«صليبية ماكرون»: اتهام إسرائيلي لباريس

news image

متابعة وتحليل وكالة BETH

 

في لهجةٍ غير مسبوقة تجاه حليف أوروبي، وصفت وزارةُ الخارجية الإسرائيلية مسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للاعتراف بدولة فلسطينية بأنّه «حملة صليبية ضد الدولة اليهودية»، متهمةً باريس بمكافأة «الإرهابيين» - على حد التصريح الإسرائيلي؛ بدل الضغط عليهم. التصريح الحادّ، الذي استحضر أحد أكثر المصطلحات التاريخية حساسية في الوعيين الإسلامي واليهودي، يفتح فصلاً جديداً من التوتر الدبلوماسي بين تل أبيب وباريس، ويثير أسئلة حول الدوافع الإسرائيلية لاستخدام خطابٍ بهذا الثقل الرمزي، وما إذا كان هدفه حشد الداخل، ردع الأوروبيين، أم مجرّد طلقة تكتيكية ستذوب في صخب الأحداث المقبلة.

لماذا اختارت إسرائيل وصف الموقف الفرنسي بـ«الحملة الصليبيّة»؟

استحضار إرثٍ دينيّ-تاريخيّ ضدّ اليهود
لفظ «الحملة الصليبية» يُذكّر بالقرون الوسطى حين قاد ملوكٌ وأمراء أوروبيون حملات عسكرية دينية طالت اليهود في طريقها إلى المشرق. باستخدام المصطلح، توحي إسرائيل أنّ ماكرون لا يتحرّك بدافع سياسي أو قانوني، بل بدافع عداء عقائدي متجذّر ضد «الدولة اليهودية»؛ أي أنّ اعترافه بالدولة الفلسطينية امتدادٌ لمسار أوروبي تاريخي اضطهد اليهود. 

نزع الشرعيّة عن المبادرة الفرنسية
توصيف الخطوة بـ«الصليبية» يُصوّرها عملاً هجوميًا أحاديًا لا حوار فيه، في محاولة لتحويل النقاش من «حق الفلسطينيين في دولة» إلى «حملة عدائية ضد إسرائيل». بذلك تُحذّر تل أبيب العواصم الغربية من الانضمام إلى مسار باريس خشية وصمها بالموروث نفسه. 

رسالة تعبئة للداخل الإسرائيلي
الخطاب يُخاطب الداخل الإسرائيلي، ولا سيما اليمين القومي، عبر استنهاض ذاكرة «محاكم التفتيش» و«اللاسامية» الأوروبية. الهدف هو حشد الدعم الشعبي ضد أي ضغط خارجي والتأكيد على أن «العالم المسيحي» يظل خصمًا متقلبًا لا يمكن الوثوق به. 

مقاربة السردية الإسلامية معكوسة
في الوعي الإسلامي تُستدعى «الحروب الصليبية» كتعبير عن عدوان غربي على الشرق. استخدمتها إسرائيل بالمقلوب لتصوير نفسهــا ضحية «حملة صليبية» معاصرة، فتُضعف أي تعاطف إسلامي محتمل مع خطوة ماكرون، وتربطه بذاكرة استعمارية سلبية.

إعادة قراءة لاستخدام عبارة «حملة صليبية»

أوّل ما يُلفت هو أنّ تل أبيب استحضرَ مصطلحاً ذو شحنة تاريخية حادّة لخدمة تكتيك «المظلومية». على غرار توظيفها المتكرّر لكلمات مثل «اللاساميّة» أو «الإبادة»، تريد إسرائيل أن تُلبِس خطوة ماكرون ثوباً عتيقاً من الاضطهاد الدينيّ ضدّ اليهود، فتظهر أمام جمهورها الداخلي والعواصم الغربية في موقع الضحيّة لا الطرف المختلف على ملفّ سياسي. هذا هو الهدف الأساسي والأقوى.

غير أنّ استدعاء لفظ «صليبي» لا يخلو من مردود جانبي في الساحة العربية: إذ يذكّر المستمع، ولو بشكل غير مباشر، بتاريخ فرنسا الاستعماري وحملات الغرب على المشرق. ذلك قد يحرج بعض الحكومات المتحالفة مع باريس، لكنّه يبقى مفعولاً ثانوياً مقارنة بالغرض الدعائي الموجَّه للداخل الإسرائيلي والدوائر الغربية.

أما احتمال أن يُفسَّر الخطاب على أنّه يكشف «عداءً يهودياً للمسيحية» داخل الرأي العام الغربي، فهو ضعيف. إسرائيل حريصة على إبقاء جسورها مع العواصم والكنائس المسيحية، وستُفهم العبارة هناك بوصفها مجرّد انتقاد دبلوماسي شديد اللهجة لا تصريحاً عقائدياً.

وأخيراً، على الأرجح سيذوب وقع المصطلح سريعاً مع تغيّر دورة الأخبار، فيتحوّل إلى طلقة ضغط لحظيّة أكثر من كونه مفردة ثابتة في قاموس الصراع. تأثيره طويل الأمد يظل محدوداً ما لم تتبعه أفعال تَرسِمُ مساراً جديداً للعلاقات بين باريس وتل أبيب.

 

🔸 عقلية القلعة المحاصَرة

اختيار إسرائيل لمفردات شديدة الحدّة—من «حملة صليبية» في مواجهة فرنسا إلى «إرهابيين» في توصيف الفلسطينيين أو العرب—يكشف عن مقدار كبير من الشحن النفسي والسياسي في الخطاب الرسمي الإسرائيلي. وراء هذه اللغة ثلاث ملاحظات أساسية:

هوس شرعنة الذات ونزع شرعية الآخر
إسرائيل ترى أنّ مجرّد الاعتراف بدولة فلسطينية يهدّد سرديّتها كـ«دولة يهودية مُحاصَرة». لذلك تلجأ إلى ترسانة لغوية تُحيل أي خطوة معارضة إلى عداء وجودي: الأوروبي «صليبي»، والفلسطيني «إرهابي». بهذه الطريقة تُعفي نفسها من مناقشة جوهر المسألة—الحقوق السياسية والإنسانية—وتحوّل النقاش إلى صراع بقاء.

خطاب أمني يُنتِج دوّامة الخوف
عندما تُعَرِّف إسرائيل العالم عبر ثنائيّة «صديق/عدو» مستندة إلى ذاكرة الاضطهاد، فإنّها تُحصّن جمهورها داخليًا لكنها تزرع في الوقت نفسه شعوراً عميقاً بعدم الأمان، ما يُعزز السياسات المتشدّدة ويقلّص هامش الدبلوماسية. هذا الخطاب لا يدفع بالضرورة إلى السلام، بل يبرّر الإجراءات العسكرية ويبرّر استمرار الاحتلال تحت شعار «الدفاع عن النفس».

انعكاسات على مسار السلام والأمن الإقليمي
اللغة الإقصائية تبعد الشركاء المحتملين وتغذّي السرديات المضادّة في الجانب العربي والإسلامي. كلما اتّسعت الفجوة الخطابية، تضاءل احتمال الوصول إلى حلول سياسية وسطية، وتعاظمت فرص الانزلاق إلى جولات عنف جديدة. على المدى البعيد، استمرار هذه المفردات يُعمّق عزلة إسرائيل الأخلاقية ويقوّض هدفها الاستراتيجي المعلن، أي أن تكون «كياناً طبيعياً» في المنطقة.

الخلاصة: استعمال المصطلحات التاريخية المشحونة والتوصيفات التعميمية ليس مجرّد «زلات بلاغية»، بل هو جزء من بنية سرديّة تركّز على تهديد وجودي دائم. هذا الخطاب قد يخدم أهدافاً تكتيكية آنية—كحشد الداخل أو صدّ ضغوط خارجية—لكنه يضع إسرائيل خارج مسار سلامٍ مستدام ويرسّخ انعدام الثقة مع الجيران والمجتمع الدولي. ومن ثَمّ، فإنّ أمن إسرائيل الحقيقي—وأمن المنطقة ككل—يظل مرهوناً بتجاوز عقلية «القلعة المحاصَرة» لصالح لغة تعترف بالحقوق المتبادَلة وتبحث عن تسويات قائمة على العدالة لا القوّة وحدها.