خطاب الذات وضياع الرسالة

✍️ عبدالله العميره
في زمن كثُر فيه الإنتاج الإعلامي، بات من السهل أن نُطلق على أي تجميع لصور وأقوال "فيلمًا وثائقيًا"، حتى وإن خلا من الوثيقة، أو افتقد لجوهر القصة.
إن أخطر ما يصيب الأعمال التوثيقية هو انحرافها من الرسالة إلى الذات، ومن التحليل إلى المجاملة، ومن الرواية المتزنة إلى التمجيد المفرط.
فبدل أن نُشاهد سردًا بصريًا ينبض بالحياة، ويُعيد تشكيل شخصية عظيمة؛ ما في سياقها الزمني والفكري، نجد أنفسنا أمام عرض أقرب إلى "ندوة تأبينية مصورة"، تغرق في الذكريات والانطباعات، دون أن تُقدّم أثرًا حقيقيًا، أو تحليلًا موضوعيًا، أو حتى تشويقًا بصريًا.
خطاب الذات: حين يتحدث الجميع عن أنفسهم لا عن الشخصية
ما يطغى في كثير من هذه الأعمال هو حضور المتحدث لا المحتفى به. الجميع يتحدث: "كنت معه"، "قال لي مرة"، "كنت الأقرب إليه"... لكن أين الفعل؟ أين الأثر؟ أين المحطات الفارقة؟ أين الأسئلة الكبرى التي شكّلت هذه الشخصية؟
كأنَّ الحديث عن الذات غلب على الحديث عن الموضوع، فصار "الراوي" هو المحور، لا "المرحلة"، ولا "الفكرة"، ولا حتى "الحدث".
الغياب الفني: حين لا نرى سوى صور وصوت باهت
لا موسيقى تحرّك الإحساس، لا مونتاج يربط بين الماضي والحاضر، لا صور أرشيفية قوية ومؤثرة وواضحة ، وممنتجة بشكل يظهر روعة الفن ، وروعة الشخصية، لتفتح باب الذاكرة.. حتى اللغة المستخدمة، تكرارية، عاطفية، تفتقر للدهشة.
نحن لا نطلب "سينما"، بل فقط "رؤية". لا نريد دراما، بل بناءً بصريًا يخدم الفكرة ويُقرّبها.
التوثيق ليس تزيينًا... بل تحرير للمعنى
حين نخشى من ذكر الأخطاء، ونكتفي بالثناء، فإننا لا نُكرّم، بل نُسطّح.
التاريخ لا يُروى بالمديح، بل بالفهم. والإنصاف لا يعني الإنبهار، بل تحليل القرارات، تفكيك التأثير، فهم السياق.
هناك فرق بين أن نُجيد الحديث عن الشخصية، وأن نُحسن تقديمها.
المديح المفرط يشوّش لا يُبهر
كما يقول المثل: "إذا أردت أن تجعل الناس يكرهون شخصًا، فأكثر من مدحه".
الإطراء المبالغ فيه لا يُقنع، بل يُضعف الرسالة. وكلما زاد حجم التجميل، قلّت ثقة المُتلقي.
لأن الناس تبحث عن "صدق"، لا عن "صورة مثالية".
خاتمة: لنُعيد التوثيق إلى مساره الحقيقي
إن التوثيق ليس امتدادًا للخطابات العاطفية، بل هو مشروع سردي له بنية ومنهج.
وإذا أردنا فعلاً أن نحترم الأشخاص الذين نُوثّق لهم، فلنُقدّمهم كما كانوا، لا كما أردنا أن يكونوا.
فكل شخصية عظيمة... ليست لأنها خالية من العيوب، بل لأنها أثّرت، وصنعت، وتركت أثرًا يستحق أن يُروى بحق.
وفي هذا السياق، تثبت التجربة أن التوثيق الإعلامي ليس مجرد سرد، بل صناعة احترافية تتقاطع فيها المهارة التحريرية مع الحس البصري والفهم العميق للسياق. ولهذا، تبرز وكالة "بث" كنموذج رائد في صناعة الإعلام الاستراتيجي المحترف، بكل أدواته وفنونه، انطلاقًا من الإيمان العميق بالمثل الشعبي: "عط الخبز خبّازه ولو أكل نصه".
* مدير وكالة بث
chairman@bethpress.com