الإعلام في أمريكا وإيران.. حالة فصام
كتبه - عبدالله العميره*
ماهو الفرق بين الإعلام الأمريكي والإعلام الإيراني؟ وهل يوجد فُروقات أومُشْتَركات ؟
هذا السؤال - من فقرتين - سأجعلهما منطلق لهذا البحث القصير.
من العنوان يتبين أنني أبحث في أسلوبين منفصمين (بالصاد)، وأعني بالإنفصام - هنا (الفشل في تمييز الواقع).
في البداية؛ أشير إلى خبر -كمثال- قد يوضح لكم المقاصد.
عن المفاوضات حول الاتفاق النووي في فيينا.
في أمريكا؛ لاتخرج التصريحات إلا من مسؤول مباشرة.
وطبعاً - التصريحات السياسية لاتخلوا من التماهي والألغاز..
شفراتها أصبحت سهلة التفكيك.
في إيران، يمكن أن تسمع من مسؤول كلام، ومن آخر كلام مختلف، ومن الممكن أن تُصرّح الصحف / طبعاً بإيعاز من رأس النظام كلام بين السابقيّن أومختلف .
وأرى في المنهج الإيراني أسباباً لها صلة بثقافتهم وبالأسلوب السياسي القائم على التقية والكذب والدجل والمراوغة.
هي ثقافة خاصة، وهي مفهومة ـ وواضحة مهما بلغت التقية أو المراوغة، أو أي محاولة للتضخيم الزاحف أوالجامح.
ومن أهدافهم؛ منح النفس هالة، وقوة أكبر من حجمها.
ومن أهدافهم؛ إمكانية التراجع عن التصريحات، أو التصريح بالمناقض لها؛ للتشويش. أو لأهداف أخرى - على العموم؛ هي مكشوفة.
الإعلام في الولايات المتحدة يعتمد على ثلاثة أساليب في العمل الصحفي، ويطبقونه على أي من الفنون: الخبر،التقرير، الإستطلاع، التحقيق، المقال...الخ :
1- التحليل ( تقسيم موضوع إلى أجزاء صغيرة، للوصول إلى المغزى من حقيقة معقدة).
2- الإستقراء أوالإستقصاء ( تتبع الجزئيات للتوصل إلى حكم كلي).
3- الإستنباط أو الإستدلال ( تطبيق العام على الخاص ).
والغالبية في الإعلامي الغربي - بخاصة الأمريكي ، يعتمد على الأسلوب الثالث، وفيه تكمن الأخطاء الفاضحة في الصحافة الأمريكية. لأن أسلوب الإستنباط أو الإستدلال يعتمد على الإفتراضات.
والإفتراضات - في الغالب عندهم - لاتقوم على المنطق، بل على الأهواء/ توجهات فكرية، أو مادية!
بالإضافة إلى قناعة سائدة رسخها الشعور بالعظمة والفوقية؛ بأن دور الصحافة أو الإعلام عندهم ، هو إملاء الأفكار وترسيخ القناعات التي يعتقدون بها.
بمعنى؛ لديهم قناعة أن الرسالة يجب أن تصل للآخرين بالأسلوب والطريقة التي يريدونها من أجل الهدف الذي رسموه.. وليس مهماً قناعة المتلقي!
والتركيز على الوسيلة الناطقة بلغة الهدف المرسل إليه.
قبل الإستمرار أود أن أشير - باختصار- إلى الفرق بين الإعلامي والصحفي : الأول مهمته الإخبار أو الترويج، الثاني، مهمته الصناعة).
لنواصل:
كثير من وسائل الإعلام في العالم تتلقف، بل - أحياناً - تتبنى فكرة المرسل / أو صانع المادة، بدون أن تدفع الآلة الصانعة أي تكلفة، فتكلفة الترويج تكون على كاهل المروج أو المذيع أو الناشر!
وفي ذلك تفاصيل كثيرة، سأشير إلى جزء بسيط منها - كأمثلة:
للولايات المتحدة في كل قارة وسيلة إعلام ناطقة بالمحلية تخدم التوجهات الأمريكية، إما خدمة مباشرة، أو غيرمباشرة عن طريق وكالات الأنباء التي تدار بفكر غربي / وعلى رأسها الأمريكي.
والملاحظ أن دولا عربية، أعجبتها الطريقة، وبدأت تستثمر ( دعوني أقول تستغل بالمعنى الحرفي) قنوات ومواقع عربية جاهزة، وتخترقها - بوسائل وأدوات مختلفة - وفي هذا جانبان سلبي وإيجابي.
أشير إلى الإيجابي أولاً، وهو أن تلك المواقع الإعلامية تجعل ضمن خططها توسيع دائرة الإنتشارلتصبح عربية عالمية.
الجانب السلبي، أن يكبر الإختراق على الرقعة، فتتحول تلك الوسائل العربية إلى مواقع تروج لسياسات خاصة وضيقة لتلك البلاد. ونعود بالإعلام العربي إلى ماكان عليه قبل / في فترة التخلف.
الحال الآن أفضل.. مازالت الرقعة تقوم بعملها.
ولكن أرى أنه من القليل أن يتم صناعة خبر عالمي بفكر عربي محلي.
أشرت قبل عدة أسطر؛ أن الإفتراضات - في الغالب - لاتقوم على المنطق، بل على الأهواء/ توجهات فكرية، أو مادية.
وهنا (مُشترك) بين الإعلام الغربي، وإعلام البلاد المتخلفة في التعاطي الإعلامي؛ كإيران - وأؤكد أن ذكر ي لإيران، لأنها مثال صارخ ومكشوف يدل على التخلف الإعلامي.
وبالمناسبة، الإعلام هو عنوان لأي بلد ولأي مجتمع في العالم.. إما يشير إلى تقدم، أو إلى تأخر.
وإعلام / كالإعلام الإيراني ومن على شاكلته؛ يعتقدون أن كل ما يكتبون من كذب يُصدّقه الآخر، أو يجب أن يصدقه.. أويرون أنه يزعج أو يربك الهدف - هذا ما يعتقدون به!
لقد وللّى زمن العقليات المتأثرة بنظرية جوزيف غوبلز، بوق الإعلام النازي: “اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس”!
الحال الآن إختلف في الحرفية مع العمل المتوافق مع الذكاء الإنساني في زمن عبقرية التقنية.
عمل إعلام إيران ومن يدور في فلكة - مثال صارخ - على عقلية متخلفة لاتنتج إلا للمماحكة، لا أكثر ولا أقل. وهذا من أردأ أساليب الإعلام وأكثرها تخلفاً.
وأسلوب المماحكة؛ لايقوم به أحد / نظام أو أفراد، إلا كونه يشعر بالنقص / الدونية، ولا يملك القوة ( لاناعمة ولا خشنة) ولا أدوات؛ (عقل أوتقنية) تمكنه من فرض الوجود، أو فرض الكلمة.
مماحكة ضمن ثقافة العبث لإثارة الغبار/ ثقافة سردابية.
وهذا الأسلوب - أيضاً - يدل على أن متبعه أنه لم يدرس عقلية المتلقي جيداً.
فتعمد إثارة طرف آخر وتكرارها - في الواقع - يرسخ في المتلقي مناعة، وتأكيد على أنها سياسة متخلفة عدائية فاشلة، لا أكثر.
ويمكننا اعتبار الأسلوب الإيراني في الإعلام، هو مدرسة للإعلام المتخلف، وله من يشبهه في العالم، مثل الإعلام التركي في مدرسته العميقه، وإعلام بعض العرب ممن مازالت مؤثرة فيه الشعارات الثورية العتيقة.
( هذا الموضوع يحتاج بحث مستقل)
القوة الناعمة
هذه القوة ؛ هو الإتجاه الأحدث، وهي وسيلة النجاح في السياسة الدولية.
وتنطلق من واقع / مصادر قوية.
وشبه بعض المتخصصين القوة الناعمة بالطقس، يعتمد عليه ويتحدث عنه كل شخص، ولكن لايفهمه إلا القليلون.
نعم، نسمع تكراراً لهذا المصطلح ” القوة الناعمة” .. ولكن؛ هل نفهمها، وهل نملك براعة الإستخدام؟
أنقل عن جوزيف س . ناي، مؤلف كتاب، القوة الناعمة:
” يعترض بعض المشككين على فكرة القوة الناعمة لأنهم يفكرون في القوة على نحو ضيق لايتعدى إصدار الأوامر، والسيطرة الفعالة، وهم يرون أن التقليد أو الجاذبية هما تقليد أو جاذبية فقط، وليس قوة، وكما رأينا فإن بعض التقليد أو الجاذبية لاينتج قوة كبيرة على نتائج السياسة ، كما أن التقليد لايعطي نتائج مرغوبة دائماً”.
” الجيوش غالباً ما تقلد الخطط التكتيكية الناجحة لخصومها فتلغي قيمتها وتصعب على نفسها تحقيق النتائج التي تريدها”.
* سؤال لايفارقني : هل الإعلام العربي يدرك معنى القوة الناعمة / مصادرها وبراعة استخدامها ؟
حتى الآن؛ لا أرى سياسات إعلامية عربية ممنهجة - بل إنتاج مبعثر.. في البلد العربي الواحد لاتخدمه، وإنتاج الدول العربية لاتخدم بعضها.
حتى صارت المتناقضات أكثر من المتوافقات.
ومازال الإعلام هو الحلقة الأضعف.
أجزم، أن في العالم العربي عقول، لكن مازالت متوارية / أو مغيبة.. لاأعلم سبباً جوهرياً أو منطقياً لذلك.
لكن؛ يوجد من يستحقون البحث عنهم واستقطابهم ومنحهم زمام الإعلام وهم من يستحقون التكريم والإهتمام والدفع بهم للإنتاج.
السؤال الكبير: من يستطيع أن ينقل؛ من حال إلى حال أفضل؛ ليقارع الإعلام العالمي.
بل ويتقدم على العالمي الذي صار غير بعيد عن العالم العربي في مستواه.
أقصد تحديداً؛ مازال الإعلام في العالم كله؛ يفتقد للعنصرالأهم من المعادلة الثابته والمعروفة:
المرسل ــــــــ الرسالة ــــــــ الوسيلة ـــــــ الهدف
مع التركيز ؛ بأن كل العناصر مرتبطة مع بعض. إلا الأخير شبه منفرط لوحده!
المرسل، متقولب / أو مقولب.
الرسالة، مكشوفة ( لأن الهدف أصبح أكثر ذكاء).
الوسيلة، متطورة وفي المتناول ( المهم كيف تستثمر بشكل صحيح).
بقي العنصر الأخير؛ وهو الهدف، وهو متطور.. ولكن المرسل مازال - معظم العاملين على الإعلام (المرسلون / المروجون) يعتقدون أن الهدف لايفهم، أو يمكن تغذيته بأي فكره، وسهل اختراقه/ سهل إضحاكه وسهل إبكائه، وسهل تمرير الرسائل عليه، وتغيير مفاهيمه!
وأرى - أحياناً - تبايناً بين عقلي الصحفي والإعلامي/ أو (الصناّع) و (المروجين - أشخاص أو وسائل إعلام)، بسبب وجود عنصر ثالث بينهم ( المعدّون ).
لايوجد من يقول عن نفسه إعلامي أو صحفي أو ما بينهما؛ على وجه الأرض ، وهو لايعرف ماهية وهوية الهدف.
الجمهور: هو لعبة كل التأثيرات الخارجية وصداها.
ومن المعلوم أن الفرد، وهو الهدف الرئيسي في اللعبة؛ يُصاب بتحول نفسي يدفعه لا إرادياً إلى السلبية - هذه أول قاعدة لابد أن نفهما عندما نريد أن نحلل الجمهور ( لا أحبذ استخدام كلمة تفكيك بدلاً عن تحليا، بالأخص هنا).
يقول غوستاف لوبون، وهو طبيب ومؤرخ فرنسي، من أشهر آثاره: حضارة العرب وحضارات الهند ، وحضارة العرب في الأندلس، وسر تقدم الأمم.
وهو أحد الذين امتدحوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية. وهو يؤمن بوجود فضلٍ للحضارة الإسلامية على العالم الغربي.
يقول جملة؛ أراها من أهم المعارف المؤثرة في العمليات لإعلامية، يقول : ” يجب التمييز بين الجمهور والشعب، فالروابط التي تجمع عناصر الشعب تجعله متجانساً، ولكنه قد يضيع في لجة الجمهور، الذي تهيمن عليه سلوكية جماعية تجعل أفراده يفكرون ويفهلون أحياناً بطرق مغايرة لحالاتهم الفردية”.
الجمهور عالمي، والشعب له خصوصيته.
فكيف أجعل من الشعب جمهوراً عالمياً محصناً؟
وكيف يتم إيصال الرسالة للجمهور العالمي؟
هل يكفي أن أخاطبه بلغته بضامين تقليدية، وبإسلوب تقليدي إعتاد عليها هدفي القريب / أعني؛ الشعب؟
- ربما أن جائحة كورونا كشفت لنا عن سلوكيات الشعوب في العالم. فما كنا نعتقد أنهم متحضرون، فاجأونا بتخلفهم في التعامل مع الأزمة.. والعكس صحيح.
من هذا المنطلق، نشخص الحالة من واقع المعادلة الإعلامية التي تقول، أن “الجمهور في المجتمعات المتخلفة لايستطيع إلا التفكيربواسطة الصور والتشبيه الحالم”.
ولنفهم المعادلة، علينا أن نفهم العادات والتقاليد والتعليم والتجارب التي مرت بها الشعوب (إذا أردنا أن نعمق الأثر ونبقيه). فإن لتلك العوامل دور في عمليات الإيحاء والتخيل والتصور لدى ( جماهير الشعوب).
علينا أن نفهم الفروقات بين الجمهور الإنفعالي والبليد، والمتعصب والمتسامح والخلاق واللئيم ..الخ
أتمم هذا الجزء من هذا البحث القصير بالجملة التالية التي يؤكدها المتخصصون في علم النفس وخبراء الإعلام الممارسون:
” الصحفي البارع هو السيكولوجي الحاذق”.
- هذا إذا أردنا ان نصنع إعلاماَ خلاقاً مختلفاً عن أساليب الإعلام في العالم المتضاد والمتضارب .
وإذا أردنا أن نواجه الإعلام الكاذب والمسيس.
وأرى أن الجماهير في العالم عطشا لإعلام صادق صحيح، يصل إليها بسهولة ويرتقي بها.
ولدينا حقائق تُبهر.. المهم كيف نوصلها؟
نحتاج - أحياناً - إلى أن ننزل إلى مستوى الجماهير لنرتقي بهم.
والعمل في ذلك أصبح أكثر سهولة، لأن معظم الجماهير لديها وعي أكبر، بخاصة مع الإنفتاح الإعلامي.
بقي نقطة في غاية الأهمية:
العمل الإعلامي إذا لم يكن مركّزاً ، وينطلق من نقطه واحدة ( من مركز دائرة الإنتشار)، يبقى عملاَ لاقيمة له. فالتشتت يضر أكثر من نفعه.
وبطبيعة الحال؛ شرط أن يقوم عليه متخصصون وخبراء وممارسون، ومن الشباب متفتحي الذهن الشغوف للعمل المنظم - الخبرات المتطورة - مع الشباب الدارس الشغوف ممن يملكون عقولاَ ألمعية تستطيع أن تبتكروتبتكر وتبتكر.
__________
* صحفي
- مارس العمل محرراً ومدير تحريرورئيس تحرير.
- حاصل على الماجستير في ” المؤثرات الفكرية على الخطاب الإعلامي”.
- له عدة كتب، أهمها في الإعلام” العرب.. والإعلام الغربي”.
- مدير ورئيس تحرير وكالة”بث” للأنباء.