نحو "تشحيل" العالَم لحفْظ التوازُن

news image

حمزة عليّان*

العُرف المتّبع لدى المُشتغلين بالزراعة لا يحيد عن الصواب؛ فالقاعدة لديهم أنّه عندما تكبر الشجرة، يَلجأ المُزارِع إلى "تشْحيلها" والتخلّص من الجزء اليابس منها، وكذلك قطْع الزوائد فيها، كي تُزهر وتُثمر من جديد.

يبدو أنّ العالَم "بطبْعته" الأحْدث اليوم، وصلَ إلى مرحلةٍ تتطلَّب نَوعاً من "التشحيل"، فقد جاء وباء كورونا ليؤكِّد هذا الأمر، بحيث يخرج العالَم بعد كورونا أكثر نظافةً وأسْطع رونقاً ممّا كان عليه قبلها. وطبعاً لا نقصد بـ "التشحيل" هنا - لا سمح الله - قتْل الناس والتخلُّص منهم أو الدعوة لمُمارَسة "سياسة القطيع" و"البقاء للأقوى" التي دَفَعَ بها رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، وكان هو أوّل ضحاياها، إذ أُدخل على عجل المستشفى، وكانت نجاته من الوباء "معجزة" على حدّ تعبير مُستشاره العِلميّ السِّير باتريك فالانس.

المشهد الذي يُلاحقنا اليوم، ولا تُخطِئه العَين، يتلخّص في أنّه عندما يَحتجز وباءُ كورونا الإنسانَ في "محجره"، تدبّ، في المقابل، الحياةُ أكثر في الطبيعة وبين ظهراني كائناتها الحيّة، فقد أطلّت الماعز مؤخَّراً لتسْرَحَ وتمْرَحَ على هواها في مُدن العالَم وبلداته. ففي بلدة "لاندورنو" في "ويلز" البريطانيّة، سُمِح للماعز الأبيض والأحمر والأسود بالتمتُّع بوجباتها المُفضَّلة والمؤلَّفة من فضلات الطعام حول المباني.

وفي نيودلهي خَرجت القردة إلى الشوارع في مَشهدٍ آسرٍ وغير مألوف، ومن دون أن يتعرّض لها أحد. وشاهَدَ سكّان باريس البطّ وهو يسير على حريّته في الشوارع العريضة لمدينتهم الجميلة. أمّا في لندن، فقد راحت الغزلان "تتبختر" غير هيّابة ممّا تبقى من حراكٍ بشري وآلي في الشوارع والساحات.

التوحُّشُ الصناعيُّ ونَتائجُه

يُجمع مُراقِبون كُثرٌ في العالَم على أنّ التوحُّش الصناعي، بخاصّة في الغرب، هو الذي أفضى إلى أضرارٍ فادحة بالطبيعة، نتجَ عنها دَمارٌ بيئيّ مُقيم، فضىلاً عن جوائح خطيرة غير مسبوقة. ففي القرن الحادي والعشرين وحده، ظهرت جوائح عديدة، قبل كورونا التي باتت تُرعب العالَم برمّته الآن، وهي لا تقلّ خطورة عنها، مثل "فايروس سارس" الذي ظهرَ أوّل ما ظهر في الصين، ثمّ "فايروس إنفلونزا الطّيور" (إتش 5 إن1) الذي لم يُعرف مَصدره الأوّلي حتّى الآن؛ ثمّ "إنفلونزا الخنازير" (إتش1 إن1) في المكسيك، و "فيروس إيبولا" في غينيا الإفريقيّة. ولقد تمّت السيطرة عليها جميعاً. والآن المعركة على أشدّها مع "فايروس كورونا" الذي يطغى ويتجبّر على البشريّة كلّها، فيحصد الأرواح ويشلّ الاقتصادات ويخسف بالحياة العامّة وقيَم تطوّرها الاجتماعي والثقافي والحضاري. وبات على المرء، وحِفظاً لحياته، أن يغسل يديه عشرات المرّات يوميّاً تحسُّباً من العوالق الجرثوميّة القاتلة.

والآن لا يكفي القول إنّه بمجرّد أن "ينعزل" البشر في بيوتهم يُصبح بمقدور الحيوانات أن تتجوّل على حريّتها في المُدن والمناطق الحضريّة، فتلكم لحظة ظرفيّة ستنتهي قريباً، وبالتالي سيكون من غير المفيد البناء عليها في شيء، حتّى ولو على سبيل الطوباويّة السابحة في أحلام ليل مهجور.

بَرنامج الأُمم المُتّحدة للبيئة استدركَ الخطرَ الذي يُحدِق بالكوكب، كما ليس من قبل، بخاصّة بعدما غيَّر النشاطُ البشري كلَّ ركْنٍ من أركانه تقريباً، بدءاً من اليابسة، وما فيها، ومَن عليها، وصولاً إلى أعماق البحار والمُحيطات، وما تكتنفهما من كائناتٍ حيّة مُتحرّكة.

فبحسب مضمون آخر التقارير الأمميّة، أنّ 75 في المائة من الأمراض المُعدية، هي ذات مَنشأ حيواني، وبالتالي فإنّ الأمرَ يستدعي المزيد من حفْظ التوازُن والاستقرار في النِّظام الأيكولوجي وعناصره، لأجل صحّة الإنسان ومناعته وبقاء دَورته في النموّ والعطاء، وذلك بالالتزام بجملة خطوات أبرزها:

1- إدارة سلميّة للنفايات الطبيّة والكيميائيّة الخطرة

2- خلْق المزيد من الوظائف الخضراء

3- تسهيل الانتقال إلى مُستقبلٍ خالٍ من الكربون

4- إدارة قويّة وعالَميّة للتنوّع البيولوجي

قبل زحف جائحة "كوفيد-19"، كان الغلاف الجوّي للأرض يزدحم بدُخان المصانع، ومعها أدخنة مئات ملايين السيّارات والآليّات وآلاف الطائرات في المجال الجوّي العامّ. فجأة حدثَ ما لم يكُن في الحسبان؛ اختَفت الطائراتُ من الفضاء الجوّي، وصارت الشوارع خالية تقريباً من السيّارات والآليّات في أغلب مُدن العالَم، والمَصانع أَضحت شبه متوقّفة. وتراجَعَ النشاط الاقتصادي بنِسبٍ غير مسبوقة، وأُغلقت البيوت على ساكنيها، لتتَّضِح الصورةُ بعد ذلك، مُسجِّلةً المؤشّرات الإيجابيّة الآتية:

1- تحسّنت جودة الهواء في 337 مدينة حول العالَم بأكثر من 12%

2- التأَمَ ثقبُ الأوزون فوق القارّة الجنوبيّة

3- تراجَعت انبعاثاتُ غاز ثاني أوكسيد الكربون النّاجِم عن استخدام الوقود الأحفوري بنسبة 35%

4- أدّى توقُّفُ وسائل النقل إلى انخفاضٍ في انبعاثات الكربون بنسبة 23%

على هذه النتائج يُعلِّق كيمبرلي نيكولاس، الباحث في مركز دراسات الاستدامة في جامعة "لوند" الأميركيّة، بأنّه لا يُمكن أن نحظى بمناخٍ آمن من المَخاطر البيئيّة بعد الآن، إذا ما عادت حركة الطيران التجاري إلى سابق عهدعا (أي قبل وباء كورونا)؛ فعنده أنّ الشخص الذي يقوم برحلة طيران واحدة بين نيويورك ولندن، ذهاباً وإيّاباً، يُوازي خطر هذه الرحلة على البيئة، واستطراداً عليه، "خطر" نظيره الذي يستهلك اللّحومَ الحمراء لمدّة عامَيْن كاملَيْن مُتواصلَيْن.

وبهذا الخصوص البيئي، يَعتقد مديرُ برنامج المؤسّسات الماليّة في معهد "14CE" لاقتصادات المناخ (مقرّه باريس) أنّ الطبيعة في أزمة مروّعة للغاية، وأكثر من أيّ وقت مضى، وهي مُهدَّدة بالاحترار العامّ غير المُحتمَل، وبالتلوُّث السامّ والمُميت من فَوره.

لذلك، فالمُتغيّرات التي طَرأت على كوكب الأرض منذ حوالى السنة، جرّاء الاحتراز الإلزامي ضدّ كورونا، أَظهَرت وستُظهر فائدتها العميمة، إنّما، مع الأسف، على مدىً زمني قصير، إذ وبمُجرَّد مُعاوَدة النشاط البشري إلى سابق عهده، فستعود نِسب التلوّث والانبعاثات إلى ما كانت عليه من قبل، وربّما على نحوٍ أصْعب وأفْدح هذه المرّة.

هكذا فنحن أمام وجه آخر لأزمةٍ أشدّ خطورة من أزمة كورونا، وقد فتحت لها كوّة واسعة في جدار المنظومة الدوليّة، التي لم يعُد بمقدورها التغاضي عنها أو إهمالها، بل قد يتفاجأ العالَم كلّه قريباً بخروج المارد من قمقمه كما يُقال، وتحلّ علينا كارثة أخرى، ليست على جدول أجندتنا البشريّة الحاليّة. فعُلماء البيئة يُحذِّرون من أنّ مُستقبل كوكب الأرض في ظلّ ارتفاع درجات الحرارة بمعدّل 3 أو 4 درجات مئويّة، سيأخذنا إلى مستوىً آخر تتجاوز خطورتُه، بأضعاف، خطورةَ الوضع الحيوي والبيئي العامّ الذي تمرّ به البشريّة، جرّاء تداعيات جائحة كورونا. فوفقاً للمَسار العِلمي المنصوص عنه في اتّفاقيّة باريس للمناخ، والمُتعلِّق بكيفيّة الإبقاء على درجات حرارة للأرض دون 1.5 درجة مئويّة، فإنّ الأمر، إذا ما تجاوزَ هذا المعدّل، فسندخل في كارثة بيئيّة لا يستطيع أحد تحمّل نتائجها الجهنميّة على البشريّة وسائر الكائنات الحيّة.

هكذا، فإنّ إيجاد مُعادلة بيئيّة تُمكّننا من السيطرة على عوامل لا تتجاوز فيها الأرض درجة حرارة 1.5 خلال السنوات العشر المُقبلة (2021 - 2031) ستكون مهمّة صعبة، وعليه ستبقى "جمهوريّة الأرض" تَئنّ من تصاعُد طوفان الأخطار عليها، وعلى كائناتها، طالما لم يتخلّص الإنسان من "خصاله الغريزيّة البهيميّة الصمّاء"، على حدّ تعبير المُخرج السينمائي الكويتي عبد المحسن حيّات لكاتِب هذه السطور، وسيكون من المُستحيل جعْل القاطنين على الأرض يعيشون في "جمهوريّة كونيّة" اعتياديّة، كالّتي اعتدنا عليها في ما سبق من مراحل وأطوار مديدة.

والتوقُّف عن التصويب نحو "جمهوريّة الأرض" لم يَصِل، على ما يبدو، إلى أسماع جماعة القوى الصناعيّة الكبرى في العالَم، ممَّن بقوا على وتيرتهم في مُواصَلة إنتاج السلاح وبيعه إلى دولٍ وشعوبٍ أَنهكتها الحروب والمَجاعات، علاوة على مَخاطر وباء كورونا المُعولَم، الذي شلَّ ما تبقّى لها من اقتصادات عاجزة في الأصل؛ فكيف بها، والحال كذلك، ستنفق على فواتير السلاح المتوالية؟!

هكذا تحوَّلت الأرضُ بخطوط طولها وعَرْضها، يابسةً وماءً وفضاءً، إلى مجرَّد وعاءٍ مُلتهبٍ بالغازات الدفيئة، والغازات النّاتجة عن المنشآت الصناعيّة، ومحطّات الطاقة، ووسائل المواصلات على أنواعها، في البرّ والجوّ والبحر، وكلّه بات يتحكّم بالغلاف الجوّي مُسبِّباً، إلى جانب إفساد الهواء ومياه الأنهار والينابيع الصالحة للشرب والبيئة عموماً، بحدوث الزلازل والفيضانات وكلّ أنواع الكوارث الطبيعيّة. لكأنّ الأرض تُخرج من أحشائها ما فاضت به عن حاجة التوازُن البيوليوجيّة الاعتياديّة لها، وراحت تتمرّد على جلّاديها، وتنتقم منهم شرّ انتقام، نافِضةً عن جسدها في النهاية أوساخ "الإنسان المُتحضِّر"!

أمَا آنَ الأوانُ الآن ليستريحَ هذا العالَم الحديث من جرائم ساكنيه، جيلاً عن جيل؟!!.. فلقد باتت "حالته المَرَضِيّة" تستدعي فعلاً اللّجوء إلى مُزارعٍ مُحترِف يُجيد اجتثاث سائر الأذرُع الفائضة عن الحاجة فيه.

*باحث وإعلامي لبناني مُقيم في الكويت - مؤسسة الفكر العربي