع الهيئات والمَنابِر الثقافيّة والفكريّة للمُشارَكة في عمليّة الإعداد والبناء، لإضاءة طريق الأمل بغدٍ أفضل أمام الشعوب العربيّة.
*كاتب من لبنان - مؤسسة الفكر العربي