حُكم الجغرافيا... حين تُملي الأرض على السياسة خياراتها

✍️ عبدالله العميره
ليست كل القيود التي تكبّل الدول من صنع البشر، فبعضها نابع من الأرض نفسها.
الجغرافيا ليست خلفية للمشهد السياسي، بل هي أحيانًا كاتب السيناريو... ومخرج اللعبة.
إنه حُكم الجغرافيا.
ذلك القانون الصامت الذي يُرغم الدول على أن تتصرف بطريقة معيّنة، ولو أرادت غيرها.
قد تختار الدول سياساتها، لكن الجغرافيا تختار حدود مرونتها.
مصر: بوابةٌ لا تُغلق
منذ أن رُسمت قناة السويس على الرمال، باتت مصر في قلب الخريطة الدولية.
ليس لأنها الأقوى عسكريًا أو الأغنى اقتصادًا، بل لأن موقعها يمنحها وزنًا لا يمكن تجاوزه.
من يريد العبور بين الشرق والغرب لا بد أن يمر بها... ومن أراد محاصرتها، احتاج أن يتعامل مع البحر والبر معًا.
حتى في لحظات ضعفها، لم تخرج من الحسابات الكبرى. فالجغرافيا تمنحها حق البقاء على الطاولة، حتى لو تراجع أداء الدولة.
إيران: من الداخل إلى الخارج بالقوة
إيران محاطة بجبال، ومعزولة عن البحار المفتوحة.
فُرض عليها أن تكون قلعة منغلقة، لكنها رفضت أن تبقى كذلك.
فاختارت أن تصدّر أزماتها عبر وكلاء، وتحرق محيطها لتُخفف اختناقها الداخلي.
تمددها في العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان... ليس مشروعًا مذهبيًا فقط، بل حيلة جغرافية للبقاء والتنفس.
تركيا: عقدة البر والبحر
تقع تركيا بين قارّتين، وتتقاطع عبرها مصالح روسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط.
من هنا، تتذبذب سياساتها بين الشرق والغرب، وتتنقل في مواقفها كمن يمشي على حبل مشدود.
جغرافيتها تمنحها نفوذًا، لكنها تسلبها الاستقرار.
فهي تُغري الجميع... وتُقلق الجميع.
فلسطين: مركز الصراع في نقطة تقاطع
الموقع لا يرحم.
فلسطين تقف في قلب طريق بري يربط آسيا بإفريقيا، وشواطئها تُشرف على أهم المنافذ.
ولهذا، كانت ساحة مطامع منذ الفراعنة إلى الصليبيين، ومن ثم الاحتلال الحديث.
هي مثال على أن الجغرافيا قد تكون لعنة لا نعمة، إذا لم تُحسن إدارتها.
الخليج العربي: شريان العالم الذي لا يتوقف
النفط وحده لم يكن كافيًا لجعل الخليج مركزًا دوليًا.
الموقع هو من منحه هذه الأهمية.
مضيق هرمز وحده يُحرّك أساطيل.
ولهذا، تُبنى التحالفات، وتُعقد المؤتمرات، وتُرسم الاستراتيجيات... فقط لضمان ألا يُغلق هذا الممر.
السودان: أرض الخصب والنزاع
يمتلك السودان من الموارد ما يؤهله لأن يكون سلة غذاء المنطقة، لكن موقعه الجغرافي بين النزاعات الإقليمية، وارتباطه بمياه النيل، جعله في قلب الصراعات.
الجغرافيا وحدها لا تصنع القوة، لكنها قد تفسر لماذا لا تنجح الدول رغم الثروات.
ماذا عن السعودية؟
السعودية مثال نادر على دولة:
- أدركت حُكم الجغرافيا
- ثم قررت أن تُعيد تفسيره لصالحها
🔹 في الماضي:
كانت الجغرافيا تُرى على أنها صحراء شاسعة + محاطة بتحديات إقليمية.
🔹 اليوم:
المملكة تعيد تعريف الجغرافيا من خلال:
- رؤية 2030: لا تنمية بلا استثمار في الموقع الجغرافي – اللوجستيات، السياحة، الطاقة، الربط الإقليمي.
- نيوم والبحر الأحمر: خلق مدن تُطل على المستقبل من موقع استراتيجي.
- الربط بين آسيا وإفريقيا: السعودية ليست مجرد طرف جغرافي، بل نقطة وصل حضارية.
- التوازن السياسي الذكي: الجغرافيا السياسية الخليجية المعقدة تُدار بحكمة لا بصدام.
👑 المملكة اليوم تقول بوضوح:
"لن نكون رهائن الجغرافيا… بل سادة استخدامها."
تفكيك المسلّمات، وإعادة طرحها في ضوء العقل والتجربة.
✳️ أولًا: هل "حُكم الجغرافيا" مسلّمة لا حلول لها؟
الجواب: لا. لكنها قاعدة قوية... لا يُمكن تجاهلها.
🔹 الجغرافيا تفرض معطيات
🔹 لكنها لا تُلغي الخيارات
🔹 هي مثل "قانون الجاذبية"... لا يمنع الطيران، لكنه يفرض شروط الطيران
✔️ الدول الذكية لا تُنكر الجغرافيا، بل تفكّر بها، وتبتكر ضمنها.
⚠️ ثانيًا: هل تُستخدم كأداة للتثبيط؟
نعم… أحيانًا تُستخدم هذه الفكرة بطريقة مبطنة وخبيثة في الخطاب السياسي والثقافي:
تقولها القوى الكبرى للضعفاء:
"أنتم محكومون بجغرافيتكم، لا تتعبوا أنفسكم بالمشاريع الكبرى"
تُقال لتبرير الفشل أو التقاعس:
"ما نقدر نسوي شيء… شوف موقعنا وشوف العالم ضدنا"
وهذا فخ يجب ألا نقع فيه، لأن الأمم التي لا تمتلك أدوات القوة المادية يمكنها أن تُبدع من الجغرافيا أداة تفوق.