لبنان وسوريا نحو نموذجٍ جديد للتعاون

news image


 

د. أحمد حلواني*

 

تُشكّل سوريا ولبنان جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ العالَم العربيّ وثقافته، بخاصّة في منطقة المشرق، حيث يَرتبط البلدان بجذورٍ تاريخيّة وثقافيّة مُشترَكة، فضلاً عن العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة العميقة التي تربطهما، والتداخُل الجغرافيّ الذي لا يُمكن تجاوزه. ومع ذلك، فإنّ هذه الروابط لم تخلُ من التوتّرات التي تعود جذورها إلى الإرث الاستعماريّ، الذي كرَّس الطائفيّة في لبنان، وإلى سياسات الأنظمة الديكتاتوريّة والانقلابات العسكريّة التي غذّت الانقساماتِ الطائفيّة في سوريا.

إنّ هذه التوتّرات أَلقت بظلالها على العلاقات الثنائيّة، حيث تحوَّلت إلى ساحةٍ للتدخُّلات الإقليميّة والدوليّة التي أضرّت بإرادة الشعبَيْن. ومع التطوّرات السياسيّة الأخيرة في كلا البلدَيْن، والتي حدثت أواخر العام الفائت في سورية، وأوائل العام 2025 في لبنان، تلوح في الأُفق فرصةٌ لإعادة صوْغ العلاقات السوريّة اللّبنانيّة بشكلٍ يَخدم مصالح الشعبَيْن ويؤسِّس لأنموذجٍ جديد في التعاون بينهما، ومع دول الإقليم كلّه.

مرحلة الاستقلال: بداية مضْطربة

عقب استقلال سوريا ولبنان عن الانتداب الفرنسي، شهدتِ العلاقات الثنائيّة اضْطراباً كبيراً سَعَتِ الأنظمةُ السوريّة المُتعاقبة منذ البداية إلى ضمان ألّا يقع لبنان تحت سيطرة قوىً مُعادية لسوريا، مُدرِكةً أهميّة لبنان كخاصرةٍ استراتيجيّة لها. ومن أبرز المحطّات في تلك المرحلة:


أ. فصل العُملة السوريّة واللّبنانيّة: خطوة نحو السيادة الاقتصاديّة. ففي إطار ترسيخ الاستقلال الاقتصادي لكلّ بلد، قرَّرت حكومةُ خالد العظم السوريّة إنهاء العُملة المُشترَكة بين البلدَيْن، والتي كان يصدرها "بنك سورية ولبنان"، إضافة إلى إلغاء الوحدة الجمركيّة، وتنظيم الانفكاك، ووضْع نظام جمركي مستقلّ عن لبنان. كما أَنشأت سوريا في العام 1950 ميناء اللّاذقيّة كبديلٍ لميناء بيروت لتقليل الاعتماد عليه.

ب. الخلاف حول جامعة الدول العربيّة. فعلى الرّغم من التوتّرات السياسيّة في بداية الاستقلال، لم تُوافِق سوريا بسهولة على انضمام لبنان كدولةٍ مؤسِّسة في جامعة الدول العربيّة، إلّا بعد تدخُّل دولٍ مِثل المَمْلَكة العربيّة السعوديّة ومصر. كان هذا الموقف يعكس شكوكاً سوريّة تجاه استقلال لبنان الكامل واعتراضاً على ضمّ مناطق إليه، على الرّغم من تبعيّتها بالأصل إلى دمشق.

ت. العلاقات الدبلوماسيّة الرسميّة والاكتفاء بتبادُل التهاني حين انتخاب رئيس للجمهوريّة وتشكيل حكومة جديدة في البلدَيْن. فعلى الرّغم من تلك الخلافات، استمرَّت العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة بين الشعبَيْن بشكلٍ طبيعي، حيث بقي التنقُّل بين البلدَيْن يتمّ ببطاقات الهويّة الشخصيّة، ما يَعكس عُمق الروابط الشعبيّة والمصالح المُتبادَلة.

التوتّرات الإقليميّة والتدخّلات العسكريّة

مع دخول فترة الخمسينيّات والستّينيّات من القرن الفائت، زادت التدخّلات الإقليميّة في تعقيد العلاقات الثنائيّة. وتميّزت هذه المرحلة بمحطّات مفصليّة:

أ. الحقبة الناصريّة وتأثيرها على لبنان

شكّلت الوحدة بين مصر وسوريا في الجمهوريّة العربيّة المتّحدة بقيادة جمال عبد النّاصر مصدراً للانقسام في الداخل اللّبناني، حيث انقسمتِ القوى اللّبنانيّة بين مؤيِّدة ومُعارِضة للوحدة وسياستها ذات التوجُّه الاشتراكي. ساعدت هذه التوتّرات في وصول اللّواء فؤاد شهاب إلى الرئاسة اللّبنانيّة كأوّل رئيسٍ من الجيش اللّبناني كحلٍّ توافقي.

ب. الأزمة الفلسطينيّة وتداعياتها

بعد أحداث أيلول/ سبتمبر الأسود، وإخراج ياسر عرفات والقوّات الفلسطينيّة من الأردن، دخلَ عرفات مع قوّاته إلى لبنان، ما أدّى إلى إشكالاتٍ جديدة بين الأطراف اللّبنانيّة أَخذت بُعدا ًطائفيّاً جرى حلّه عبر "اتّفاق القاهرة" في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1969، ووقّعه الرئيس شارل الحلو رئيس الجمهوريّة بدفْعٍ من ضغْط الشارع الإسلامي في لبنان، إضافةً إلى الإجماع العربي. وقد جاء هذا الاتّفاق بدعْمٍ من الرئيس المصري جمال عبد النّاصر والدول الخليجيّة، وشكَّلَ بدايةَ التدخُّل الفلسطيني في السياسة اللّبنانيّة، ما زاد من تعقيد الوضع الداخلي والدخول في مرحلة حرب أهليّة.

ت. الحرب الأهليّة اللّبنانيّة (1975 - 1990): عقدة التدخُّل السوريّ

تصاعَدت الخلافاتُ بين التيّارات والتنظيمات السياسيّة والطائفيّة اللّبنانيّة وصولاً إلى حدوث اشتباكاتٍ مسلَّحة واغتيالاتٍ لقادةٍ كِبار، ما أدّى إلى دخول قوّات ردْعٍ عربيّة انسحبتْ لاحقاً، مع بقاء القوّات السوريّة التي قامت بتدخُّلاتٍ ومُمارساتٍ عنيفة ضدّ الفصائل المُعارِضة للنظام السوري أَسفرت عن اغتيالاتٍ (اغتيال الزعيم كمال جنبلاط).

اتّفاق الطائف

كان لاتّفاق الطائف الذي تمّ توقيعه في تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام 1989 دَورٌ محوريّ في إنهاء الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، بدعْمٍ سعوديّ وإسهامٍ فاعلٍ من رئيس الحكومة اللّبنانيّة الأسبق رفيق الحريري؛ وقد أَقرّ هذا الاتّفاق ترتيباتٍ سياسيّة جديدة لتنظيم الحُكم في لبنان، لكنّه رسَّخَ النفوذَ السوريّ بشكلٍ أكثر وضوحاً، ما أَبقى لبنان تحت وصاية دمشق حتّى الانسحاب السوري في العام 2005.

مذكّرة التفاهم الأميركيّ - السوريّ (1990)

أسهمت مذكّرة التفاهم بين واشنطن ودمشق، نتيجة مفاوضاتٍ أَجراها جيمس بيكر وزير الخارجيّة الأميركي الأسبق وإدوارد جرجيان السفير الأميركي في دمشق آنذاك، مع النظام السوري برئاسة حافظ الأسد، في تعزيز الوجود السوري ببُعدَيْه العسكري والسياسي في لبنان، مع شروط واضحة لضمان استقرار البلاد، منها منْع الاحتكاك مع إسرائيل، وتحديد خطٍّ فاصل لوجود القوّات السوريّة، وضمان الحريّات الاقتصاديّة والإعلاميّة والنُّظم التعليميّة اللّبنانيّة.


الوضْع اللّبناني في ظلّ التدخُّل السوريّ

على الرّغم من شروط التدخّل، فقد تجاوزتِ القوّاتُ السوريّة في لبنان دَور الوسيط، إذ بدأ النظام في دمشق بتأسيس نفوذٍ سياسي واقتصادي واسع له، بما في ذلك اختيار رئيس للجمهوريّة، وفرْض أجندته الإقليميّة، وتشكيل تحالُفات مع القوى اللّبنانيّة وفْق مصلحته، الأمر الذي أدّى إلى تعميق الانقسامات السياسيّة والطائفيّة، بحيث أصبح لبنان خاضعاً عمليّاً لوصاية نظام الحُكم السوري.

أ. المجلس الأعلى السوري اللّبنانيّ

استناداً إلى مُعاهدةٍ تمّ توقيعها بين البلدَيْن سُمّيت معاهدة "الأخوّة والتعاوُن والتنسيق" بتاريخ 22 /5 /1991، تمّ إنشاء مجلس أعلى سوري - لبناني مركزه دمشق، تولّى أمانته نصري الخوري، أحد قيادات الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأَخذ يترأّس اجتماعاته الدوريّة وفق توجيهاتِ النظام السوري عبر المسؤول الأمني السوري في لبنان.

ب. اغتيال الرئيس رفيق الحريري

في 14 شباط/ فبراير 2005، تمّ اغتيال رئيس الحكومة اللّبنانيّة الأسبق آنذاك رفيق الحريري بتفجير شاحنة مفخَّخة في بيروت. وقد ربطَ كثيرون عمليّة الاغتيال بالنظام السوري بحُكم وجود قوّاته وسيطرته الأمنيّة المنتشرة في مختلف المناطق اللّبنانيّة مع نفوذٍ كامل. وهو ما أَثار غَضَباً عارماً مع ضغطٍ دوليّ على الوجود السوري، أَجبره في النهاية على سحْبِ قوّاته. إلّا أنّ نفوذ النظام السوري في لبنان بقيَ فاعلاً بطُرُقٍ غير مباشرة عبر "حزب الله" بشكلٍ خاصّ.


فرصة لإعادة البناء السياسيّ

مع سقوط نظام الرئيس بشّار الأسد مؤخَّراً، وتصاعُد المطالب الشعبيّة بالتغيير في سوريا، تَقف العلاقات السوريّة – اللّبنانيّة الآن أمام مُفترقِ طُرقٍ جديد. إنّ مثل هذه السانحة تُمثّل فرصةً تاريخيّة لإعادة صوْغ العلاقة بين البلدَيْن على أُسسِ جديدة. ولتحقيق ذلك، يُمكن اتّخاذ الخطوات الآتية:

1. إعادة تقييم المعاهدات الثنائيّة. من الضروري مراجعة اتّفاقيّة المجلس الأعلى السوري اللّبناني للتأكّد من أنّ العلاقات تقوم على المصالح المشتركة بدلاً من الهيْمنة.

2. تعزيز الديمقراطيّة والاستقلاليّة. لبنان وسوريا بحاجة إلى تعزيز تجربة الدمقْرطة وبناء مؤسّسات سياسيّة تُمثِّل إرادة شعبيْهما، بعيداً من تدخّلات القوى الإقليميّة التي أَسهمت في تعميق الانقسامات.

3. تحقيق مُصالَحة وطنيّة شاملة

يُمكن للبلدَيْن أن يبدآ بمُصالحةٍ داخليّة لكلّ منهما، تشمل تعزيز الهويّة الوطنيّة، ومُحاربة الطائفيّة استناداً إلى مفهوم المُواطَنة، ودعْم المؤسّسات المستقلّة، ما يَخلق أرضيّةً صلبة لعلاقاتٍ ثنائيّة مُتوازنة.
وبدلاً من أن يكونا ساحةً للصراعات الإقليميّة، يُمكن لسوريا ولبنان أن يتحوّلا إلى أنموذجٍ للتعاوُن العربي والإقليمي. يتمتّع البَلدان بتراثٍ ثقافي وتاريخي غنيّ يُمكن توظيفه في بناء نظامٍ سياسي جديد يَعكس تطلّعات شعبَيْهما. كما أنّ تعزيز التكامُل بينهما يُمكن أن يُسهم في تقديم أنموذجٍ جديد للديمقراطيّة في عالَمِنا العربيّ. وعلى صعيدٍ أوسع، فإنّ تطوير دَور جامعة الدول العربيّة لتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين الدول العربيّة، يُمكن أن يكون جزءاً من الحلول التي تَضمن حماية سيادة الدول العربيّة ورغبات شعوبها.

فصل الكلام، إنّ التأخُّر في رسْم سياسة تعاوُن وثيق بين سوريا ولبنان سيعود بأضرارٍ جسيمة على الشعبَيْن الشقيقَيْن. تَقع المسؤوليّة على عاتق قادة البلدَيْن للعمل بشكلٍ جادّ وسريع على وضْعِ ميثاقِ تعاوُنٍ شامل يقوم على مصلحة البلدَيْن المُشترَكة، ويَعكس آمالَ شعبيْهما في الدمقْرطة والاستقرار.

بهذه الرؤية، يُمكن لسوريا ولبنان أن يُقدِّما دَرساً جديداً للعالَم العربي في المُصالَحة والبناء المُشترَك، ويُصبحا أنموذجاً يُحتذى به في تجاوُز آثار الماضي وبِناء مستقبلٍ أفضل.


*كاتب وأستاذ جامعي سوري