بين وجدانيّة "التناظُر" العربيّ وعلميّته

د. فردريك معتوق*
يُعبِّر المُصطلح العربيّ "التناظر" الذي تعود إليه ترجمة مصطلح symmetry في اللّغات الأوروبيّة عن مغزىً أغنى من ذلك الذي تَنضح به الكلمة الغربيّة. فهو يُشير في هذه اللّغات إلى مقياسٍ وتقابُلٍ في القياس، ويكتفي بذلك. ينطلق من معادلةٍ نظريّة رياضيّة ويَنغلق عليها، جاعلاً من المفهوم مفهوماً فيزيائيّاً ونظريّاً بَحتاً يَنطبق على أشياء وأسطح ومساحات.
أمَّا في اللّغة العربيّة فإنَّ المُصطلح يُشير إلى ما بعد، وحتّى ما قَبل مضامين هذا المفهوم. فالتناظُر مَبنيّ على النظر، أي على التدخّل الإنساني في عمليّة إدراك هذه الظاهرة وهذه القاعدة.
نجد هذه الظاهرة على أجنحة الفراشات وتناسُق الأزهار وفي جذوع الأشجار وكلّ مكانٍ في الطبيعة. وهذه الكائنات تعيش التناظُر عَيْشاً في حياتِها وتناسلِها وتوارثِها من غير أن تعيه بالضرورة. أمَّا الإنسان، فهو قادر على التقاط هذا التناسُق الخارق بنَظَرِهِ وإدراكِهِ نظريّاً ببصيرته بَعد بَصَرِه، ليَستخرجَ منه مُعادَلةً مجرَّدة تَدخل في صميم أنساقه المَعرفيّة كلّيّاً أو جزئيّاً. كما أنَّه قادرٌ على تحويل هذه المُعادَلة البصريّة المجرَّدة التي لطالما أَدهشتِ الإنسانَ منذ قديم الأزمان إلى قانونٍ رياضيّ استثمَره في مشروعاتٍ فيزيائيّة عمرانيّة علَّق بها الجسور وبَنى عبرها العمارات، كما أنَّه أَدخلها إلى عالَم فنونه، بحيث انتقلَ التناظُرُ من عالَم الرياضيّات الأرضيّة عبر الفيزياء، إلى خيال الفنّان المُبدع.
لذلك كلّه، يتضمَّن مصطلح التناظُر بالعربيّة، منذ ارتسامه في عقل اللّغوي الذي نَحته، مفهوماً مُلزِماً. فالقاعدة الرياضيّة المجرَّدة والقانون الفيزيائي المُستبطَن لا يكتسبان معنىً عنده إلّا بَعد مرورهما بعَيْن الإنسان النّاظر فيه نظرةً تَخترق سرّه، فتَستخرج منه ما هو أبعد من الصورة وأبعد من الشكل.
بهذا المعنى بإمكاننا اعتبار أنَّ التناظُر واستثماره من قِبل الإنسان، قد جاء في أساس الحضارة البشريّة التي أعطاها ابن خلدون أجمل تعبير، وهو العمران البشري، بخاصّة لدى الشعوب القديمة. فالعمران إنَّما هو بنيان مجرَّد ارتَسم في عقل الإنسان عبر النَّظر، فتحوَّل بالتدريج عبر التأمّل والتفكير، إلى مشروعاتٍ ملموسة بشريّة وحيّة؛ عِلماً أنَّ التأمّل في مُعادلاتِ التناظُر جَعَلَ الإنسانَ يُلامِس أبعادَه بالخيال، فيما التفكير جَعَلَهُ يتعاطى معه بالعقل، فصبَّ الاثنان لاحقاً في أشكالٍ من العمران البشريّ متكاملة متنوّعة. وبهذا المعنى أيضاً، فإنَّ العمران البشري نظرةٌ (متقدّمة وشاملة) في التناظُر الأوّلي الذي ارتَسم في خيال أبناء آدم وحوّاء وعقلهم.
1- التناظُر العلميّ
في الحقل العلمي التناظُر مُعادَلة. ففي الرياضيّات يُشير إلى التجانُس والتوازُن بين الأشكال، وعلى هذه القاعدة فهو يتميَّز بعددٍ من الخصائص المُحدَّدة هي:
الثبات: فالشكلان المَعنيّان أو الأشكال المَعنيّة به ثابتة في مقاساتها.
الانعكاس: أشكال التناظُر مَبنيّة على انعكاسٍ يُحاكي بعضه بعضاً.
العزْل: كيفما دارتْ هذه الأشكال، تبقى مُتناسقة.
القياس: لا تتبدَّل فيها المقاسات البتَّة.
ولذلك كلّه يَعتبر عِلم الرياضيّات أنَّ التناظُر يقوم على قطعتَيْن متساويتَيْن قابلتَيْن للفصل نظريّاً بخطٍّ واحد، مع بقائها على طبيعةٍ هندسيّة واحدة. ومن هنا مُعادَلة التناظُر العلمي المعروفة: Xa+Yb=1 وكي تكون الرياضيّات أكثر دقّة تُشير أيضاً إلى أنَّه بإمكان الأشكال التي يشملها التناظُر أن تكون أشكالاً غير مُنتظمة. إلّا أنَّ عدم الانتظام هذا يَترافق حتماً مع الخصائص الأربع التي ذكرناها أعلاه. وهذا يعني أنَّ التناظُرَ في صيغته العلميّة، لا يشذّ عن الثبات بأبعادة كافَّة. وللتأكيد على هذه الفكرة، على التناظُر أن يشمل:
إمكانيّة استبدال a بـ b وبالعكس أيضاً، من دون أن يتبدَّل جوهر المعادلة.
الرسوّ على خطّ محوريّ واحد عند اللّجوء إلى غزْل الأشكال.
ثبات المعادلة التامّ حتّى عندما نَستبدل x بـ -x أو y بـ -y
بل إنَّ علماء الفيزياء قد ذهبوا أبعد من ذلك خلال القرن الماضي، إذ استنبتوا نظريّة المجموعات (Group Theory) التي تَعتبر أنَّ الطبيعة في أعماقها وقوانينها النّاظمة مَبنيّة على تناظُرٍ بنيويّ ما، وعليه تَخضع لنظريّة المجموعات الفيزيائيّة.
هل يُبعدنا ذلك كلّه عن موضوعنا؟ نعم ولا. وهذا ما سنكتشفه في المُقارَبة الوجدانيّة للتناظُر.
2- التناظُر الوجدانيّ
لو عدنا إلى "لسان العرب" لابن منظور، لرأيْنا أنَّ النَّظر (الذي يُشتقّ منه التناظُر) يعني "تأمَّلَ الشيء بالعَيْن". أمَّا النظران فهو يُشير إلى تحريك العَيْن إبّان النَّظر، يعني ذلك أنَّ النَّظر عمليّة حيّة تستدعي التأمُّلَ وتعنيه، عِلماً أنَّ التأمُّلَ يَستدعي بدَوره الخيالَ والعقل.
من هنا نلاحظ أنَّ المفهومَ العربيّ للنظر مُتلازمٌ مع حياةٍ ما، يعيشها هذا النَّظر، إذ يَتلازم مع عمليّاتٍ ذهنيّة تنقله من البصر إلى البصيرة. وهذ الأمر ليس بجديد؛ فاللّغة العربيّة من أغنى لغات العالَم تعبيراً عن مضامين المُصطلحات في المجالاتِ المتعلّقة بالعلوم الإنسانيّة كافّة.
وتُشير التعابير المُرافِقة لشَرْحِ ابن منظور بوضوحٍ إلى أبعاد النَّظر الذي يتحرَّك، حتّى خارج قوانينه الفيزيائيّة والحسيّة، إذ يَنقل اللّغوي العربي في هذا المضمار: "وتقول العرب: دُور آل فلان تَنظر إلى دُور آل فلان، أي هي بإزائها ومقابلة لها". هنا لا يَنظر إنسانٌ إلى شيء، بل الأشياء تَنظر إلى بعضها بعضاً، أي أنَّ النظر خاصيّة الإنسان والطبيعة على السواء، من دون فصلٍ أو قطيعةٍ بين هذا وتلك، والأمر ليس منوطاً بفئةٍ معيَّنة من الناس، كما أنَّه لا يقتصر على الخاصّة، بل يَشمل الجميع ويَعكس الوعي الشعبي العامّ. فالتعريف هنا مُرهَف ومُفعَم بالمعاني.
وتوسُّعاً بالشرح يُشير ابن منظور إلى الآتي: "نظرتُ فُلاناً، أي نظرتُ وانتظرتُ". النَّظر يَستتبع الانتظار، بمعنى أنَّ النَّظر يَستبطن ضمناً ما نحن بانتظاره، وهذا ما يَجعل من النَّظر إقامةَ حوارٍ صامتٍ وتفاعليّ مع الموضوع الذي تَنظر بصيرتُنا إليه. نتوقَّع من الشيء أو الشخص أو الصورة أن يمدّوا لنا إجابةً عن سؤالنا الكامن في نَظَرِنا إليهم. فنظرة الإنسان سؤالٌ ومشروعُ حوار، وانتظارُ إجابة. وهنا يَبدأ جمالُ المفهوم وعمقُه.
يذهب ابن منظور في شرْحه إلى إضفاء صفاتٍ حميمة على النَّظر؛ إذ إنَّ النّاظر عنده يَعني الحافِظ. فناظر الزرع هو المزارع، إذ عندما يَنظر الفلّاح إلى زرْعه، يعني ذلك أنَّ نظرته هادفة، تحمل معنى المحافظة على الزرع. وهذا شأنٌ شائع في أوساط المُزارعين والريفيّين في العالَم العربي الذين يقومون بـ "زيارة" حقولهم ومزروعاتهم من حينٍ لآخر "للاطمئنان عليها" كما يُقال.
فالوعي العربي لمسألة النّظر مُشبَع بالدلالات والمعاني الإنسانيّة التي تتخطّى العمليّة البصريّة البحتة، بحيث يقودنا كلُّ ذلك إلى فهْمِ النَّظر كمُنطلقٍ لمُحاكاةِ ما هو قائم خَلفه. تَحمل النظرةُ البشريّة (أكانت عند العلِم أم عند الإنسان العادي) في أحشائها ترقّباً تفاعليّاً ما. فهي سؤالٌ يبحث عن إجابة ويتوقّع الحصول عليها في صورةٍ ما، يَستثمر خياله وعقله في هذه العمليّة الذهنيّة التفاعليّة الحيّة، مغلّباً تارةً هذا وطوراً ذاك. فالإنسان يَنظر وينتظر كما سبق أن أشرنا إليه، ونَظَرُه حمّال عاطفة ومشاعر وانتظارات.
وفي التناظُر يقول ابن منظور "التناظُر: التراوض في الأمر"، والتراوض يعني التجاذب، أي أنَّ طرفَيْن يتقابلان خلاله ويتبادلان الصور في ما بينهما. فالتناظُر مبنيٌّ على التقابل والتجاذب في آنٍ معاً.
في التناظُر الجيوميتري أو الفيزيائي يكون التناظُر مقصوراً على التقابل، بينما في التناظُر المتعلّق بالعلوم الإنسانيّة - وهو ما يعرضه معجم لسان العرب ويفيدنا على نحو مباشر - فإنَّ التقابل تفاعلي وتجاذبي، بحيث يستدعي حضوراً بشريّاً ولا يقتصر على الماديّات والمجرّدات.
3- بين التناظُرَيْن
لو قارنّا بين التناظُريْن العلميّ والوجدانيّ خاصّتنا، للاحظْنا وجود سلسلة من النقاط، أوّلها مشتركة فقط، فيما الأخريات متباينة ومختلفة.
- فالتناظُران العلمي a وb هُما شكلان يتساويان بالمقياس ولا يساوي أيٌّ منهما صفراً، ومن هنا المعادلة التي سبق وأَشرنا إليها حيث Xa+Yb=1. امتلاؤهما رياضي ونظري ووجههما الشكلي موحَّد وثابت.
في التناظُر الوجداني a وb ليسا رقمَيْن جامدَيْن، بل عنصرَيْن ثقافيَّيْن يتمتَّعان بالحركة والحيويّة، غير أنَّ تشابههما في وجدان الناظر إليهما يَجمعهما عمليّاً في سلَّة واحدة ويعطيهما قيمة واحدة وتسمية واحدة، كما أنَّه يعيهما ضمن معادلة موحَّدة وموحِّدة.
وبالعودة إلى "لسان العرب" نرى أنَّ ابن منظور يُعرّف التناظُر على أنَّه "تراوض في الأمر" ثمَّ يَشرح التراوض على أنَّه شبيه بـ "التجاذب في البيع والشراء"، أي أنَّ عمليّة واحدة تحصل بين عنصرَيْ البيع والشراء على سبيل المثال وتتمثَّل بالتجاذُب. وهنا يجيء التناظُر تجسّداً واحداً لعنصرَيْن يتساويان، من حيث القيمة بالتراضي بين شخصَيْ البائع والشّاري. فالمساومة هنا جارية ومتحقَّقة في الواقع المعيش، ولا يُمكن إنكارها موضوعيّاً، غير أنَّها - وهنا بَيت القصيد - مرهونة بوعي الطرفَيْن وقبولهما، الأمر الذي يعني أنَّ التناظُر الوجدانيّ نسبيّ وإنسانيّ، فيما التناظُر العلميّ قطعيّ وقياسيّ.
صحيح أنَّ الاثنَيْن يتشابهان في المَلمح الخارجيّ العامّ، وصحيح أنَّ أيّاً منهما لا يحوي فراغاً، بيد أنَّ وحدتهما شكليّة وظاهريّة فقط، إذ إنَّ جوهرها في التناظُر الوجداني، مشروطٌ بتطابُقٍ في الوعي ورغبةٍ في التبادُل السلميّ. لكنْ إن فَقُدَ الوعي بالمصلحة المشتركة يبْطُل التناظُر... ويبدأ الخصام، فالخلاف والاختلاف، فالتخاصُم، فالحرب.
- فالاختلاف النوعيّ بين التناظُر العلميّ والتناظُر الوجدانيّ هو أنَّ الأوّل قابل للتوسّع، لكن على القاعدة نفسها، صعوداً أو نزولاً. أمَّا التناظُر الوجدانيّ فهو قابل للانتقال، ضمن وعي الإنسان الواحد، من قضايا العالَم البشري إلى أشياءِ المادّة المرتبطة بالطبيعة، كما إلى ظواهر العمران الحجريّ والمعدنيّ والخَشبيّ.
وبذلك لا يكتفي التناظُر الوجدانيّ بوجهٍ واحد يُطلّ به على الوعي الإنسانيّ، بل بوجوهٍ عدّة. فالتناظُر الذي يقوم بين ديار فلان التي تطلّ على ديار فلان، أحد هذه الوجوه الذي انسحبت فيه عمليّة الإدراك من مجالٍ ماديّ إلى مجالٍ ماديّ وبشريّ على السواء. فالتقابُل هنا من طبيعتَيْن، إذ تَنظر بيوتُ هذه العشيرة إلى بيوتِ عشيرةٍ أخرى تُقابلها، كما يَنظر، من خلال هذه الأبنية، أهلُ هذه الجماعة إلى الجماعةِ البشريّة المقابلة.
فالتناظُر الوجدانيّ يغدو بذلك هنا، تداخلاً بين مستويَيْن من الإدراك، وتالياً الوعي، الأمر الذي يَجعل من عمليّة الدمْج هذه مصدرَ غنىً على مستوى المشاعر والأحاسيس. والبكاء على الأطلال الذي اشتَهر به شعراءُ العرب يَندرج في هذا السياق التداخليّ الذي تُحاكي فيه المادّةُ البشرَ والبشرُ المادّةَ، وكأنَّهما في سجلٍّ معرفيٍّ واحد.
لكنّ هذا التناظُر الوجدانيّ، العاطفيّ، نسبيّ، ولا ثبات فيه كما هي الحال في التناظُر العلميّ، حيث يكفي أن تكون دُور فلان لعشيرة مختلفة الأهداف والمصالح مع عشيرة مقابلة حيث يتحوَّل التناظُر، في وعي أصحابه في هذه الجهة وتلك من مصدر اندماجٍ عاطفيّ إلى مصدر للعداء، بحيث إنَّ التناظُر الوجدانيّ لا يعني، عندما تدخل عليه المشاعر المرتبطة بمصالح متنافرة، ما تعنيه معادلة التناظُر العلميّ من ثباتٍ نظريّ وشكليّ، بل ينزلق بسهولة إلى معادلته المتحرّكة حيث Xa+Yb≠1. فروابط الأخوّة بين عشيرة وأخرى أو من ضمن العشيرة الواحدة لا تخضع للثبات المُستدام، بل هي نسبيّة بامتياز، وعرضة للانفراط لدى افتراق المصالح، بحيث إنَّ عدم نسبيّة التناظُر العلميّ تقابله نسبيّة التناظُر الوجدانيّ، وهذا ما يُفسّر بالمناسبة إصرارَ أبناء العمّ العربيّ على استخدام مصطلحيّ الأخوَّة والإخوة جنباً إلى جنب مع مُمارساتٍ لا تمتّ بصلة إلى معناهما، فيما هُم يختلفون ويُعادون بعضهم بعضاً بألف طريقةٍ وأسلوب. فالتناظُر الأخويّ هنا خدعة وتمويه كما سنرى لاحقاً.
- في التناظُر العلميّ لا تداخُل ضمن الوجه الواحد الذي هو، بذاته أيضاً، توجّه أوحد. فالشكل والشكل المقابل هما واحد، ولا تصحّ فيه سوى قراءة واحدة ذات مآلٍ واحد. جلّ ما تسمح له حركته هو الدوران والغزْل حول محورٍ واحدٍ أو خطٍّ واحد. ففي النهاية للتناظر العلمي وجهٌ واحد حتّى لو توزَّع على شكلَيْن منفصلَيْن مكانيّاً.
أمَّا التناظُر الوجدانيّ فأمره مختلف، إذ إنَّ توزّع الشكلَيْن لا ينحصر في الانفصال المكانيّ، بل يطولهما انفصالٌ معرفيّ زمانيّ. لا يتطابق العنصران في التناظُر الوجدانيّ، بل يرتدي كلٌّ منهما وجهاً وتوجّهاً مختلفاً وينتميان إلى زمنَيْن معرفيَّيْن مختلفَيْن. وبما أنَّ الزمان المعرفيّ لأهل دُور فلان مختلف بحُكم النسبيّة الوجوديّة - وعلى عكس المكان المعرفيّ الذي هو واحد في التناظُر العلميّ وغير خاضع للنسبيّة - فإنَّ دُورَ فلان الآخر وأهلها سيتمتّعون بوجهٍ ثابت مكانيّاً، لكنْ متحرّك في الزمن المعرفيّ. أي أنَّ أشكال الوعي الوجدانيّ - البشريّ القائمة بين الطرفَيْن هي التي ستُنتِج التوجُّه الذي سيتّخذه الوجه الذي سيطلّ على دُور فلان على أهل دُور فلان الآخر. ومن هنا فإنَّ التقارُب المكانيّ وحتّى التناظُر المكانيّ رملٌ متحرّك دائم تحت أقدام أهله.
بهذا المعنى فإنَّ التناظُر الوجدانيّ خدعة بصريّة تخفي تحتها تباعداً مُحتملاً وطبيعيّاً، إذ هو رهْن حالة متغيّر أساس يتمثَّل بالوعي البشري، هذا الوعي الخاضع لشكلِ المعرفة ونوعها المُحرّكَيْن له. وعي الإنسان هو ما يَجعل التناظُر ترويضاً تفاعليّاً بنّاءً ومفيداً للطرفَيْن أو على عكس ذلك كرة نار تُحوِّل التناظُرَ إلى تطاحُن.
فطرائق التفكير والتخطيط والتنفيذ هي التي تتحكَّم بالمفاهيم كلّها. هي الرياح الخفيّة التي تتحكَّم بحركة السفن وجريانها.
- أخيراً، لا بدّ من القول إنَّ التناظُر العلميّ يحمل معنىً مجرَّداً فيه تطابقٌ قياسيّ تعكسه التسمية الغربيّة. وهو مفهوم قياسيّ يُشير إلى هندسة كونيّة من عيارٍ لا يُمكن لعقلنا أن يفهمها أو يستوعبها بأبعادها كافّة. فجلّ ما استطاع الإنسان القيام به هو استثمار بعضٍ منها في مشروعاته العمرانيّة والفنّيّة. لكنَّ الأهمّ في الأمر هو أنَّ التناظُر التامّ - كما حاله في المجال العلميّ - غير مُتاح في المجال الوجدانيّ، البشريّ بامتياز.
نقول ذلك ونُشدِّد عليه، لأنَّ ما أَطلقنا عليه اسم التناظُر الوجداني ليس سوى حالة معرفيّة خاصّة بالوعي البشريّ ومرتبطة بالمعنى الحياتي للإنسان؛ ففي حين أنَّه يَستخدم فهمَه للتناظر العلميّ لأغراض عمرانيّة ورياضيّة وفنّيّة بنّاءة، نراه يوظِّف التناظُرَ الوجدانيّ في حركات المدّ والجزر التي يعيشها وعيه، بحيث إنَّ التناظُر الثابت في وعيه العلميّ يغدو غير ثابتٍ في وعيه الوجدانيّ. ففي وعيه انتقالٌ دائم بين مستويات التناظُر التي يبتكرها، فيُقرِّب تارةً البعيد ويُبعِد تارةً القريب.
فالكلام على وحدة الشعوب أو البشريّة أو الجماعات (مهما كان حجْمها) منبثق من رؤية تناظريّة تأسيسيّة. فقايين وهابيل كانا أخوَيْن، بيد أنَّ وعي كلّ منهما أبعدهما عن الوحدة البيولوجيّة وجَعَلَهما على نقيض بعضهما البعض على مستويات تفاعل الوعي.
فالتناظُر الوجدانيّ البشريّ عاجز أن يؤسّس لتناظرٍ حياتيّ أو مَساريّ ثابت، كالتناظُر العلميّ. هو مشروع وحدة مُمكن، ضمن التنوُّع، وشرط أن تضبطه أشكالُ الوعي البشريّ في سياقِ تآخٍ معنويّ وماديّ حقيقيّ نسبيّاً.
بيد أنَّ البشريّة لم تستطع حتّى الآن ضبْط هذا التناغُم على نحوٍ تامّ، بخاصّة في إطار الشعوب التي لا تزال تنتمي إلى أشكال الوعي القديمة وعلى رأسها العصبيّة.
*عالِم اجتماع من لبنان