"مؤسَّسة الفكر العربي" دَور رائد في حركة الترجمة المُعاصِرة
حسين جواد قبيسي*
على الدوام، كانت الترجمةُ حاضِنةَ التلاقُح المَعرفيّ بين الشعوب والأُمم، سواء في العصور القديمة أم في العصور الحديثة. ومن هذا التلاقُح ينشأ تعاقُبُ الحضارات وتداوُل الدَّور الحضاريّ بين الأُمم والشعوب، لضمان استمرار البشريّة في تقدُّمِها المَعرفيّ والحضاريّ، على ما يُفسِّر ابن خلدون؛ فلا الحضارة العربيّة الإسلاميّة ازدهرَت، في الماضي، من دون ترجمةِ الفِكر الإغريقيّ إلى العربيّة، ولا الحضارة الغربيّة في الزمن الحاضر وُلِدت من دون اطّلاع أوروبا عبر حركة الترجمة على الإرث المَعرفيّ العربيّ، من العربيّة إلى اللّاتينيّة فإلى اللّغات الأوروبيّة المُتفرِّعة عنها، وهي حركةٌ أَسهمَ فيها المُسلمون أنفسهم.
فعَلَ ذلك في العصر العبّاسي الخليفة هارون الرشيد مؤسِّس “بَيت الحِكمة” (حوالى العام 800م.) وولده المأمون الذي جَعَلَ الترجمةَ ركناً أساساً في عمليّة دفْع الحضارة العربيّة الإسلاميّة، بتفعيل طاقات المُفكّرين والعُلماء (أيّاً كانت انتماءاتهم الدينيّة والعرقيّة واللّغويّة) الذين يكتبون بالعربيّة، تأليفاً وترجمةً، بنقْل المؤلَّفات من لغاتٍ أخرى إلى العربيّة، فصبّت روافد المَعرِفة اليونانيّة والبيزنطيّة والهنديّة والفارسيّة في نهر اللّغة العربيّة التي أنتجت ثمرات حضارتها المعروفة، ثمّ انتقلت هذه الثمرات لاحقاً إلى أوروبا عبر حركة الترجمة من العربيّة إلى اللّاتينيّة.
بلغَ من شغفِ المأمون بكُتبِ الحِكمة والفلسفة أنّه حينما كان يعقد مُعاهدةً مع بعض ملوك الروم، كان يشترط عليه أن يُرسل إليه من نفائس كُتب الحِكمة في بلاده. ومن ذلك، أنّه جَعَلَ أحد شروط مُعاهَدة الصلح بينه وبين قيصر الروم ميخائيل الثالث، تنازُل القيصر للخليفة عن إحدى المَكتبات الشهيرة في القسطنطينيّة. وكان بين ذخائرها الثمينة كِتابُ بطليموس في الفلك، وقد تُرجِم هذا الكِتاب إلى العربيّة تحت عنوان “المجسطي”. ويُروى عن المأمون أنّه كان يطلب من المَغلوبين والمَهزومين ما لديهم من مخطوطاتٍ إغريقيّة، في مقابل توقيع مُعاهدات سلام أو الإفراج عن أسرى.
فَعَلَ ذلك أيضاً فرنسوا الأوّل الملك الرمزي لعصر النهضة الفرنسي، الذي تزامَنَ عهدُه مع تَسارُع نشْر أفكار الإصلاح، وفي عهده تطوَّرت الفنون والآداب في فرنسا؛ فقد رعى حركةَ الترجمة، وأَنشأ في العام 1518، “خزانة كُتب” (cabinet de livres) كبيرة لحفْظ الكُتب المُترجَمة. وفي العام 1530 أسَّس هيئة “القرّاء الملكيّين”، ومقرّها “الكليّة الملكيّة” (غدت في ما بعد “كولّيج دو فرانس”) لجعْلها مركزاً للثقافة الحديثة، في وجه جامعة السوربون التي كانت في ذلك الوقت رمزاً للمُحافَظة والجمود، ولم تتغيَّر إلّا مع الثورة الفرنسيّة (1789). وفي العام 1536، حظَّر “بيع أو إرسال أيّ كُتب أو دفاتر بأيّ لغة كانت إلى دولةٍ أجنبيّة، من دون تسليم نسخةٍ إلى حرّاس “المَكتبة المَلكيّة” التي عيَّن لها مُديراً هو غيوم بودي Guillaume Budé أحد أعمدة التيّار الإنساني الذي نشأ آنذاك في أوروبا، وتبنّى مشروع “جمهوريّة الآداب العالَميّة”.
فَعَلَ ذلك أيضاً الأمير خالد الفيصل عندما أَطلقَ “مُبادرة تضامنيّة بين الفكر والمال تتبنّاها مؤسّسة أهليّة عربيّة” فكانت “مؤسّسة الفكر العربي”، ولا عجَب، فالعلاقة بين المَعرفة والمادّة علاقة جدليّة، فكما يُفضي الغنى المَعرفي إلى غنىً مادّي، كذلك يقتضي الغنى المَعرفي غنىً ماديّاً، إذ لم تَنشأ نهضةٌ مَعرفيّة في التاريخ من دون وضْع إمكاناتٍ ماديّة ضخمة في خدمتها. والترجمة لا يُمكن إلّا أن تكون مشروعاً جماعيّاً، مُجتمعيّاً، وليست مشروعاً فرديّاً؛ وليس هناك أسوأ من وقوع الترجمة في ما يُعرَف بـ “فوضى الترجمة”، أي أن تكون بمُبادراتٍ فرديّة من هنا ومُبادراتٍ فرديّة من هناك. وكون الترجمة مشروعاً جماعيّاً، فإنّه يُفترَض التخطيطُ لدرْسِ حاجاتِ المُجتمع وأنواع المَعرفة التي تلبّيها بالاستعانة، عَبْر الترجمة، بمَعارِف الشعوب وتجاربها في مَيادين المَعرفة المُختلفة؛ ويعني أيضاً ضبْط حاجات الترجمة الماديّة والمعرفيّة أي تكلفتها الماليّة وتقنيّاتها اللّغويّة، كضبْط المُصطلحات الجديدة النّاجمة عن نقْل مَفاهيم جديدة تَستخدمها اللّغات الأجنبيّة وتخلو منها اللّغة العربيّة، وتكوين مُعجم مُصطلحات عِلميّة، وما يَفترض ذلك من عقْدِ ندواتٍ وتنظيمِ مُناقشاتٍ وسِجالاتٍ بين المُترجِمين من ذوي الاختصاص في مُختلف فروع المَعرفة. وتتطلَّب الترجمةُ، علاوةً على الرأسمال الفكري واللّغوي للمُترجِمين، رأسمالاً ماديّاً، إذ لا يأتي الغنى المَعرفي من دون تمويل، شأنه في ذلك شأن أيّ عمليّة تنمويّة اقتصاديّة فهو استثمارٌ في بِناء الأُمم والشعوب وبناء تقدُّمها وازدهارها. لا بل إنّ العالَم أَدركَ أنّ أفضل مجالات الاستثمار هو المجال العِلميّ، أي المجال الأساس الذي تقوم عليه كلّ مجالات الاستثمار الأخرى، سواء في الزراعة أم في الصناعة أم في غيرهما، والترجمة ركنٌ أساس في مَراكِز البحوث والدراسات، وهي عملٌ شاقٌّ وطويل النَّفَس يتطلَّب تمويلاً دائباً؛ ولذا فإنّ أيّ ازدهارٍ حضاريّ يسبقه نهوضٌ عِلمي ومَعرفي أوّلاً، ولا نهضة معرفيّة وتقدُّم عِلمي إن لم تتعهّده الدولُ بإمكاناتها الماديّة. ويُروى أنّ المأمون، إبّان ازدهار حركة الترجمة في زَمَنِه، كان يَدفع للمُترجِم “وزن كِتابه ذَهَباً”، علماً بأنّ الكِتاب في ذلك الزمن كان وازِناً بالنَّظر إلى حجْم صفائح الورق العريضة والغليظة والوازِنة التي كانت تُكتَب عليه. وكان يُطلَق على المُشتغِلين بالكُتب تسمية “الورّاقون”. والورّاق هو الرجل الذي يَحترف الوِراقة، والوِراقة في نَظَرِ ابن خلدون من “أُمّهات الصنائع الشريفة”. وهي مِهنة كانت شائعة في البلاد الإسلاميّة في العصور الوسطى، وكانت تقوم آنذاك مَقام مِهنة الطباعة والنشر، وتشمل أعمال النَّسخ والتصحيح والتجليد والتصوير والخطّ والتذهيب وتزويق الكُتب وبَيع الوَرَق والأحبار وسائر أدوات الكِتابة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الطباعة كانت معروفة لدى أُمَمٍ شتّى وبأشكالٍ وتقنيّاتٍ مُختلفة، قبل أن تَكتسِب نقلةً نوعيّة في تطوُّرها على يد غوتنبرغ.
”حضارة واحدة”.. حضارة الإنسان
دشَّنت مؤسّسة الفكر العربي أنشطتها في العام 2000، وجَعلت الترجمةَ ركناً أساساً في عمليّة استئناف حركة الفكر بين اللّغات، لكي تَجتمِعَ للعرب نِتاجاتُ الأُمم الأخرى في عصرنا الحديث، عبر أربع قنواتٍ لغويّة رئيسة: الصينيّة، الهنديّة، الإسبانيّة، الفرنسيّة. وقد أَطلق الأمير خالد على مشروع الترجمة هذا تسميةَ “حضارة واحدة” اختصاراً لفكرة “حضارات الأُمم تنتمي كلّها إلى حضارة واحدة، وهي حضارة الإنسان”.
يَعتمد مشروع “حضارة واحدة” على الترجمة من روافد مَعرفيّة من الشرق والغرب على حدّ سواء: آسيويّة (من اللّغتَيْن الصينيّة والهنديّة)، وأوروبيّة (من اللّغتَيْن الإسبانيّة والفرنسيّة) وقد اختير لهذه الترجمات خيرةُ المُترجِمين: من الصينيّة عبّاس جواد كديمي، و “ليلى” المُختصّة باللّغة العربيّة، واسمها الحقيقي تشي مينغ مين، والبروفسور وانغ يويونغ (اتَّخذ لنفسه اسماً بالعربيّة: فيصل)، أستاذ اللّغة العربيّة وآدابها في جامعة شانغهاي للدراسات الدوليّة في الصين. ومن الهنديّة مُترجِمون هنود يُتقنون العربيّة والأورديّة والبنغاليّة أمثال: صُهيب عالِم، زبير الفاروقي، حبيب الله خان، مجيب الرّحمن، محمّد أيّوب النّدوي، محمّد مجيب؛ ومن الإسبانيّة ناديا ظافر شعبان ورانيا هاشم سعد؛ ومن الفرنسيّة نصير مروّة وجان جبّور وهدى مقنّص.
وحيث إنّ الصين أثبتت، ولا تزال تُثبت، أنّها حاضرة في جميع المَيادين، فقد جرى اتّفاقٌ هو الأوّل من نَوعه، بين “مؤسّسة الفكر العربي” وبين كلٍّ من “المجموعة الصينيّة للنشر الدولي” و”جمعيّة الترجمة الصينيّة”، لنقْل عيون المؤلّفات الصينيّة إلى العربيّة. فبرنامج “حضارة واحدة” عيَّنَ لنفسه هَدفاً هو ترجمة أمّهات الكُتب من الحضارات والثقافات الأخرى، خصوصاً الآسيويّة منها، فاختار من اللّغة الصينيّة مَلحمةً عظيمةً في تاريخ الصين القديمة، هي كِتاب “ليه تسي في أحضان الريح” (ويُكتَب اسمه بالعربيّة بأشكالٍ مُتقارِبة: لاو تسه، لاو تزه، ليو تسي...) والكِتاب يُعتبر أحد أهمّ المؤلّفات الكلاسيكيّة في تاريخ الفكر الصيني، ويُطلق عليه أيضاً اسم “الهدوء والسكون”. ومؤلِّفه فيلسوفٌ جَمَعَ بين الأسطورة والحِكمة.
يستعرض الكِتاب الحياةَ الاجتماعيّة والثقافيّة الصينيّة في عصر المَمالِك المُتحارِبة، وتطوُّر الفلسفة الصينيّة، ليَصلَ إلى عرض نظريّة الطاويّة (التي تعني طريق الحياة أو نهر الحياة)، التي لا شكل لها ولا صورة، لكنّها تؤلِّف أصل التغيّرات والتحوُّلات للكائنات كلّها في العالَم.
لا يتّسع المجال هنا لعرْضِ جميع الكُتب التي أصدرتها “مؤسّسةُ الفكر العربي” مُترجمةً عن اللّغة الصينيّة. حسبي أن أُشيرَ إلى كِتاب “جوهر التقاليد الصينيّة”، الذي يَعقد مُقارنةً بين الثقافة الصينيّة ونظيرتها الغربيّة، باحثاً في الأصول المُتباينة للأنموذج الثقافي العابِر للثقافات، وعارضاً الروح الثقافيّة والشخصيّة الجماليّة لقدامى اليونانيّين والأوروبيّين والصينيّين، في مقارنةٍ عموديّة وأفقيّة. على أنّ المُقارَنة هنا ليست من أجل المُقارَنة، بقدر ما هي لتسليط الضوء على أوجه الاختلاف والتشابُه بين الثقافات الغربيّة والصينيّة، واستيعاب عناصرها في أنموذجٍ ثقافيّ يؤلِّف بينها، بغية خلْق احتمالاتٍ جديدة، من شأنها تحديث الثقافة والارتقاء بالجنس البشري؛ فالكِتاب يدعو العالَم إلى حوارٍ بين الحضارات لتحقيق الاستقرار والسلام على أسسٍ جديدة، بعدما أسهمت العَوْلَمةُ في خلْخَلَةِ هذه الأُسس.
ومن الكُتب الصينيّة أيضاً، صدرَ كتابٌ في الأدب الصيني بعنوان: “مُختارات من النثر الصينيّ في أسرتَيْ تانغ وسونغ”، لمؤلفَيْه “هان يوي” و”ليو تسونغ يوان”، ويتضمّن واحداً وأربعين نصّاً نثريّاً من فترة حُكم الأسرتَين المَلكيتيْن: تانغ (618 م - 907 م) وسونغ (960 م - 1279 م) في الصين. في تلك المرحلة، وتحديداً في عصر أسرة تانغ، برزَ نحو ستّين شاعراً كبيراً، خلَّفوا ما يُقارِب خمسين ألف قصيدة، في حين أضاف النثر إلى أنواعِه القديمة، مثل الوثائق البلاطيّة، والرسائل الديوانيّة، والنصوص التذكاريّة والمنوّعات، أنواعاً أخرى جديدة تمثَّلت في السيَر والرحلات والأمثال والروايات. ولم يقتصر الأمر على تزايُد الأجناس الأدبيّة وأنواعها، بل شملَ هذا الثراءُ الأنماطَ الكِتابيّة لجهة أساليبها وبنيانها وتراكيبها. فتحرَّر النثرُ مثلاً من السجع والأوزان والمُحسّنات التي أسرته في دائرة النّخبة والقصور والمُناسبات لأكثر من ألف سنة.
ولئن كانت ترجمةُ الأدب الصيني إلى العربيّة حديثة العهد، فإنّ ترجمة الأدب العربي إلى الصينيّة تعود إلى أكثر من ثلاثمائة سنة، وبدأت بترجمة بعض سُوَر القرآن الكريم في فترة ما بين نهاية حُكم أسرة مينغ وبداية حُكم أسرة تشينغ الملكيّتَيْن. وفي أواخر القرن التاسع عشر جرت أوّل مُحاولةٍ لتَرجمة القرآن كاملاً على يد الفقيه الصيني “ما ده شين Ma De Xin” (1794 ـ 1874). غير أنّ مُحاولته لم تكتمل، فقد وافته المنيّة قبل إنجاز الترجمة. وفي العام 1900 تَرجَم “تشو قوي تشنغ Zhou Gui Sheng” أشهر حكايات “ألف ليلة وليلة” مثل حكاية “علي بابا والأربعون لصّاً”، و “رحلات السندباد السبع”. وقد بلغت مَسيرة ترجمة الأدب العربي في الصين ذروتَها في السنوات الخمس عشرة الأولى بعد تأسيس جمهوريّة الصين الشعبيّة في العام 1949.
ولا يتّسع المجالُ أيضاً لعرْض مَضامين الكُتب المُترجَمة إلى العربيّة عن اللّغات الهنديّة، ولذا نتوقّف عند أحدها وهو بعنوان: “العلاقات العربيّة الهنديّة” لمؤلِّفه الشيخ سيّد سليمان النّدوي: العلّامة الهندي الشهير، الأديب والسياسي والضليع في العلوم العربيّة وآدابها، وفي التفسير والحديث والفقه. وهو صاحب مجلّة “معارف” الشهيرة. والكِتاب فريدٌ في بابه، تتوزّع محتوياته على خمسة فصول كبرى، يعرض فيها المؤلِّف لتاريخ العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة بين الهند والعالَم العربي، على امتداد العصور القديمة والوسطى، مُتناولِاً المَراحِل المُختلفة التي مرّت بها تلك العلاقات، مُستقياً معلوماته من مَراجِع تاريخيّة يعود عهدها إلى مؤرّخين ورحّالة عرب وهنود منذ ما قبل الفتْح الإسلامي.
ونظراً إلى العلاقات التاريخيّة المميَّزة بين العرب وإسبانيا، أولَت مؤسّسةُ الفكر العربي الترجمةَ عن الإسبانيّةِ عنايتَها الخاصّة. ومن الكُتب التي تولَّت المؤسّسةُ نقلَها إلى العربيّة كِتابا “أوروبا الإسلاميّة: سِحرُ حضارةٍ ألفِيّة”، و”الأندلس: الدَّلالة والرَّمزيّة”؛ الكِتاب الأوّل من تأليف كارمن برافو وبيدرو مونتابث، وهُما من المُستعرِبين الإسبان المُهتمّين بالتفاعُل بين الثقافتَيْن المسيحيّة والإسلاميّة وما تركته هذه الأخيرة من أثرٍ في أوروبا طوال أربعة قرون حين كان للّغة العربيّة دَورٌ كبير في نشْر الثقافة الإسلاميّة إبّان الحقبة التاريخيّة التي تُعرَف بـ “ـدولة الأندلس” في إسبانيا، والتي حَكَمَها العرب المُسلمون. والكِتاب عبارة عن إطلالةٍ بانوراميّة على التراث الإسلامي في أوروبا، ولاسيّما في الأندلس، وذلك من النواحي المَعيشيّة والفنيّة والمعماريّة وغيرها. كما يتناول الفنونَ التي جسّدت اندماج الفنّ الإسلامي بالفنون الأوروبيّة، في إطار التواصُل والتبادُل بين الثقافتَيْن المسيحيّة والإسلاميّة. والكِتاب الثاني الذي انفردَ في تأليفه المُستعرِب بيدرو مونتابيث هو عبارة عن مجموعةٍ من البحوث الأدبيّة والتاريخيّة، والمقالات الصحافيّة والاقتراحات التي توصي بضرورة مُراجَعة هذه الحقبة التاريخيّة بين القرنَيْن العاشر والخامس عشر، ودراستها دراسةً مُعمَّقة وشاملة.
أمّا عن الفرنسيّة، فقد دأبت مؤسّسةُ الفكر العربي على ترجمة كِتاب “أوضاع العالَم” (Etat du monde) سنويّاً منذ العام 2008. وهو كِتابٌ مَرجعيّ يحتاجه الباحث في سائر مَيادين العلوم الإنسانيّة، كما في مَيادين الاستراتيجيا والاقتصاد والجيوبوليتيك، ويحتاجه القارئُ العاديّ أيضاً لِما في هذا الكِتاب من معلومات تساعد على فهْم التحوّلات العالَميّة والدوليّة والإقليميّة الكبرى الجارية في القرن الحادي والعشرين. تلك التحوّلات التي خصَّصت لها المؤسّسةُ حيّزاً مهمّاً من خلال عددٍ كبيرٍ من الإصدارات نذكر منها كِتابَي لم نَعُد وحدَنا في العالَم: “النّظام الدّولي” من منظورٍ مُغايرٍ، وعندما يُعيد الجنوب اختراع العالَم: بحث في قوّة الضعف للباحِث وأستاذ العلاقات الدوليّة برتران بادي، الذي يرصد في كِتابَيْه هذَيْن النّظامَ الدّولي الذي تخضع له العلاقات الدوليّة، في محاولةٍ لتصويب الرؤى، ولاسيّما في ما يتعلّق بـ “المركزيّة الأوروبيّة” أو الغربيّة بعامّة، وتبيان ما جرّته من ويلاتٍ على العالَم بأسره. هذا فضلاً عن كِتاب فرنسيّ ثالث للأستاذ والخبير الفرنسيّ في العلوم السياسيّة توماس بريسّون توماس، الذي يدور في المناخات نفسها، والمقصود بذلك كِتاب انزياح المركزيّة الغربيّة: نقد الحداثة لدى مثقّفي ما بعد الكولونياليّة الصينيّين والعرب والهنود.
ولئن كان المجال لا يتّسع هنا أيضاً لعرْض مَضامين كلّ الكُتب المُترجَمة إلى العربيّة عن اللّغة الفرنسيّة، فإنّنا نكتفي بالإشارة إلى أنّ مؤسّسة الفكر العربي، وفي إطار “حضارة واحدة”، تولَّت ترجمةَ أفضل الإصدارات الفرنسيّة لخُبراء هُم من بين الأكثر شهرة في مجال تخصّصهم، في أكثر المجالات حيويّة وراهنيّة. فانطلاقاً من تعويل المؤسّسة على أهمّيّة التضامُن والتكامُل العربيَّيْن في الإسهام في حلّ الكثير من المُشكلات والقضايا العربيّة الشائكة، تُرجمت ثلاثة كُتب حول تجارب العالَم في الاتّحادات، تعود إلى خبراء فرنسيّين في العلوم السياسيّة، مثل النظام السياسي للاتّحاد الأوروبي لأنطونين كوهين، وفيه تعريفٌ وافٍ بمؤسّسات الاتّحاد الأوروبي، ونظرة عامّة عن إنتاج القوانين في الاتّحاد، وكِتاب التكامُل والتعاون في أفريقيا: صعـوبة اللّقاء المُمكن بين النظريّات والوقائع لغي مفيلّ، الذي يرصد الجهود المُتجدّدة للاتّحاد الأفريقي في سبيل إنشاء مؤسّسات وأجهزة لها استقلالها الذاتي في مُواجَهة مُشكلات التنمية والأمن المطروحة على الشعوب الأفريقيّة، وكِتاب البريكس - البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا: القوى الاقتصاديّة في القرن الحادي والعشرين، لباسكال ريغو، حول مجموعة البريكس.
والأمر عَينه في ما يخصّ قضايا التربية والتعليم والمَناهج والعلوم بعامّة، والتي ترى المؤسّسة أنّها من الأولويّات في نهضة مُجتمعاتنا وتقدّمها، فكان اختيار كِتاب أوضاع التربية وشروطها العائد إلى كِبار الخبراء الفرنسيّين في هذا المجال، وهُم مارسيل غوشيه وماري كلود بْليه ودومينيك أوتّافي، تعبيراً عن هذا الاهتمام، كون الكِتاب يُشخِّص أوضاع التربية والتعليم، في ضوء التطوّر الذي أصاب المُجتمعات بعامّة؛ فضلاً عن كِتاب التحوّل “العَولَميّ” للعلوم الاجتماعيّة العائد لمجموعة من الاختصاصيّين في عِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة والتاريخ والجغرافيا، والذي حرّره ألان كاييه وستيفان دوفوا، كإسهامٍ للمُساعدة على فهمٍ أفضل للظواهر التي نقرنها عادةً بـِ “العَولَمة”، وعلى درْس التحوّلات التخصّصيّة التي ظهرت إثر بروز مفهوم “العَولَميّ”.
ولئن خلا بَرنامج “حضارة واحدة” من الترجمة من اللّغة الإنكليزيّة، فمَرَدُّ ذلك إلى الإقبال الكبير والواسع على ترجمة الكُتب الإنكليزيّة في البلدان العربيّة قاطبةً، حتّى أنّه يُمكن القول إنّ هناك تخمةً في الترجمة عن الإنكليزيّة، وفقراً ونقصاً شديدَيْن في النقل عن اللّغات المركزيّة الأخرى، بخاصّة الشرقيّة منها. وبَرنامج “حضارة واحدة” يسدّ هذا النقص ويقدّم للقارئ العربي، فضلاً عن مؤلَّفاتٍ مرجعيّةٍ قيّمة ومفيدة باللّغتَيْن الإسبانيّة والفرنسيّة، كنوزَ المَعرفة الهنديّة والصينيّة، وهو رائدٌ في هذا الميدان.
*كاتب ومُترجِم من لبنان مُقيم في فرنسا - مؤسسة الفكر العربي