الأميركيّون وعواقب تهجير الفلسطينيّين

وفاء البوعيسي*
يقول برايان كاتوليس Brian Katulis، الباحث في معهد الشرق الأوسط، إنّه "لا توجد أيّ إمكانيّة" لترحيل الفلسطينيّين من غزّة إلى الأردن أو مصر، مؤكّداً أنّ الفلسطينيّين "تحمّلوا الكثير للبقاء في وطنهم، حتّى وإن دُمِّرت منازلهم، ومستشفياتهم، ومدارسهم، ودور عبادتهم". ووصف كاتوليس خطّةَ التهجير بأنّها "نموذج لن يَنجح في الشرق الأوسط الحديث"، مشيراً إلى أنّ التوقيت حسّاس بسبب هشاشة اتّفاق وقف إطلاق النار، وصفقة تبادُل الأسرى المتكرّرة والمتعثّرة، وأنّ هذه الخطوة قد تُشتِّت الانتباه عن الجهود المبذولة لتأمين الإفراج عن الأسرى وإيصال المساعدات الإنسانيّة.
أمّا دانيال دريزنر Daniel Drezner، أستاذ السياسة الدوليّة في جامعة تافتس، فيَرى أنّ الهدف من خطّة ترامب هو إجبار مصر والأردن على قبول الفلسطينيّين ليتمكَّن الاحتلال الإسرائيلي من ضمّ غزّة، مُشيراً إلى أنّ الفكرة "غير قابلة للتطبيق" بالنسبة إلى السعوديّين والعرب عموماً. كما أوضح أنّ الأردن، الذي يعتمد على المساعدات الأميركيّة، قد يلجأ إلى السعوديّة والإمارات إذا تعرَّض لضغوطٍ ماليّة.
رفضٌ عربيٌّ قاطِع
رفضتِ الدولُ العربيّة بسرعة اقتراحَ ترامب بترحيل الفلسطينيّين. كما أكَّدت السعوديّة موقفها الثابت بشأن إقامة دولةٍ فلسطينيّة، وأَعلن وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان رفضَهُ الواضح لأيّ خطّة لترحيل الفلسطينيّين. أمّا الأردن، فعلى الرّغم من حاجته إلى المساعدات الأميركيّة، فإنّه من غير المرجّح أن يقبل بخطّة ترامب، حيث اعتبرَ دريزنر أنّ الاقتراح "أسوأ من فقدان 1.5 مليار دولار من المساعدات السنويّة الأميركيّة".
وبعد تصريحات ترامب، أَعلنت مصر دعْمَها "للحقوق الشرعيّة الثّابتة" للفلسطينيّين، وشدَّدت على ضرورة حلّ الدولتَيْن. كما قرَّر الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي تأجيل زيارته للبيت الأبيض إلى أجلٍ غير مسمّى، مُعلناً أنّه لن يُشارك في أيّ محادثات أميركيّة إذا كان ترحيل الفلسطينيّين مطروحاً على الطاولة.
وصرّح كاتوليس بأنّ مصر "تحاول إعادة تموْضُع نفسها" بعد تصريحات ترامب، إذ تتعارض تلك التصريحات مع مصالحها الأمنيّة. وأضاف أنّ ترامب إذا قرَّر تقليص المساعدات لمصر، فإنّه بذلك يقوِّض علاقات الولايات المتّحدة الأمنيّة التقليديّة في المنطقة.
تراجُع ترامب
بعد اجتماعه مع العاهل الأردنيّ الملك عبد الله الثاني، بدا أن ترامب قد خفَّف من حدّة تهديداته، بخاصّة بعدما وافقت الأردن على استقبال 2000 طفل فلسطيني مريض للعلاج. وقد علَّق دريزنر على تراجُع ترامب قائلاً: "هذا تكرار لنَهجِه مع كندا والمكسيك عندما هدَّد بفرْض رسومٍ جمركيّة عليهما، ثمّ تراجَع مقابل تنازلاتٍ رمزيّة". وأضاف: "الأردن لا يُمكنه الموافقة على خطّة ترامب، لأنّ ذلك سيكون بمثابة نهاية النظام الحاكم هناك، وهذا ما يجب أن يكون ترامب قد أدركه".
إلى جانب الموقف السياسي، فإنّ اقتصادات الأردن ومصر لن تتحمّل استقبال ملايين اللّاجئين الفلسطينيّين. فالأردن يعاني من ضغوطٍ بسبب اللّاجئين العراقيّين والسوريّين، فيما تُواجِه مصر أزمةً اقتصاديّة حادّة وتراجُعاً في قيمة الجنيه المصري بنسبة 84.5% منذ العام 2016. كما أشار دريزنر إلى أنّ تهجير الفلسطينيّين قد يؤدّي إلى تصعيد المُواجهات مع إسرائيل، لأنّ هؤلاء اللّاجئين "لن يتخلّوا عن حقّهم في العودة"، ما قد يؤدّي إلى ظهور جماعات مسلّحة جديدة في المنطقة.
جدير بالذكر أنّه في حال تنفيذ ترامب لتهديداته، قد تلجأ مصر والأردن إلى دول الخليج للحصول على دعْمٍ ماليّ، أو حتّى إلى قوى أخرى مثل الصين، التي لديها مصالح استراتيجيّة في المنطقة. لكنّ دريزنر يرى أنّ التحوُّل إلى الصين أو روسيا كمصدرٍ رئيس للأسلحة "ليس سهلاً"، لأنّ جيوش مصر والأردن تعتمد بشكلٍ أساس على التسليح الأميركي، وأيّ تغيير جذري قد يُضعف قدراتهما العسكريّة.
حاخامات غير صهاينة
يوم الخميس 13 شباط/ فبراير الماضي، نَشَرَ 350 حاخاماً وشخصيّاتٌ عامّة يهوديّة إعلاناً على صفحة كاملة في صحيفة "نيويورك تايمز" استخدموه لإدانة الاقتراح الجديد للرئيس ترامب. يقول الإعلان: "دعا ترامب إلى إبعاد جميع الفلسطينيّين من غزّة. أمّا الشعب اليهودي فيقول لا للتطهير العرقي"، ويليه قائمة الموقِّعين، والتي تضمّ الحاخامات شارون بروس Sharon Bruce، رولي ماتالون Rolly Matalon، وأليسا وايز Alyssa Wise وغيرهم، فضلاً عن الفنّانين والناشطين اليهود مثل توني كوشنر Tony Kushner، إيلانا جلازر Ilana Glazer، ونعومي كلاين Naomi Klein، وخواكين فينيكس Joaquin Phoenix.
من بين الحاخامات الذين أدانوا اقتراحَ ترامب ايضاً، نُشير إلى الحاخام ديفيد روزن David Rosen، المدير الدوليّ السابق للشؤون الدينيّة، وهو عضو في اللّجنة اليهوديّة الأميركيّة والمستشار الخاصّ الحالي للشؤون بين الأديان؛ والحاخام جان شارل بوتزولو Jean-Charles Botswolo من "فاتيكان نيوز"، الذي قال إنّ التطهير العرقي ليس حلّاً. وأشار إلى أنّ "نقل السكّان ضدّ إرادتهم يتعارض مع اتّفاقيّة جنيف"، قَبل أن يضيف أنّ "الأمر الأكثر أهميّة هو أنّه غير أخلاقي. ويجب ردْعُه".
أمّا الحاخام يوسف بيرمان Youssef Berman (من مشروع الكنيس الجديد في واشنطن العاصمة) فقال: "يبدو أنّ ترامب يعتقد أنّه يَملك العالَم وأنّ بإمكانه أن يَسلب كرامة الفلسطينيّين المتأصّلة، أو يسرق أرضهم من أجل صفقة عقاريّة. إنّ رغبة ترامب في تطهير الفلسطينيّين عرقيّاً من غزّة بغيضة أخلاقيّاً". كما خرجت الجمعيّة الحاخاميّة، التي تمثِّل الحاخامات المُحافظين، في معارضةٍ حازمة للاقتراح، ووَصفتْ إعادة التوطين القسري بأنّها "لعنةٌ للقيَم اليهوديّة وقانون حقوق الإنسان الدوليّ". وأكَّدوا جميعهم على الصدمة التاريخيّة المرتبطة بمثل هذه الإجراءات، مُشيرين إلى أنّ "إعادة التوطين القسري جزء مدمِّر من التاريخ اليهودي، ولا ينبغي لنا أن نُلحقه بالآخرين".
لا شكّ أنّ اقتراحُ الرئيس ترامب بالطرد الجماعي لسكّان غزّة الذين نَجوا من حرب بلده مع إسرائيل على الفلسطينيّين، يُذكِّر العالَمَ بنكبة العام 1948، التي أَجبرتْ فيها الجماعاتُ شبه العسكريّة الصهيونيّة مئات الآلاف من الفلسطينيّين على النزوح من ديارهم. وإذا ما تمَّ تنفيذه بقصد تدمير مجموعة معيّنة من أرضها، يُمكن أن يَفي بالحدّ القانوني الأدنى للإبادة الجماعيّة، كما هو محدَّد في اتّفاقيّة الإبادة الجماعيّة للعام 1948. وعلى نحوٍ مُماثل، يُصنِّف نظامُ روما الأساسي للمَحكمة الجنائيّة الدوليّة الترحيلَ والنقلَ القسريّ والاضْطهاد على أُسسٍ عرقيّة كجرائم ضدّ الإنسانيّة (المادّة 7)، في حين تُحظِّر اتّفاقيّاتُ جنيف التهجيرَ القسريّ للمدنيّين في النّزاعات المسلَّحة (المادّة 49 من اتّفاقيّة جنيف الرّابعة).
العِبرة من ذلك كلّه..
على الرّغم من تهديدات ترامب، فإنّ الدول العربيّة وعدداً من الدول الأوروبيّة وشخصيّات وازنة من مختلف الثقافات، ترفض ترحيل الفلسطينيّين، وتبحث عن استراتيجيّاتٍ بديلة لحلّ هذه المعضلة. وفي الوقت الذي قد يؤدّي الضغط الأميركي إلى إعادة تشكيل التحالُفات في المنطقة، فإنّ السعوديّة ومعها سائر بلدان مجلس التعاون الخليجي قد يكونان البديل الأهمّ لمصر والأردن في حال تراجَعَ الدَّعْمُ الأميركي لهما.
ما لا يفهمه ترامب المُهاجِر من ألمانيا إلى أميركا الشماليّة هو أنّ الحقّ في البقاء لا يَعني مجرّد الحقّ في "المكوث" وكفى، فهذا الحقّ يتطلَّب أن يكون المرء قادراً على البقاء داخل مُجتمعه الأصليّ، والوصول إلى "البنى التحتيّة للوجود" الماديّ والاجتماعيّ، بما في ذلك المياه والغذاء والاستشفاء والتعليم وأماكن العبادة، ووسائل كَسْب الرزق. ومن دون هذه البنى التحتيّة، يُصبح الحقّ في البقاء مستحيلاً.
وبخلاف الوجود المادّي المجرَّد، يجب أن يشمل الحقّ في البقاء أيضاً، الحقَّ في حفْظ تراث الجماعة وثقافتها بالوجهَيْن القديم والحديث، وكذلك احترام شبكة العلاقات التي تربط الناس بعضهم ببعض في المكان والزمان وظروف تقلّباتهما.
وهذا جانبٌ حاسِم من مسألة الحقّ، لأنّ المشروع الذي يقترحه ترامب لا يهدف إلى الإزالة الماديّة واستبدال السكّان فقط، بل يسعى إلى محو إرث السكّان الأصليّين وتاريخهم وهويّاتهم ونضالهم، كما يشمل الارتباط بالأرض.
وأخيراً، لا يُمكن أن يكون كافياً مجرّد السماح لجماعةٍ بالبقاء كسكّان مهجَّرين داخل منطقة مُحاصَرة، ما لم يَشمل هذا الحقّ قدرةَ هذا الشعب على تحديد مصيرِهِ بنفسِهِ.
*كاتبة وروائيّة من ليبيا
___________________________________________
ما كتبته وفاء البوعيسي هو نص سياسي – إنساني – قانوني – وجداني من الطراز الرفيع، يجمع بين التحليل الواقعي، الرؤية الأخلاقية، والمرجعية القانونية والتاريخية، ويُقدم قراءة متعددة الأبعاد لمسألة التهجير القسري للفلسطينيين، خصوصًا في ظل خطاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
🔍 تحليل BETH – قراءة في ما وراء النص
🎯 جوهر المقال:
الكاتبة لا ترد فقط على فكرة التهجير، بل تُفكّك المنظومة الكامنة خلفه:
تفكير استعماري محدث
صفقة عقارية متنكرة بثوب الحل السياسي
محاولة "إزالة مادية" و"محو رمزي" للهوية الفلسطينية
⚖️ محاور القوة في النص:
1. مرجعية قانونية قوية:
استندت الكاتبة إلى:
اتفاقية جنيف الرابعة (المادة 49)
اتفاقية الإبادة الجماعية (1948)
نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (المادة 7)
… وهذا يُعطي النص شرعية أممية تُقوّي الموقف الأخلاقي.
2. كشف الموقف الأميركي المزدوج:
حين يخشى ترامب على أمن إسرائيل، يتغاضى عن تفكيك الكيانات العربية.
ثم يتراجع بعد ضغط من الملك الأردني أو عندما يهدد التحالف الاستراتيجي، لكن دون اعتذار… فقط تخفيف لهجة.
3. حضور يهودي معارض لترامب:
فقرة الحاخامات والنشطاء اليهود تُعد من أقوى عناصر النص، لأنها تكسر ثنائية "يهودي = صهيوني"، وتُظهر أن هناك ضمائر حيّة داخل المجتمع اليهودي ترفض التطهير العرقي باسم الدين.
🌍 أين تقع السعودية؟
ذكرت الكاتبة أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أعلن رفضه القاطع، ما يُظهر:
رسوخ الموقف السعودي في دعم الحقوق الفلسطينية
إدراك المملكة لخطورة اللعب بالتوازن السكاني في الأردن ومصر
وعي المملكة بأن أي عبث ديموغرافي سيكون له ارتدادات جيوسياسية تمس كل الإقليم، لا فلسطين فقط.
🧠 الفقرة الأخيرة: فلسفة "الحق في البقاء"
هذه الفقرة تُضاهي في عمقها ما يُكتب في المدارس النقدية الأوروبية، وتُعيد تعريف الحق لا باعتباره "النجاة من الموت" بل:
البقاء ككائنٍ اجتماعي، في نسيج ثقافي، وفي أرضٍ ذات ذاكرة وهوية.
وهنا تحوّل النص من دفاع عن شعب إلى دفاع عن الفكرة الإنسانية نفسها… في وجه من يحوّل البشر إلى ملف سياسي قابل للمساومة.
🧩 خلاصة BETH الرمزية:
التهجير ليس فقط جريمة ضد الأشخاص… بل ضد ذاكرتهم.
وما تسعى له بعض السياسات الدولية ليس فقط نقل الفلسطينيين من المكان، بل نزع المكان من الفلسطينيين.